حالة المفكر والمثقف والقارئ العربي
بقلم : عماد خالد رحمة ـ برلين
من الواضح تماماً أنّ النخب المثقفة في عالمنا الثقافي العربي قد فقدت مصداقيتها، بفقدانها تأثيرها وفاعليتها الإيجابيين في الميدان الثقافي والفكري في آن معاً. وهذا أمرٌ طبيعي مقارنةً بما قدمته «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (اليونسكو) من أبحاثٍ ودراساتٍ متخصصةٍ في هذا الشأن، والتي تؤكِّد بأنَّ متوسط القراءة لا يتجاوز لدى الفرد في العالم العربي ست دقائق سنوياً، في المقابل يبلغ متوسط القراءة في الدول الأوروبية نحو مئتي ساعة سنوياً على أقل تقدير. ووفقاً لدراسة قدمتها لجنة (الكتاب والنشر) المنبثقة عن «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (اليونسكو) فإن وطننا العربي ينشر نحو 1650 كتاباً سنوياً، بينما تنشر الولايات المتحدة الأمريكية وحدها نحو خمس وثمانون ألف كتاب سنوياً.وهذا يؤكِّد أنها احتلّت المرتبة الأولى في العالم من حيث حجم القراءة التي تصل إلى معدل وسطي نحو أحد عشر كتاباً للفرد الواحد سنوياً وفي المملكة المتحدة سبعة كتب للفرد ،وذلك حسب تقرير «اليونسكو».
في وطننا العربي تم تقدير نسبة القراءة بأنَّ كل ثمانين فرداً يقرأون كتاباً واحداً في العام وفقاً للجنة (الكتاب والنشر) . وهذا يعني أنَّ المواطن العربي أصبح بينه وبين فعل القراءة (الإحسان والخير) كما يقال. وهنا نتساءل عن المثقف العربي، هل أصبحت القراءة والإبداع لديه تشكِّل عملية تكرار دون تدقيقٍ أو مراجعةٍ أو تمحيص، بمعنى آخر أنَّه يقوم بتدوير ما تمَّ إنتاجه مسبقاً ليبدو للقارئ أنه منتج فكري وثقافي جديد . لقد قرأنا عشرات الكتب بل مئات الكتب التي تمت بهذه الطريقة. وهذا ما أسس لفكرة انتشرت كالنار في الهشيم بين أوساط القرّاء والمثقفين وأشباه المثقفين (إنّ ما يمكن أن يقال كان قد قيل) وهذا تعبير عن هشاشة المعرفة ونقص الإبتكار والإبداع . من هنا غصَّت المكتبات العربية وامتلأت رفوف القرّاء بالكتب المدوَّرة .
إزاء ما يشير إليه المأزق الفكري والثقافي النهضوي العربي ثمة من يلقي اللوم والتهم والتبعة على المفكرين والمثقفين العرب، متهماً إياهم بالعجز والقصور أو بالاغتراب، والنخبوية الفكرية والثقافية والمعرفية والابتعاد عن قضايا الناس وهمومهم وتطلعاتهم وحالة التأدلج الفج المباشر والذي يمكن
أن يقَدَّم بشكل شبه قسري، من خلال الترويج له والرفع من شأنه على حساب قضايا أهم. وهذا يدفعنا لأن نطرح موضوع إعادة التفكير من جديد في علاقة المفكِّر والمثقف بالمجتمع ودوره الهام في الارتقاء به إلى الأعلى من خلال إبداع رؤية فكرية وثقافية نهضوية عربية تجديدية. وهكذا فإنَّ الفكر والثقافة العربيين اللتان كانتا قد وصلت إلى مستوىً مرموق يشهد له العالم أجمع، انحدرتا ولا تزالا جامدتين ومتكلِّستين ، وغير متفاعلة مع العصر الحديث وتطوراته ومتغيراته، تجترّ نفسها دونَ مراجعةٍ أو دونَ تدقيقٍ أو مراجعةٍ أو تمحيص. وفق نمط وسياق معيَّن من دون القدرة على تجاوز بنية فكرية أو معرفية عقلية معيَّنة. وفيما تم محاولة إعادة الانسداد الحضاري التاريخي العربي الإنساني الذي نعانيه نحن العرب إلى أسباب ثقافية وفكرية ، فقد اعتبر بعض المفكرين أنَّ مشكلة المثقف هي في الدرجة الأولى مع مفاهيمه وأفكاره وما يطرح من آراء وقضايا، وأنَّ المثقفين العرب تخلوا بشكلٍ لافت عن الفكر النقدي الجاد في مرحلةٍ ما لانعدام جرأتهم وخوفهم من الآخر، ورأى غيرهم أنَّ المثقفين العرب بشكلٍ عام لم يبادروا عملياً إلى نسج سياقات فكرية وأطرعقلية تحقِّق الأمن الفكري والثقافي والاجتماعي.
في هذا السياق يجدر بنا القول إنَّ الفكر والثقافة العربيين المعاصرين يحتويان تراثاً تنويرياً حقيقياً أسهم في كتابته وصياغته وتطويره وتحديثه كتَّاب وأدباء ومثقفون ومبدعون وفنانون عاشوا خلال القرن العشرين الماضي معنا وبين ظهرانينا، أو احتضنتهم المنافي حين ضاقت بهم الأوطان، من هناك بدأوا بالعمل من جديد أو استكمال ما بدأوا به في بلدانهم لكن بحرِّية أكبر. لقد عاش التنويريين في القرن العشرين مأساةً رومانسيةَ حلم ورقي وتقدّم العرب وتطوِّرهم، تلك الرومانسية كانت كامنة في غياب دورهم المجتمعي وفاعليتهم، وما رتبَّه ذلك من حالاتٍ نفسية وعقلية شديدة السلبية. بدأت بالتعامل مع الواقع المعاش بطريقةٍ بعيدة عن الجديّة والموضوعيةِ، واتسمت بالتعامل مع الواقع الموضوعي المعاش بسخريةٍ واضحةٍ رافضةً التغيير والتحديث والتطوير، ومرَّت بالرؤى البوهيمية العدمية والضعف والعجز ومحاولة إرضاء وإشباع رغبات (الأنا) بحلول فردية أو شخصية يلفظها الضمير الإنساني الحي ولا يقبل بها أبداً . وانتهت بشعورٍعميق بالضياع والفقدان والعجز والرغبة في مواصلة الطريق حتى النهاية دون مراجعةٍ أو توقف ،والاستسلام لمصائر الطغيان والقهر والاستبداد والتأخر المؤكد .
لقد اعتاد المفكرون والمثقفون في حواراتهم العربية الساخنة ونقاشاتهم الجادَّة في مجال النهضة العربية على تفسير مأساة المفكر العربي والمثقف العربي مشيرين إلى فقط إلى عوامل مثل طغيان واستبداد وهيمنة الحكومات السلطوية التي تحتقر التفكير الحر والطاقات الإبداعية الكبيرة وتنتقص من المثفقفين، وهيمنة المؤسسات والإدارات والهيئات والجمعيات التقليدية القبلية والعشائرية والأبوية التي تعمل على وضع العصي بالعجلات ، وإعاقة عملية التغيير نحو الأفضل. غير أنَّ نقد الحكومات السلطوية المستبدّة التي تمارس الطغيان والفجور والتقاليد البالية ضد المفكرين والمثقفين ، وعلى الرغم من محوريتهِ وأساسيتهِ وأهميتهِ ، لا يمثل في هذا السياق سوى وجه واحد من وجهي العملةِ المتداولةِ وهو الوجه الباهت . أما الوجه الآخر فيرتبط بالمفكرين والمثقفين العرب أنفسهم ورؤيتهم وأفكارهم وتطلعاتهم الذاتية لموقعهم وحدود دورهم الحقيقي المنشود.
في هذا السياق يمكننا أن نطرح العديد من التساؤلات المشروعة حول أسباب عجز المفكرين والمثقفين التطوير والتغيير ودعاة التنوير العرب عن مقاومة الاستبداد والطغيان الذين يعيشون بين ظهرانينا، ومواجهة الحكومات المستبدة والسلطوية؟ والهدف هنا في هذا السياق ليس مجرَّد وجود أصوات نقدية لمفكرين ومثقفين عرب يهدفون إلى تحقيق التقدّم والتطوّر ويطالبونَ بالتغيير الديمقراطي، فبلداننا العربية لم تعدم مثل تلك الشخصيات وهذه الأصوات بكل تأكيد. بل المقصود هو حضور مفكرين ومثقفين مرموقين يستطيعون الانتقال بنقدهم وآرائهم وما يطرحونه من مفاهيم وأفكار إلى مرحلة ثانية عمادها الأساسي الفعل السياسي السلمي الفاعل في الواقع لإحداث التغيير والتحديث والتطوير المنشود.و تحويل الفكر والثقافة إلى حقيقة مجتمعية تخص جميع أفراد وشرائح وجماعات المجتمع ، بغض النظر عن احتمالات تحقيق النجاح أو الفشل، وهو حلقة مفقودة في بلداننا العربية التى لم تَسِر بعد على طريق البناء الديمقراطي الحقيقي السليم. وتحويل الفكر إلى حقيقة مجتمعية يساهم في خدمة الجميع هو الذي يضفي على أصوات المفكرين والمثقفين النقديين المصداقية القيمية الكبيرة والشرعية الأخلاقية التي تستطيع تحريك المواطنين بكل فئاتهم وشرائحهم الاجتماعية للمطالبة السلمية بالتغيير على معظم الأصعدة . وتحويل الفكر العربي الحر إلى حقيقة مجتمعية خالصة هو ممارسة للسياسة والفكر السياسي تتجاوز بشكلٍ صريحٍ وواضح صياغة البيانات والمخططات التي تنادي بالديمقراطية، وكتابة الدراسات والمقالات وإصدار التقارير الناقدة للحكومات السلطوية الطاغية المستبدة.
