المنهج العلوي والعنصر البشري

محمد عبد العظيم العجمي | مصر

      “وهكذا لم يتخذ المسلمون من السياسة محورا للتاريخ بل اتخذوا الدين الأساس ونقطة الانطلاق ومن ثم انطلقوا إلى التأريخ لأعمال الأمة ممثلة في علمائها ومفكريها فهم لم يسجلوا أعمال الملوك بقدر ما سجلوا فكر العلماء والفقهاء والمحدثين والصوفية والشعراء ولم يتصور المسلمون ومؤرخوهم أن الأمة مجموعة أصفار لا قيمة لها إلا بالواحد وهو الحاكم كما هو الحال في التصور القائم على أن التاريخ من صنع أفراد وإنما تصوروا الحضارة الإسلامية قائمة بفكر علمائها لا بسيرة خلفائها، كما كان تصور المؤرخين المسملين أن الفعالية في الحضارة الإسلامية للأمة جميعا .. لا للأفراد” (1)

     لم يكن بناء المنهج القرآني للحضارة متمحورا حول الفردية حتى ولو كان صاحب الرسالة المنزل عليه الوحي، فجاءت الآيات تؤصل لهذا المعنى وتؤكد عليه “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ” (145) [آل عمران].

    تلك الفردية التي أقضت مضاجع الأمم قبل الإسلام وأذلت الشعوب وأصغرت من أمرها وحقرت من شأنها، حتى صنفتهم كما كان في (فارس والروم) إلى الملوك والسوقة.. فكانت نقمة الشعوب على حكامها وبطانتهم وملأهم أشد من احتقار هؤلاء الكبراء لشعوبهم وعبيدهم .. وإلى ذلك كان يعمد أمر الجاهلية في الجزيرة العربية من تقسيم الناس إلى سادة وعبيد ووجهاء وضعفاء.

فجاء القرآن على غير إلف البشرية السابقة، ليهدم عليهما ما تصدع من دساتيرهم التي غايرت الفطرة وبدلت قوانين السماء بقوانين الأهواء، وأفسدت ذوات البين، وغيرت السنن الإلهية التي جعلت الناس “شعوبا وقبائل لتعارفوا” .. واخترعت من عند أنفسها مقاييس ما أنزل الله بها من سلطان، عارضت في شكليها ومضمونها ما أثبته الله للتفاضل “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.

إن هذا الخطاب الذي يخاطب القرآن به المؤمنين بعد غزوة أحد بعد حالة التصدع التي أصابت نفوسهم، ليس فقط من أثر الهزيمة، إنما كانت مما أشيع بينهم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قتل .. فأراد أن يهيأ تلكم النفوس إلى استقبال هذا الحدث الجلل وإن لم يتحقق في تلك الساعة، حتى تكون على استسلام له فيما تستقبل من أمرها وهو أمر ماض لا محالة، قد جعله الله سنة على رقاب خلقه جميعهم على تفاضل درجاتهم ، فخاطب بذلك نبيه قبل تحققه قائلا: “إنك ميت وإنهم ميتون” ..

ثم خاطب به المؤمنين كما سبق في قوله “وما محمد إلا رسول … “وتأمل هنا أسلوب الاستثناء الذي يفيد القصر (إلا رسول) وهو يعلم أن اقتصار رسالة هذا النبي على التبليغ عن ربه فقط، ولم يكن من شأنه الخلود، ولم يسبق لأحد قبله ولا لأحد بعده “وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ” (34)”[الأنبياء].

وبما أن الموت ماض على صاحب الرسالة، فإنه لابد أن يخلف من بعده مبلغين يؤدون ما أدى إلى ما تبقى من الخلق حتى يصل التبليغ إلى مشرق الأرض ومغربها، ولن يكون هذا إلا من هؤلاء الأتباع الحواريين الذين أشربت نفوسهم هذا الدين واضطلعوا بمهمته، واصطفوا كما اصطفي صاحب الرسالة أن يكملوا التبليغ (وليس الدين)، فالدين قد أداه على وفق ما أراد الله كاملا غير منقوص؛ أما الدعوة فهي شأن الأتباع كما كان حال من قبلهم “وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” (148)”[آل عمران].

إذن فرسالة القرآن الحضارية كان أداؤها منوط بعد الرسول بأمة التبليغ والصحبة من بعده، لتعلم أن هذا المنهج ليس من صنع بشر، ولا حكرا على صاحب فكرة ولا فلسفة ولا تنظير كحال اليونان (أرسطو وسقراط وأفلاطون وأبو قراط.. أو كحال الشيوعيين ماركس وإنجلز.. ولا زعيم سياسي كاستالين ونهرو ولينين وتشرشل وهيرتزل،  ولا حكيم هندي كغاندي وبيدبا، ولا قائد عسكري كنابليون والإسكندر وجنكيز خان، ولا ثائر تاريخي ك جيفارا وكاسترو.. ولا أي من هؤلاء بوصفهم أو شخوصهم .

هي الرسالة التي توحد فيها مصدر التنزيل (الله العزيز الحكيم) ، والمنهج (الكتاب والسنة )، والمبلغ (النبي صلى الله عليه وسلم).. ثم آلت إلى من بعدهم متوارثة بكل ما جاء فيها من قول وفعل وحكمة وقوة ودعوة وحكم وفرقان وعلم .. لتكون منهجا يقيم حضارة البشرية على أسس ربانية علوية، يحتكم فيها إلى هذا المنهج في كل خلاف واتفاق.. وهذا مما دعته ضروة الأبدية التي اقتضتها حكمة المنزل ألا يكون بعدها من رسالة ولا رسول، فكان لزاما أن يتسم هذا بالشمولية والاستمرارية والأبدية والعلوية التي لا تدانيها فلسفات البشر ولا اجتهاداتهم.

ربما يطرح هنا سؤال يقتضيه السياق أن الحضارات السابقة وإن اتسمت بالنقص فإنها قد أثبتت هيمنتها على البشرية فترات من الأزمنة واستطاعت أن تخضعها لحكمها ورؤاها دهورا، وقد أثمرت رغم قصورها علوما وفنونا وآثارا، وقطعت في طريق الحضارة الإنسانية أشواطا لا بأس بها من الإنجاز العلمي والتقني.. لكن المستعرض لحقب هذه الهيمنة والمستقرأ لفترات التسيد للعقل البشري غير المسترشد بالملأ العلوي يجد هذه النكبة الحضارية التي أزهقت فيها روح العنصر الإنساني، وتغولت فيها عناصر المادة بكل صورها وزخرفها وجمودها.

ليس أدل على ذلك من شواهد التاريخ الحديث الذي استدار فيه الزمان على أصحاب المنهج السماوي بما أسرفوا، واستبدلوا بدعاة الحضارة المادية الغربية التي أزهقت الأرواح وأهلكت الحرث والنسل، واستبدلت البشرية من بعد أمنها خوفا، ومن بعد الشبع نهما وجشعا وتسلطا وتفحشا.. اقرءوا إن شئتم ما سطر العالم الرباني(أبوالحسن الندوي) في كتابه: “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”.

“أجل، إن المعارف العلمية غيَّرَتْ ناحية الحضارات المادية تغييرًا عميقًا، غير أن المعتقدات الوجودية؛ دينيةً كانت أو سياسية ظلَّتْ قادرةً وحدها حتى الآن على إيجاد اتحاد المشاعر والأفكار الضروري لثبات الذاتيَّات الجمعية.”(2).

المراجع:

  1. فلسفة التاريخ (د. مصطفى النشار)
  2. فلسفة التاريخ (جوستاف لوبون)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى