أليس بالإمكان أبدع ممّا كان؟ التفكير الإبداعي والتصرف الاستثنائي

سعيد مضيه | فلسطين

استقبل الملايين في أرجاء المعمورة بالابتهاج وبترحيب التقدير الرفيع نجاح الأسرى الفلسطينيين، إذ مارسوا بإقدام وشجاعة حقهم في تأكيد حريتهم، والإفلات من سجن جلبوع الرهيب. والشعوب بطبيعتها تمجد قيم الغيرة الوطنية مقرونة بالشجاعة والإقدام والتضحية ، كما تقيم في الشخصية سجايا المروءة والصبر وقوة الاحتمال والارتقاء الى الاهتمام بالصالح العام، وتعدها مجازا قيم الرجولة ، مع أن النساء قد يتحلين بهذه السجايا . وقد تغنى الشاعر الفلسطيني الراحل، مريد البرغوثي بالأم التي تكرس كل يوم خميس لزيارة أحد خمسة أبناء مأسورين كل داخل سجن إسرائيلي؛ ومنذ أكثر من قرن تمجدت الأم في رواية مكسيم غوركي ، شاركت ابنها في النضال الطبقي ضد الاضطهاد والاستغلال الرأسماليين. ومع كل جيل بعد الحرب العالمية الثانية يستقر على قوائم الشرف ثورات أطاحت بأنظمة كولنيالية او أنظمة استبدادية فاسدة؛ ويثري الأدباء والفنانون القيم الإنسانية بإبداعاتهم التي ترصد أشواق الحرية وتطلعات العدالة الاجتماعية.

إسرائيل تحجز حرية المواطنين الفلسطينيين بدون وجه حق، تمارس بذلك إرهاب دولة بهدف الترويع وفرض الإذعان لإجراءات وممارسات كولنيالية قرصنية وإحلالية. وحيث مارس المقاومون الستة الحق في انتزاع الحرية، فقد شحنوا بجرأة عمليتهم الوجدان الجمعي بطاقة دفع قوية للتضامن مع قضية الأسرى والقضية الفلسطينية .

خلال الأيام الخمسة التالية للعملية ساد الحبور والأمل في تحرر الأسرى البواسل. ثم ساد الأسى وخيبات الأمل لما أفلحت إسرائيل في القبض عليهم. يا فرحة ما تمت ! العملية الجسورة لم تكتمل مأثرتها ؛ عوضت الدعايات الفشل بترويج بدوات رومنسية تغنت بالملعقة وبالنفق وبقطف الصبر والاستمتاع بضوء الشمس ورحابة الطبيعة. لا يقبل العقل السليم ان عملية نضالية جريئة متحدية تكون نهايتها الطبيعية أسر أبطالها وتعريضهم للتعذيب والإهانة. ولا يتطور النضال بدون نقد ذاتي ومراجعة نقدية تلتقط الأخطاء وثغرات التنظيم والإعداد والتنفيذ.

ممارسة الفعل مقرونا بالإقدام والتضحية وتوفير عوامل إنجاز الغاية المستهدفة تنطوي مجتمعة على دعاية نافذة واسعة الانتشار للقضايا؛ باتت الدعاية جزءً عضويا من الفعل، والفعل المظفر دعاية من تلقاء ذاته؛ والقضايا العادلة تروج لها الابداعات الاستثنائية والإٌقدام وشجاعة التنفيذة وصداميته واستيفاء شروط الانتصار. أسلوب تفكير إبداعي يفضي إلى تصرف بطريقة مغايرة، او تصرف استثنائي يسفران عن مأثرة نجاح تستقطب التعاطف والتضامن، بما يعجز دونه الاستجداء والتظلم للهيئات الدولية. وما اكثر تجارب العصر الحديث الدالة في سياق التفكير الإبداعي والعمل بطريقة مغايرة للمألوف !

بعد شهور قليلة ووجه الجيش المغرور ب”نصر” حزيران 1967بمقاومة باسلة بجانب قوات من الجيش الأردني جلبت للمقاومة الفلسطينية تأييد شعوب المنطقة وباتت الأنظمة تتزلف لها للتغطية على تخاذلها. كشف التصدي الباسل في معركة الكرامة عن خواء الجيش الإسرائيلي تخفّي خلف الضربة المباغتة؛ كما تصاعد التأييد والحشد الشعبيين مع المقاومة الفلسطينية المسلحة .

على قوائم الشرف بعد الحرب العالمية الثانية، وبفضل التفكير الإبداعي والفعل الاستثنائي، استقرت ديان بيان فو والجنرال جياب بين يديه ركع جنرال الكولنيالية الامبريالية الفرنسية صاغرا مستسلما ؛ واستقرت كوبا وكاسترو، وجيفارا والثورة الجزائرية وجميلة بوحيردبجانب منا ضلين بواسل آخرين، كم حفرت لنفسها مكانا على قائمة الشرف ثورة فيتنام التي أجبرت الامبريالية الأميركية على تجرع مرارة الهزيمة المذلة والهرب السريع بالهيليوكبتر من سطح السفارة . في وقفات العز تجلت قدرات وإمكانات النضال من أجل الحرية والعدالة المنتصرة للحقيقة حين تستكمل العدة: التفكير الإبداعي والعمل بأسلوب استثنائي.

المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي ثم ضد العدوان الهمجي عام 2006 مزق الأقنعة عن خواء “الجيش الذي لايقهر” وأشهر إسرائيل امام العالم قوة عدوان . مقاومة من طراز جديد!

قد تنجح قوى العدوان في تضليل الشعوب، إذ تسوق مبررات مستغلة واقعا مواتيا . إسرائيل واظبت على ادعاء دور الضحية، حتى وهي تمارس العدوان والبطش الدمويين. بالكيد واستغلال اخطاء الخصم أفلحت إسرائيل في التمظهر بالدفاع عن النفس في حرب التطهير العرقي 1947-49، ثم حين شنت عدوانها في حزيران 1967، جولتين حسمت بهما إسرائيل نهجها الاقتلاعي. فحسب تقديرات جيف هالبر ، الشخصية الأكاديمية المناهضة للكولنيالية الإسرائيلية، لولا الاحتلال لبقيت إسرائيل دولة مثل نيوزيلندا تعتمد على السياحة. فالى جانب التوسع الاستيطاني والتهويد حولت الاحتلال الى بيزنيس- خبرات قمع الحراك الشعبي عبر التصدي بقوة السلاح وبالأجهزة الأمنية للمراقبة والتجسس والتصنت . باتت إسرائيل تصدر بمليارات الدولارات خبرات وتقاني قمع الحركات الشعبية لدول الاستبداد والسياسات اليمينية، وتعزز معها علاقات تعاون وتبادل منافع.

بعد أن تحقق لإسرائيل السيطرة المتوخاة من عدوان حزيران اعترف ميناحيم بيغن ، ألوزير في حكومة العدوان ، والجنرالات رابين قائد الأركان ، وعيزرا فايتسمان نائبه ومتتياهو بيلد عضو هيئة الأركان بعدم تعرض إسرائيل لمخاطر عدوان. بصراحة قال بيلد ان الخطر الداهم بدعة اخترعناها . ذلك انه تاكد لديهم من رصد حجم وترتيب الجيش المصري في سيناء عدم نية مصر الإقدام على حرب، رغم التهديدات الفجة بالحرب وإبادة إسرائيل. إلا أن النية بالعدوان وسيلة لإنجاز المشروع الصهيوني بالاستحواذ على فلسطين كاملة، كانت مبيتة لدى إسرائيل والولايات المتحدة لفرض واقع جديد على المنطقة ضمن استراتيجية الهيمنة ومنع تحرر الشعوب العربية؛ باتت الدعاية جزءًا من العمليات الحربية، وبات الإعلام يؤدي دور الفرق العسكرية . وتحتفظ إسرائيل في الوقت الراهن ببرامج دعاية إليكترونية تبثها متزامنة مع عملياتها العدوانية.

بعدوانها أظهرت إسرائيل كفاءتها في أداء دورها الوظيفي، وارتفعت قيمتها لدى الدوائر الامبريالية . بالفعل غدت إسرائيل دولة امبريالية، اندمجت عضويا مع الامبراطورية العالمية للرأسمال الاحتكاري. مجلات وصحف ومنابر إعلامية لم تكن حتى ذلك الحين تعير الصهيونية الاهتمام، منها على سبيل المثال نيويورك تايمز، بدلت مواقفها بعد حزيران وباتت تحرض على التحالف الاستراتيجي معها وإمدادها بالمساعدات العسكرية والمالية. أسفر عدوان حزيران المظفر عن اتساع نفوذ تيار المسيحية الأصولية داخل الولايات المتحدة، وبرزت منظمات ” مسيحيون من أجل إسرائيل”، وأشيع الإيمان بمقولات لاهوت ما قبل الألفية، وأبرزها وجوب دعم دولة إسرائيل وتوسيع سيطرتها على كامل فلسطين التاريخية، وبناء الهيكل الثالث كمقدمة لعودة المسيح .

وفي المنطقة أظهرت إسرائيل التصميم على ضم الضفة والقطاع وراحت تشجع بناء المستوطنات، بعضها بذرائع دينية واخرى بذرائع أمنية . ونجحت مكائد الامبريالية في المنطقة بإحداث تحولات جذرية وتداعيات ضد الديمقراطية والتنمية والتضامن القومي، عززت السيطرة الامبريالية على المنطقة. اطلقت أيدي إسرائيل في كامل فلسطين .

