حول مؤتمر السردية الفلسطينية الذي دعت اليه وزارة الثقافة

د. أحمد رفيق عوض | فلسطين

المؤتمر الذي دعت اليه وزارة الثقافة وشارك فيه اكثر من اربعين باحثاً من سبع دول واستمر مدة ثلاثة ايام متواصلة في العاصمة الاردنية عمان، كشف بما لا يدع مجالاً للشك أن الحبكة التاريخية للمكان المشتهى والغامض الذي يسمى فلسطين- وسيظل كذلك الى ابد الابدين ودهر الداهرين- هي حبكة مجدولة بالأهواء والمصالح والأيدولوجيا والاساطير والاوهام، ومجبولة بالنصوص الدينية التي خصصت لهذا المكان مكانة ازلية جعلت منه الملتقى والمفترق، والمحشر والمنشر، والفصل والاصل، وحولته من مجرد مكان الى قيمة، ومن جغرافيا الى جهة روحية وموئل سماوي. لهذا، فهو مكان جاذب، وباهظ وبالغ الكثافة وفادح الجمال، يحتمل الاستعارة والمجاز ولا يرى بالعين المجردة او العقل البارد. وهذه هي اشكالية الحبكة وجماليتها في آن معاً.

وفي المؤتمر المشار اليه، والذي كان لي الشرف ان اشارك فيه واستمع الى كل ما قيل فيه، فإنني أسجل هنا هذه الملاحظات في محاولة لأجمال الصورة وتلخيصها: حيث كان جلياً ان سطوة وحضور الرواية التوراتية وانتشارها وتأثيرها كبيرٌ جداً، ذلك ان هذه الرواية كانت عصب البحوث للمدارس الغربية الاستعمارية وسداها ولحمتها، وان عمليات التحقيب والتحليل والقراءة للآثار كانت تتم بقصدية عالية وافكار مسبقة لم تراعِ الواقع قدر مراعاتها للأهداف الاستعمارية المعدة سلفاً. وكان جلياً من خلال البحوث والاوراق التي قدمت ان الجهد العربي الفلسطيني في هذا المجال كان محكوماً بالأسس والقواعد الغربية، وان من الصعوبة بمكان اجراء قطيعة معرفية كلية مع مثل هذه القواعد أو هذه المدارس.

اجمع الباحثون المشاركون -او معظمهم على الاقل- على بطلان الرواية الصهيونية الاستعمارية لتاريخ المكان المقدس، وهي رواية فرضت بالدبابة اولاً، ودوائر البحث المنظمة والمنسقة، ومئات الباحثين الغربيين الذين كانوا ينفذون برامج استعمارية تقوم على المركزانية الغربية التي لا تعترف بغيرها، الرواية الصهيونية الاستعمارية التي اسكتت الوجود العربي وتجلياته وشطبت ابداعاته المادية والروحية، واضاءت جوانب هامشية وابرزت الثانوي على حساب الرئيسي، وهكذا تم اختزال عمر فلسطين الممتد منذ اكثر من عشرين الف سنة في حكاية معظمها وهمي لا اساس لها. كيف يزيف التاريخ وتخترع الحبكات؟! هذا هو السؤال الذي يواجهنا جميعاً. فالهوية الوطنية لا تقوم على الوقائع فقط، الهوية الوطنية مخترع بشري جمعي يقوم على العصبية والارث المشترك والسرد القائم على وجدان عظيم.. الهوية الوطنية تفترض وجود اسطورة ونصوص وخصائص وصور نمطية ذهنية غير قابلة للكسر او حتى التفسير.. في المؤتمر المشار اليه، حاول المشاركون ان يثبتوا بالدلائل القاطعة ان الرواية الصهيونية التي وزعت الاسماء والصفات والاعمار والاحداث بما يوافق الهدف الاستحواذي الاستعماري ليست صحيحة، اذ ان فلسطين – كأسم ووجود حضاري سبقت ظهور جماعة اليهود بالاف كثيرة وذلك من خلال نقوش مصرية وغيرها، لماذا شطبت تلك الحقائق ولماذا تؤخذ بعين الاعتبار؟! وهذا سؤال يعيد الامر الى مبتداه، إذ أن الاوهام اقوى من الحقائق عند الشعوب والجماعات، وان التاريخ ايدولجيا وليس اركيولوجيا، وهذا يعني ان بناء سردية فلسطينية لا يتم حصراً من خلال ابحاث علمية فقط بل من خلال كثير من الوجدان. الوجدان غير المكتوب بل الوجدان الذي يعمق مفهوم القداسة والبركة واستخلاف الارث والارض والمستقبل.

وقد ظهر في مداولات المؤتمر هذا الامر بشكل جلي، او على الاقل هذا ما لمسته انا شخصياً، اذ ليس هناك حقيقة تاريخية ناجزة ونهائية، هذا اولاً، كما ان من الخطأ الفادح أن نحاسب التاريخ بمفاهيم ومنطلقات صراعنا الحالي مع الصهيونية والتوراتية الحاخامية، هذا ثانياً كما ان التاريخ لا ينحاز لأحد، فكل الأمم والشعوب فيه سواسية، وهذا يعني انه لا يجب استبعاد او الغاء اية مجموعة او جماعة، وهذا ثالثاً اما رابعاً فإن سنن التاريخ تقوم على المداولة، كما قال رب العالمين، وهذا يعني ان لا احد يمتلك ناصية الزمن او ابدية الحضارة، فالامر يقوم على المشاركة والتعارف وتناقل المعرفة وتطويرها. كان واضحاً في المؤتمر انه لا يمكن كسر عنق التاريخ من اجل ان البحث عن ” فلسطنة” المكان بالقوة، كما لا يمكن اسلمة او تعريب التاريخ للحصول على استنامة عقلية او وجدانية او وطنية. ان الرؤية الصهيونية التوراتية وخصوصاً الرؤية الحديثة التي اقترحها كل من ابراهام كوك وابنه خلال القرن الماضي من مزج إلهي بين الارض والشعب والتوراة وجدت قبولاً واسعاً بين الصهاينة وترجمت حالياً الى يهودية الدولة وعنفها ورفضها لاي نوع من التسوية. ما قام به هذا التيار هو بالضبط انه حول الارض وتاريخها ومدعيها من الصهاينة الى مقدس لا انفصام له ولا نقاش ولا نقض. الحبكة الصهيونية هذه تتجاوز حتى الحبكة التي قدمها اوائل المستشرقين ورواد البحث التاريخي في القرن التاسع عشر. هل نحتاج نحن- كعرب وفلسطينيين- رؤية مثل هذه للرد والمواجهة؟! وهل نحتاج الى كثير من التاريخ لاثبات احقيتنا في المكان؟! وهل نحتاج الى معرفة ام الى منهج للمعرفة؟

بكلمات اخرى، هل نحتاج الى سردية معرفية ام الى منهج وجداني لتشكيل سردية مكثفة، ومجمعة وذات تأثير فعال على الجميع؟

سيقول قائل ان هناك كم هائل من المعلومات التي تقدم لأجيالنا من خلال وسائل الاعلام وحتى مصطلحات السياسية والحياة العامة هي ترداد خاطيء لحضور الرواية التوراتية ولا بد من مواجهتها. ولا بد من التصدي لطغيان المصطلح الاستعماري والمسلمات الذهنية الخاطئة، وهذا ما اشارت اليه بعض الابحاث التي قدمت في المؤتمر، وهذا صحيح، ولا بد من معالجته ومحاصرته، ولكن اليس من الصحيح ايضاً ان التسمية هي نوعه من السيطرة ان لم تكن كلها. وقد كان واضحاً في المؤتمر ان السردية الفلسطينية القديمة كما الحديثة، لا يصوغها الا الفعل الحضاري والمشاركة الفعالة، وان الهوية الوطنية لا يؤطرها سوى المقاومة بأشكالها وانواعها.

شكل هذا المؤتمر خطوة ضرورية اولى من اجل فتح الباب على مصراعيه للبحث والحفر والتنقيب عن خصائص الهوية الوطنية الفلسطينية التي تم صياغتها في المكان المقدس والمتداخلة مع المنطقة بأكملها بما فيها من شام وعراق ومصر وحضارات الجزيرة العربية واسهاماتها. فالهوية الوطنية الفلسطينية الحالية ما هي الا نتاج ارث طويل وطويل جداً من تناسل وتواصل من سكن هذا الارض، ولا يضرنا ان كان هذا الذي سكن هنا كان عربياً ام رومياً ام فارسياً، فالتاريخ ارادة الله وسنته في الارض يبتلي فيه الافراد كما الجماعات ويمحصها وهم سواسية لا يفرق بينهم سوى الصلاح والتقوى. أي ان الشعوب تذكر بتجاربها ومشاركتها لا بأحقادها وجرائمها.

مؤتمر وزارة الثقافة اثبت الحاجة الى دراسة هذه الارض وتاريخها، وليس بهدف دحض روايات الاخرين- بغض النظر عمن هم، فقد تم نقض تلك الروايات بأقلام اصحابها اصلاً ونحن لا نقدم الكثير في هذا المجال- بل يأتي هذا المؤتمر خطوة اولى لتعميق الصورة النموذجية التي نحملها عن أنفسنا كشعب يبحث عن مكانته- وليس مكانه- بين الامم الحرة والسيدة في لحظة يحاول كثير من الابعدين كما الاقربين شطبه او تشويهه او شيطنته.

اخيراً، شكل هذا المؤتمر فرصته للبحث والتنقيب والتأطير لهوية مكانية وحضارية ضاربة في التاريخ، ولم يستطع أي غازٍ او مستعمر ان يمحوها على الاطلاق. وقد انتهى المؤتمر الى اقرار ان الشعب الفلسطيني هو جزء من امة عربية غنية وعريقة تفاعلت مع حقب التاريخ المتعددة بكفاءة عالية من خلال لغتها الثرة وعاداتها ووجدانها الذي استمر وتواصل حذفاً واضافة، وشكل رافعة للبقاء والصمود الى يوم الناس هذا.

ومن المتوقع، ان يصاحب كل خطوة من هذا النوع، النقد او الاحتجاج او حتى عدم الفهم المقصود او غير المقصود وقد اثبت وزير الثقافة الدكتور عاطف ابو سيف جديته ومسؤوليته في تحويل الرؤية الحكومية الى سؤال ثقافي ومسؤولية جماعية يشارك فيها اطراف عديدة في الوطن وخارجه وهو ما يحسب له.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى