مأذون النّاحية

يكتبها : محمد فيض خالد

عهدناهُ يَتقلّب شتاء تَحت شَمس الظّهيرة الفاترة، كفحلٍ من فحولِ القرية العِظام، موفور الصحةِ، مستقيم البنيان، يُرسِل أنفاسه المكتومة وقد زمَّ شفتيهِ، تبدّى وكأنّما يستجدي أشعتها المتراخية، وخيوطها المهتزة؛ أن تنشب أظفارها بينَ حَنايا جسده المُترهل، تعوّد هذه النّومة مُنذ كانَ في سنتهِ النهائية، يفترش تراب المصطبة خارج البيت، يَظلّ هكذا حتى تُداعِبه يد والدته العَجفاء في تلطّفٍ وحسرة ، تنزوي فوق شفتيها السّود الأحزان ، وكآبة تتلبّد فتغمرَ سحنتها اليابسة، لقد أعدّت طعام الصباح، يُعاجلها مأزوما، يُتمّتم مُتَهدِّجَا، يتأفّف ويَسبّ الظُّروف التي تتَرصّد خُطَاه ، يكيل لعناته فوقَ رؤوسِ أهل القرية، الذين لا يأمن مكرهم ولا يتق وشايتهم ، التي ربّما حرمته أن يكون مأذون النّاحية، تمرّر المرأة كفّها فوقَ كتفهِ في استعبارٍ ، تُنبئ عن مرارةٍ، وغموض يكتنفان مستقبل الشّيخ الشّاب، بعد إذّ ارتكن لأملٍ قديم لا يبرحه، إن ما باتت تَخشاه أن يذهبَ الحزن بعقلهِ، بعدما بدأ الألم يتوضّح في مُحيّاه، فيزيد من شقوتهِ والتياعه .
منّى نفسه أيامَ الطّلب ، أن يحلّ محلّ الشيخ “نعمان” مأذون النّاحية، خاصة وأن صاحبنا يتجرّع مع شمس نهارهِ كؤوس المنية، قد انقطعت صلته بأسباب النّجاة، وهذا ما أحيّا ميت الأمل في نفسه المعذبة، يعتدل أمام مرآته المثبتة فوق الجدار، يعدّل في هندامه، وهو ينظر في جو الغروب المتوهج ، يهتف مأخوذًا بنظرةٍ عطوف: إنني أولى بها، فأنا الأزهري الوحيد في القرية .
تهتزّ أمه نشوة وطربا وهي ترمق بعينها الكليلة ، شال عمامته الحريري ، وطربوشه الأحمر المعلق منذ حولين في مسمارهِ خَلف الباب ، تماما كنشوتها البادية وهي تتسمّع من أخبار الشيخ العليل، عَاشَ أهل الدّار أسرى هذا الرّمق الآمل المتوهج، لم يكذّب والده خبرا وقد لطمه الطّموح، فتَحرّكت هِمّته فسارع في إعداد العدة ، ذاتَ صباحٍ تناوبت الأيّدي جُدرَان المندرة الخارجية طَلسَا بالطّينِ ، ثمّ اغرقت بالجير فتبدّت كأحسنِ ما يكون، استوت حولَ جدرانها الدِّكَك التي علاها بروازٌ كبير، توسّطته صورة الشّيخ الشّاب في هِندامِ المشايخ ، ويافطة كُتِبَ عليها بخطِّ النّسخِ آيات الكتاب العزيز ، أمّا الشّيخ فها هو يتنفس مروّحاً عن أساه ؛ فهامَ في أحلام يقظته يجترّ عصارة روحه، تتراءى لهُ أيادي النّاس تتخطفه بالسّلام، وهو يهزّ كتفيه استخفافا لِمَا يُدسّ في يدهِ من أجرة، يتربّع أمام طبليةٍ عامرة بالأطايبِ، غارقا بين صدور الأوز المحمّر، وأواني المرق الساخن طلبا لنوالِ رضاه، ومجلسه عامر بالوقارِ والهيبة، تنطلق الزغاريد تسدّ الأفقِ ، وتتطاير العصيّ تُلوِّحُ راقصة استبشارا لمقدمه الميمون، سريعا يعود فيصبّ جام غضبه فوقَ رأس المريض المتعثّر ، جلس يوما أمام “شحتة” المزين ، دسّ صاحبنا في أذنهِ من حيلِ الأبالسة: يتوجّب عليك زيارة أحد المسؤولين الكِبار ؛ كي يزكّي طلبك، لكنّك بحاجةٍ لهديةٍ قيّمة تليق بسعادة البيه، كانت بقرتهم الوحيدة القُربان هذه المرة، لم ينس نظرات أمه وفجعتها، حين طفرت من عينيها دمعة التقطتها بطرفِ خمارها، تشيّع البقرة والتاجر يسحبها من البابِ، ساعتئذٍ اعتلّ مزاجه فسبّ عجزه المطبق، مرّت أيامه كئيبة وهو بينَ شقيها غارقٌ بينَ يأسٍ ورجاء، ذات صباح ابتسم له طالع السّعد ، جاءه من يزف إليه تزحزح حجر عثرته، مات المأذون المريض ، وملأ الفضاء صراخ فقده، ظلّ جالسا في رزانةٍ وهدوء غير مصدق، هبّ بعدها ممشوق القوام، شامخ الهيئة منتشيا ، تجمجم شفتيهِ بنغمةٍ مختنقة، قفز داخل جلبابه” السّكروتة” ممسكا بمسبحتهِ الكوك ، غَابَ بياض نهاره في البندر ِ .
أعلن على الملأ أصَبحَ الشّيخ “محفوظ” مأذونًا للنّاحيةِ، سَارت بهِ الأيام حسب هواها، لكنها لم تغيّر من طباعهِ في شيء، اللّهم إلّا جُحودا وشراسة، وبخلا جعَلَ من القرش دينه ومذهبه، وبطنا خاويا يتسع للحرام ، لا يهدأ حتى وإن أُلقي فيه بمال قارون ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى