التراث المادي في الرواية العمانية

 شيخة الفجرية | كاتبة عمانية


كُتِبَ في طرسٍ من أطراسِ الزمان، بأنَّ أهل عُمان أهل علمٍ وبيان، وقد قال الجاحظ في كتابه “البيان والتبيين”: “لربما سمعتُ مَنْ لا علم له يقول: ومن أين لأهل عُمان البيان؟!”، فيرد عليهم الجاحظ مستنكرًا: “وهل يعدّون لبلدة واحدة من الخطباء والبلغاء ما يعدّون لأهل عُمان!”. وما قاله الجاحظ يندرج في إطار الإرث النثري لأهل عُمان، على اعتبار أن الرواية ضمن الموروث النثري، والموروث النثري له أشكال واسعة ومتنوعة، وتأتي، الأمثال _ التي هي خلاصة صيغت بعد قصصٍ ذات عبرة وحكمة، والحكاية الشعبية والمقامات السردية في مقدمة الموروث أو التراث السردي الذي نبتت منه الرواية، وقد برع وابتدع أهل عُمان في كتابة أولى كتب التراث في الأمثال والكتابات اللغوية والفقهية والمقامة السردية على وجه الخصوص. وما يعجب له _من التعجّب أن المقامة كانت كتابة تنسب للفقه، ثم تطوّر المدلول اللفظي إلى أن أصبحت المقامة تعني” الخطبة والعظة الأخلاقية، التي ينشدها الرجل بين يدي الخليفة والأمير”، وسميت بـ”مقامة الزهاد”، وكان العُماني ابن دريد أول من ابتكر هذا النوع ثم عمل الهمذاني على تقليده بعد ذلك كما ذكر المستشرق “مرغيليوث” في “موسوعة دائرة المعارف الإسلامية”: إذ يقول: بـ” أن مبتكر فن المقامات ليس الهمذاني كما اعتقد الناس زمنا طويلا ، وإنما الذي ساق البديع على تأليف مقامته كان قراءته الأربعين حديثا التي ألّفها ابن دريد “. ولست بصدد الكتابة عن المقامة، ولكنني أردت التفنيد بأن المقامة هي الإرث، الذي اتسع ليكون عدة أجناس أدبية ومنها الرواية؛ وذلك نظرًا للعناصر التركيبية المشتركة بين كليهما. والتراث في المدلول اللغوي من الأصل كلمة تراث heritage ورث، وتدل مادة “ورث” في معاجم اللغة العربية على المال الذي يورثه الأب لأبنائه، كما قال ابن منظور في اللسان.
أما التراث المادي في الرواية العمانية، فإن الكاتب/ة العماني/ة يجد نفسه/ا أمام إرث مادي كبير لا يمكنه المضي نحو المواضيع والأفكار في الكتابة دون أن يكون هذا التراث أحد مشاريعه/ا الكتابية المتعدّدة. وقد أسهبت كاتبة السطور حول هذا التراث في رواية “تلك المائة عام أوراق الحب والعز والانكسار”، التي صدرت في بداية عام 2021، وكُتبت بثيمة تراثية في موضوعاتها مثل فن الرزحة والمجتمع والمناصب والأدوار التي تتكون منه، فكان التراث موزعًا في أرجائها كالآتي:
ـ المفردات العُمانية المتوارثة: “اللاش”، “الزرب”، “المقيظ”، “عريش النار”، و”المنايم”، “الحَوي”، “العذوب”، “الهُوري”، “الدروازة”، سفينة “البدن”؛ “الشانبة”.
ـ مسميات الملابس العمانية وتطريزاتها المتوارثة: “الثوب العود”، و”الدشداشة المسنجفة”، و”الشيلة أم حظيّة”، و”ثوب الرِجْل أبو علابة”، و”الصدارة”، و”المراير”، و”الرسمة”، و”الساق”، و”لعْلَابة”، و”الشاذر الصوري”، و”الدرياهي”، و”الممشط”، و”صراي المندوس”، و”شمروخ النبات”، و”ضرب إبرة”، و”البريسم”، و”شبكة صور “؛ و”تصديرة باطنية”.
ـ المعالم المعمارية: قصور وسرايات العمانيين في زنجبار، القلاع والأبراج الشاهقة في عُمان، وبيوت الطين، البيوت المبنية بسعف وجريد النخيل،
ـ الفنون: “المناناة”، و”الرزحة”، و”القصافي”، و”الهمبل”، و”الهبيّة”، و”شلة الدرب”، و”اللقية”، و”العازي”، وشلّة “اللال”، و”المزافن”؛ و”المتاقاة”.
المسميات المهنية: “النوخذا”، و”عقيد الرزحة”، و”الشاووش”، و”الحلّاو”، و”البندونية”، و”المكوبرة.
أسماء الإكسسوارات والحلي: “شكّ”، و”مرّيّة حلق أم جوزة”، و”مريّة أم شناف”، و”المريّة المسنسلة”، وقلادة “المنثورة”، و”النطل”، و”البنجري المشوّك”، و”الشواهد” و”البناصر” و”الحيَس المشوّكة” و”الغلاميات”، و”العوص”، و”العقام”، و”اليلّيلّ”، و”الهيار”، و”المَفْرَق، و”المزرد”؛ و”البرقصي”.
