الفيض الفكري في رواية ” سوق الملح ” للروائي عمر سعيد
محمد عبد الرحمن عرموش | ناقد
لن أدعي أنني قارئ نهم للروايات الأدبية، ولكنني أستطيع أن أدعي أنني قرأت لروائيين كبار سطرهم التاريخ في سجل الخلود؛ لأنني بطبيعتي أميل أكثر إلى الكتب الفكرية والفلسفية، رغم الجفاف اللغوي والصياغي في هكذا كتب، ورغم الإجهاد النفسي، الذي تستلزمه في الفهم والإدراك والتحليل والتركيب والتشريح والتمحيص والتدقيق، وو.. على عكس الفن الروائي المرتكز على السرد، والزمكانية، والأشخاص، والحبكة، و العقدة، والحل؛ وبالتالي الروايات، والانزياح، والمقصود بالانزياح الأسلوب اللغوي والجمالي والبلاغي، الذي ينزاح نحو الخيال بدرجة العمق السردي.
وبالرغم من أن العمل الروائي هو من أصعب الفنون الأدبية؛ لكن مقومات السرد لما تحمله من تشويق وإثارة، وتفاعل، وانسجام، ومفاجأت، وألم، وصراع، ووداع، وهواء، وغذاء، وضحك ونحيب ..الضعف الخوف القوة الإيمان الكفر النعيم الشقاء، الثورة الخضوع، وو.. إلا أن القارئ، ينسجم، ينفعل، يتفاعل، يترك الرواية جراء الانهاك الجسدي، وهو متشوق للعودة إليها، منتظرًا المفأجآت التي تمثل الأس الاساسي في الرواية، والأسلوب السردي. بالمجمل يستلزم لغة رشيقة بعيدة عن التعقيد وبعيدة عن الأدوات العلمية والفلسفية؛ لهذا غالبا ما كنت أنهي أكبر رواية بيومين أو ثلاثة؛ وقلما أنهي كتيب فكري بعشرة أيام، وغالبا ما أعود إليه، لأستذكر أفكارًا عبرتني.
أما أن تقرأ رواية تجمع المجد من طرفيه، رواية تحمل كل مقومات الرواية، ومتعددة الأغراض من اجتماعية، وسياسية، ودينية، وتاريخية، بلغة العمل الروائي ورشاقته، وبساطته، واخيلته، وصوره المعتمرة، بالإبداع، وتحمل بين سطورها، وفي متن صحائفها أطروحات فكرية، طالما يلهث ورائها كل من يتعاطى الشأن الفكري، ويجوب في كتب المفكرين. يقلب صحائفهم، ويقرأ مئات الصفحات ليخرج بأفكار سردها الروائي عمر سعيد في روايته الأكثر من رائعة “سوق الملح”…ربما تجلت عبقرية عمر سعيد في هذه الرواية الممتعة في أن شخوص روايته الأساسيين، كانوا ظواهر ثقافية وفكرية يتمتعون بذكاء حاد وبتراكم معرفي وهم من أكثر الشرائح الاجتماعية في سجننا العربي الكبير ظلماً، واضطهادًا، وتخلفًا، وفقرًا، وعوزًا.
غاص في زمكانيته في حقب تاريخية متعددة ونقب أركيوجيا في تاريخ اليمن، الذي كان حاضرة مدنية ومعمارية، وسوق الملح الذي كان ادأهم الأسواق التجارية، في العالم في تاريخيته.. جاب في جغرافية الوطن العربي من اليمن إلى عمان إلى لبنان إلى سوريا إلى السعودية. استعرض الصراع الطبقي والهوياتي، والعشائري، والديني، وسطوة الإيمان الظلامي، وانتقل إلى جغرافية استرالية حيث سيدرس هناك بطل روايته علي الطب، ليجد نفسه في محيط قائم على الهدالة، والمساواة، والقيم الإنسانوية، وتقييم الإنسان بأخلاقه، وإنجازاته بمعزل عن هويته القبلية والعشائرية والقومية والإثنية، والدينية وو..
لم اقرأ في حياتي رواية مرتين.. سوق الملح هي الرواية الوحيدة التي قرأتها مرتين، وعدت إلى بعض صحائفها مرات؛ ليس بحثًا عن التشويق والإثارة، وليس بحثا عن توالي الأحداث والمفاجأة، وتلك الأعراض حققتها الرواية لي من قراءتي الأولى؛ لكن بحثًا عن الإشعاعات الفكرية، والتنويرية المضيئة، في هذه الرواية، التي تكاد لا تخلو صفحة من صفحاتها منها؛ ليس من باب الترويج، ولكن من باب الحرص على الاستنارة بالفكر العقلاني؛ أنصحكم بقراءة هذه الرواية، عسى أن تجدوا فيها رسائل نور.