إنَّ ما نملكه من قناعةٍ كبيرةٍ يؤكِّد أنَ الضعف والعجز عن مقاومة الطغيان والاستبداد ، وعن الوقوف سلمياً فى وجه الحكومات السلطوية الطاغية والمستبدة طلباً للتغيير والتحديث والتطوير دون فوضى أو هدم أو خراب إنما يتعلَّق، من جهةٍ أخرى ، بإيمان أغلبية المفكرين والمثقفين العرب بكون الدولة الوطنية ومؤسساتها وإداراتها وهيئاتها ، وليس المجتمع وفعالياته ونشاطه، هي الوحيدة القادرة على إحداث التغيير البنيوي الجذري ،وبما أنّنا نعلم بأنَّ باب الديمقراطية إنما ينفرج قليلاً فقط من خلال إقناع الحكومات والسلطات ونخبها الضالة بجدوى التحوّل الديمقراطي وضرورته المستحقة. أما عندما ترفض تلك النخب الضالة أي عملية تغيير أو تطوير أو تحديث وتتمسَّك بقوّة بامتيازاتها الشخصية ، وذلك هو حال النخب العربية المفكرة والمثقفة التي فَقَدَ معظمَها البوصلة والوجهة ،خاصةً في أعقاب الانتفاضات الشعبية في معظم دولنا العربية التي جرت في ربيع ٢٠١١م، فتنزع أغلبية المفكرين والمثقفين العرب إلى الإستكانة والخنوع ورفض التغيير بكل صوره وأشكاله خوفاً من الخراب والهدم والفوضى العارمة التي ممكن أن تصيب البلاد وتجنح إلى تفضيل أوضاع الطغيان والاستبداد والهيمنة السلطوية والاستقرار المجتمعي على ما كان عليه، الذي تَعِد به على حساب طلب إقرار الحريات وحقوق الإنسان وحق الرأي والتعبير وحرية الرأي الآخر، وسيادة القانون والتداول السلمي للسلطة. ومن جهةٍ أخرى، نجد أنَّ عدد كبير من المفكرين والمثقفين العرب تتملَّكهم نظرةً ذاتيةً لموقِعِهم ودورهم الهام في المجتمع والدولة قوامها الانفصال عن خريطة القوى المجتمعية واستطالاتها وتشعباتها. لا تعرف أغلبية المفكرين والمثقفين العرب هويتها النقية الصافية على نحوٍ يرتبط عضوياَ بالمجتمع وواقعيته وحقائقه وطموحه وآماله، بل تشدِّد على الانفصال الزماني والمكاني عن المجتمع وبنيته الذي تم وصفه بأنَّه مجتمع (رجعي) و(متخلف) و(متأخِّر)، وغير ذلك من التوصيفات والتشبيهات السلبية المرفوضة والغير مقبولة على الإطلاق. تنتشر عبارات مثل (أنا كمفكِّر)، (أنا كمثقف) وأقوم بدورٍ هام جداً في الوطن ،ودوري هو النقد والتحليل والاستقصاء وتبيان الحقائق، والعمل المجتمعي على الشعب واحتياجاته واستحقاقاته، وليس على مواجهة الحكومات السلطوية الطاغية المستبدة، بل فقط توعية وتوجيه الناس بضرورة الطلب السلمي على التحوّل الديمقراطي والسلمي بعيداً عن العنف، في أحاديث مفكري ومثقفي التغيير والتحديث والتطوير ودعاة التنوير العرب، يتم تعميم ونشر الفهم الطليعي المزيَّف لدور المفكر والمثقّف وأهميته ومسؤولياته وما يترتب عليه في التحليل الأخير، وما وصلت إليه نتائج آرائه ومواقفه، تواصل الجمود المجتمعي وفقدان فاعليته ،وفشل مساعي التغيير والتحديث والتطوير .