وتحفل الساحة الروائية العمانية بالعديد من الروايات، التي يندس أو ربما يتصدر التراث المادي في سطورها، فقد كتب الروائي خالد الكندي رواية في التراث واسمها “صراع العقول”، صدرت في عام 2010م، كان مسرحها المكاني عبارة عن قلعة، ومن أبرز شخصياتها الوالي الذي يعمل على حل النزاعات بين أهل القرية. وفي عام 2012م صدرت له رواية (أم الدوّيس)، وشخصية “أم الدوّيس” شبح يخاف منه الكبير والصغير حين يتم ذكرها، فهي ضمن حكاية تراثية يعاد انتاجها في قوالب مختلفة. وكذلك رواية (القافر)، التي أعلن الكاتب انتمائها على غلافها؛ فقال: “في سلسلتنا حكايات من التراث العماني نجتهد في كل عدد في تحوير حكاية شعبية إلى قصة ذات صبغة فنية تتضمن مشاهد مشوّقة، تروى لجيلنا الحاضر الحياة التي عاشها أجدادنا وأباؤنا، فتقرب إليهم صورة ذلك الزمان على خصوصية أدواته. وسمات شخوصه؛ وظروف بيئاته”، وكأنه بذلك يحاكي ما قاله الناقد سعيد يقطين: “إنَّ الرواياتِ الأولى كانت تحمل، إلى جانب ذلكَ (التفاعل مع الإبداع السردي الغربي) بعضَ بوادرِ التفاعلِ مع التراث الحكائيِّ والسّردي العربي، وخاصة من خلال استثمارِ بعض التقنيات الحكائية المنقولة من بعضِ الأنواع الحكائية العربيةِ كالمقامة مثلا وحكاياتِ الليالي والقصص الدينيّ أو بعض الأشكالِ الحكائية الشّعبية على نحوِ ما نجدُ في حديث عيسى بن هشام للمويلحي وليالي سطيح لحافظ ابراهيم..”.
وحول هذا العنوان أقام النادي الثقافي جلسة افتراضية بعنوان: “التراث المادي في الرواية العمانية”، أدارت الجلسة صفية بنت خلف أمبوسعيدية، وتحدث فيها الدكتور علي بن سعيد الريامي رئيس قسم التاريخ في كلية الآداب والعلوم الاجتماعية في جامعة السلطان قابوس، عن مفردات التراث الثقافي المادي في الرواية العمانية: جبرين والصيرة تحكي أنموذجا، جاء فيها:” هدفت الورقة البحثية إلى إبراز حضور مفردات التراث الثقافي العماني في الرواية العمانية من خلال روايتين تاريخيتين للروائي العماني الدكتور سعيد بن محمد السيابي، وهما: رواية جبرين وشاء الهوى ورواية الصيرة تحكي، وجاء اختيار هاتين الروايتين من منطلق حضور عدد من معالم التراث المادي المعماري العماني فيهما، وكان ذلك واضحاً من عنواني الروايتين، ففي الأولى كان التركيز على حصن/قصر جبرين، أما في الرواية الثانية فقد تضمنت العديد من معالم التراث المادي، وإن كان التراث المعماري المتمثل في القلاع والحصون هو الغالب، كما وأن الروايتين تتسمان بالواقعية، وتوثقان لحقبة مهمة من التاريخ العماني من خلال توظيف السرد الروائي. كما سعت الورقة إلى تتبع جميع المفردات التي حملت دلالات توثق للتراث المادي، وقد نسج الروائي حبكته الروائية حول ذلك التراث باعتباره كان يمثل الفضاء الذي تحركت فيه الشخوص والأحداث”، أمَّا الباحثة بخيتة بنت خميس القرينية فقد أكدت بأنها أجرت دراسة عن الروايات العمانية خلال العقد الأخير من القرن العشرين من عام 1990 إلى عام 1999 ناقشت فيها مواضيع اثنتي عشرة رواية لأربعة كتاب عمانيين؛ هم: سعود المظفر ومبارك العامري وحمد الناصري وسيف السعدي، تناولت دراستها: “نشأة الرواية العمانية وتوظيف التراث ومفهوم التراث وتقنية توظيف التراث ودواعي توظيف التراث.
من كل ذلك، ألم تتحدث الناقدة الفرنسية مدام دوستال عن أن الأدب وثيقة؟ الواقع أنه كذلك في الرواية، فإن ذكر التراث المادي والحضاري في الروايات، فإن ذلك توثيقًا لأثر قد اندثر، أو في طريقه للاندثار، فتبقى الكتابة عنه توثيقًا لوجوده بالشواهد المحيطة به، يقول الروائي أمير تاج السرّ في حوار له في جريدة الأيام ع 22: إنَّ الروائيَّ بطريقة أو بأخرى يؤرّخ لأحداثٍ وحيواتٍ، ومدن، وطرقٍ وأحياءَ.. هكذا، وشخصيّا أعودُ للروايات إذا أردتُ قراءة أحوالِ مجتمع قديم. إنّ الرواية في علاقتها بالتاريخِ نوعان: رواية تاريخية، تعيد التاريخَ كما هو يجبُ أنْ يلتزم كاتبُها بالحقائقِ، وروايةٌ هي تخيّلٌ تاريخيٌّ فيها يقوم الروائيُّ بغرس شخصياته في زمن بعيد ويبني عوالم روايته.
وهو ما يعزز الأهمية التي يجب أن تكون عليها الرواية العمانية، ففي خضم ما نقرأه من الكتب والروايات، نجد أن الروائيين في العالم قد نقلوا لنا ما لديهم من موروث مادي، أصبحت معالم يشد إليها الرحال، فالروايات العربية تعج بذكر الموروثات المادية مثل الأهرامات والشواهد التاريخية، وكذلك تفعل الروايات العالمية؛ فالرواية وثيقة توثق ما يريد الروائي  توثيقه فيها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى