بدون مؤاخذة.. بين السّنّة والشيعة ستضيع الأمّة
جميل السلحوت | القدس- فلسطين
من البدهيات أنه عندما تدبّ الخلافات داخل شعب أو أمّة، فإنها تضعف وتصبح نهبا للطامعين، فمنذ الجاهلية عندما كانت تتناحر القبائل العربية، أصبحت نهبا لإمبراطوريتي الفرس والروم، وبعد مقتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، نشب خلاف حول أحقية أهل البيت في الخلافة دون غيرهم، وما أعقبها من فتنة أودت بأرواح الآلاف ومن ضمنهم الخليفتان عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب وولداه الحسن والحسين، رضي الله عنهم أجمعين، وقد طرحت أسئلة كثيرة منذ ذلك التاريخ وحتى أيامنا هذه الهدف منها إشغال الأمة عن قضاياها المصيرية، منها: هل الملائكة ذكور أم إناث؟ وهل الإيمان بالعقل أم بالقلب؟ وهل هناك عذاب في القبر أم لا؟ …الخ.
وفي العصر الحديث وعندما قام طبيب من جنوب افريقيا بزراعة قلب لمريض للمرة الأولى في بداية سبعينات القرن الماضي، طرح أحدهم سؤالا حول زراعة قلب مأخوذ من غير مسلم لمسلم، هل يسلم صاحب القلب المتوفي لأن قلبه امتلأ بالإسلام في جسد المسلم المزروع فيه؟ والعكس أيضا هل يعتبر المسلم المتوفى مرتدا إذا ما زرع قلبه في جسد غير مسلم؟ وانبرت الردود والفتاوى تشغل وسائل الاعلام العربية في وقت كانت وسائل الاعلام العالمية الأخرى تتحدث فيه عن أخبار حرب أكتوبر 1973.
والاستعمار الذي يتلون كالحرباء لإحكام سيطرته على الوطن العربي تحديدا لثرواته النفطية، جزّأ العالم العربي الى دويلات بعد الحرب الكونية الأولى التي هدم فيها دولة الخلافة، وتقاسم هذه الدويلات لتكون نهبا ومناطق نفوذ له، وفي محاولة من الاستعمار الغربي للتفرد بالسيطرة على العالم فقد استخدم الأنظمة العربية والتيارات الدينية الاسلامية لمحاربة الاتحاد السوفييتي والدول الدائرة في فلكه، وكانت وسائل الاعلام الغربية تعتبر الاسلام(الجدار الواقي من الخطر الشيوعي) حتى أن تنظيما مثل “القاعدة” لقي تمويلا وتدريبا عسكريا من دول عربية واسلامية بمساندة أمريكية لمحاربة السوفييت عند احتلالهم لأفغانستان في آواخر سبعينات القرن الماضي، وقبل انهيار المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي، لجأت الامبريالية الى تغذية الطائفية الدينية بين المسلمين والمسيحيين، فكانت الحرب الأهلية في لبنان التي اندلعت في العام 1975 وأحرقت الأخضر واليابس في ذلك البلد الجميل…وتمّ التحالف بين اسرائيل من جانب، وبعض القوى المسيحية اليمينية في لبنان مثل ” الكتائب والوطنيين الأحرار وحراس الأرز” من جانب آخر، وظهر هذا التحالف جليا أثناء الغزو الاسرائيلي للبنان في حزيران 1982، وذلك لإخراج فصائل منظمة التحرير من لبنان، وتحجيم القوى الوطنية اللبنانية، والعمل على اخراج الجيش السوري من لبنان، وتجلت الأحقاد الطائفية بأبشع صورها في مذبحة مخيمي صبرا وشاتيللا.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومجموعة الدول الاشتراكية في بداية تسعينات القرن الماضي، وانتهاء الحرب الباردة، بحث الاستعمار العالمي عن عدوّ جديد، فوجد ضالته في الدول العربية، والاسلامية، وظهر كتاب(صراع الحضارات) لصموئيل هنينجتون رئيس مركز الدراسات الاتراتيجية الأمريكي، والذي اعتبر الصراع صراعا دينيا، وأن عدوّ “الديموقراطيات” الغربية يتمثل في الإسلام كدين، وهكذا تحول الإسلام من ( جدار واقٍ من الخطر الشيوعي) الى العدوّ رقم واحد. وبدأت الحرب الشرسة على الاسلام على مختلف الأصعدة، ووضعت المخططات لتدمير الدول العربية والإسلامية الشرق أوسطية من الداخل، فلم تعد إثارة الحرب الطائفية بين المسلمين والمسيحيين العرب كافية لإعادة تقسيم الشرق الأوسط، مع أنها لم تتوقف، فإثارة الطائفية بين الجنوب السوداني ذي الأغلبية المسيحية، وبين الشمال ذي الأغلبية الإسلامية لم تتوقف حتى تقسيم السودان وانفصال الجنوب عن الشمال، وكذلك التمييز ضد الأقباط في مصر والاعتداء عليهم، والتي شاركت فيها أجهزة نظام حسني مبارك المخلوع –كنز امريكا واسرائيل الاستراتيجي-، واستعملت فيها بعض التيارات والجماعات الإسلامية عن قصد أو دون قصد، فالنتيجة واحدة.
وتمثل استهداف العالمين العربي والاسلامي بأشكال مختلفة، منها احتلال العراق في العام 2003 بعد تدميره وهدمه كدولة، وتقسيمه الى طوائف وأعراق متناحرة، مع استهداف المسيحيين والزيدين والتركمان وغيرهم، والسماح لإيران بمدّ وتقوية نفوذها في العراق لمنعه من بناء دولة قومية قوية، والتمهيد لتقسيمه الى دويلات، وأصبح هذا البلد ملعبا للطامعين الذين يحاولون تأمين مصالحهم فيه على حساب العراق الوطن والشعب.
وللتذكير فقط فإن العراق لم يعرف الطائفية الدينية في تاريخه المعاصر على الأقل، ففي انقلاب 14 تموز 1958 على الملكية، والذي قاده عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، لم يعرف العالم أن الأول سنّي والثاني شيعي إلّا بعد احتلال العراق في العام 2003، وأصبح الحديث يدور عن الحكومات التي يرأسها شيعي، وبدأت الأبواق الاعلامية تتنافح للدفاع عن السنّة، وهذا أمر مستهجن، فمن حق أيّ عراقي أن يتولى رئاسة الدولة والوزارة إذا ما انتخبه الشعب، ووجد فيه الكفاءة والحرص على مصلحة الوطن والمواطن.
ورافق ذلك حملة على الشيعة في لبنان، وتحديدا على حزب الله وحركة أمل كون قيادتهما من الشيعة، مع أن خطابهما سياسي وليس دينيا، وجرى تقوية تيار المستقبل”السنّي” وتحالفه مع أحزاب اليمين المسيحية لتحجيم القوى الشيعية، والهدف طبعا هو سياسي لا طائفي، مع أن الدستور اللبناني يكرس الطائفية.
وفي سوريا التي تعيش مرحلة خطرة سقط فيها أكثر من عشرة آلاف مواطن حتى الآن يركز الاعلام على الطائفة العلوية التي ينتمي اليها الرئيس بشار الأسد، ويصور البعض الصراع بل ويغذونه على اعتبار أنه صراع “سنّي شيعي” مع أن الهدف هو تدمير سوريا وتجزئتها لإخراجها من دائرة الصراع مع اسرائيل، ولفكّ تحالفها مع ايران، ومن أجل القضاء على المقاومة اللبنانية المتمثلة بحزب الله وحلفائه.
وفي البحرين أيضا تجري تغذية الطائفية بين السّنة والشيعة مما يهدد استقرار الدولة وأمن مواطنيها.
واليمن أيضا شهد صراعا داميا بين الحوثيين الذين هم في غالبيتهم من الشيعة الزيديين، وبين السّنّة، كما توجد هناك قلاقل بين الشيعة والسّنّة في شرق المملكة السعودية وفي الكويت.
فلمصلحة من هذه الصراعات؟ وهل الأقلية الشيعية في البلدان العربية وُجدت حديثا أم هي منذ القدم؟ ولماذا تغذية هذه الطائفية الآن؟ وماذا يضير السّنّة وجود الشيعة؟ والعكس صحيح أيضا؟ وهل الدين لله والوطن للجميع أم لا؟ وأين التسامح الديني؟ ومن المستفيد من كلّ هذا؟
وللتذكير لمن يقرأ التاريخ ويتعظ، فإن ثقافتنا الأصيلة ترفض الطائفية(لا إكراه في الدّين) فعندما غزا الأوروبيون المشرق العربي في آواخر القرن الحادي عشر الميلادي أطلقوا على حربهم تلك”الحروب الصليبية”بينما أطلق عليها العرب والمسلمون”حروب الفرنجة” وعندما اضطهد الأوروبيون اليهود في القرون الوسطى وجدوا ملاذا لهم في الأندلس”اسبانيا” وفي الشمال الإفريقي تحت الحكم العربي الاسلامي، وهناك أنتجوا أدبا وثقافة، والتنوع الثقافي والعرقي إغناء لأيّ أمّة، فهل نتعلم من تاريخنا؟ وهل يتقي مشعلو نيران الطائفية والعرقية الله في شعوبهم وفي أوطانهم؟. أم أن مشروع الشرق الأوسط الجديد سينفذ بأيد عربية اسلامية؟