بدينامية لا تكل طورت إسرائيل باستمرار قدراتها وكفاءتها وخبراتها وعبأت بالكراهية العرقية وبالفاشية قواعدها الاجتماعية، وعززت علاقاتها الدولية؛ بينما فصائل المقاومة الفلسطينية قصرت التطوير على القدرات العسكرية فقط، وغفلت عن بقية المهام.

تنظر الفصائل الفلسطينية كافة الى النكسات والضربات وفشل المهمات والانقسامات قدرا لا راد له؛ وبهذا تطَمْئن الذات وتخدر اليقظة وتترك الأمور على علاتها. هنا نعود الى مثال القبض على المناضلين الستة؛ خلال الأيام الخمسة الأولى ساد الاعتقاد أنهم في حرز حريز، أو على الأقل هذا ما فهم من تصريحات قادة الجهاد الإسلامي. ركزت الدعاية خلال الأيام الخمسة الأولى بعد الإفلات على ان أبطال العملية خرجوا ليبقوا احرارا. ولدى اعتقالهم تقبلت الدعاية الأمر وصمتت عن نواقص العملية. اعتبر الموضوع منتهيا وحققت عمليتهم ألغرض؛ كأنّ السجناء خرجوا لكي يعودوا!

تهاونت المنظمات السياسية كافة لحد كبير في الحشد الشعبي والتوعية والتنظيم، ما أضعف نفوذها في الأوساط الشعبية. والتجارب أثبتت أن الصدام المسلح ينجح بقدر رفده بالتأييد الشعبي. والأصح القول ان الكفاح المسلح ينجح في تحقيق التحرر والتقدم حين يكون تتويجا لحراك شعبي يتصاعد بحيث يتغذى به الكفاح المسلح ويغذي النهوض الشعبي . لا تمارس الفصائل الفلسطينية الحشد والتعبئة والتوعية للجماهير ، وتحجم عن ممارسة النقد والنقد الذاتي ، ورغم الانكسارات والأزمات لم يمارس فصيل مسلح او حزب سياسي فلسطيني المراجعة النقدية تترصد عوامل الوهن والتشرذم وثغرات التنظيم المخلة بالضبط ووحدة الإرادة واليقظة، والتي عبرها يسرب العدو عملاءه .

التقليد البائس بتجنب النقد الذاتي لا يعترف بأخطاء أو مجرد نواقص حالت دون إنجاح العملية بالكامل. اما من ثغرات واكبت الإعداد للعملية وأثناء التنفيذ؟ في كل عملية حتى الناجحة يجري مراجعة نقدية وتقييم دقيق للأدوار وتنفيذ المهام. نجد إسرائيل تشكل لجنة تبحث عملية النفق، رغم انها نجحت في اعتقال أبطالها. كل تجربة نضالية تفتح الأعين على سلبيات يتم تلافيها. العمل اختبار للنظرية وللفكر وللتنظيم، عبره وبالنقد يجري تطوير الخبرة وإغناء الفكر .

ماذا لو كان ثمة اتصال بين القيادة والسجناء بواسطةِ شخصية مدربة ومؤتمنة؟ خلال تسعة شهور من الجهد الشاق والمصصم كيف لم يتم إبلاغ القيادة بالمشروع من اجل التفكير المشترك والتنسيق لضمان الخروج الآمن واعداد الملاذات الآمنة؟ ماذا لو جرى تفعيل الخلايا النائمة –إن وجدت- كي تجهز الوسائل وترعى وتؤمن الضروريات؟

هذا مجرد رؤية اولية لم تطلع على تفاصيل العملية ومعطياتها. ربما يتوصل التقصي والتحري والتدقيق الى ما هو اهم ؛ غير ان النقد والنقد الذاتي والمراجعة النقدية نواقص جوهرية في العمل الفلسطيني يتوجب تلافيها في أي تجربة نضالية.

التحرير والتحديث

تهاونت المنظمات السياسية كافة لحد كبير في الحشد الشعبي والتوعية والتنظيم، ما أضعف نفوذها في الأوساط الشعبية، وأعاق تطوير الحراك الشعبي العام، معتمدة على بديل الكفاح المسلح. والتجارب أثبتت أن الكفاح المسلح يتطور حتى إنجاز ثورة التحرير الوطني أو الاجتماعي بقدر ما يرفده حراك شعبي متنام باضظراد. والأدق القول ان الكفاح المسلح ينجح في تحقيق التحرر والتقدم حين يكون تتويجا لحراك شعبي يتصاعد بحيث يتغذى به الكفاح المسلح، وهذا بدوره يغذي النهوض الشعبي . لا تمارس الفصائل الفلسطينية الحشد والتعبئة والتوعية للجماهير ، وهي تحجم عن ممارسة النقد والنقد الذاتي؛ ورغم الانكسارات والأزمات لم يمارس فصيل مسلح او حزب سياسي فلسطيني المراجعة النقدية ترصد عوامل الوهن والتشرذم وثغرات التنظيم المخلة بالضبط ووحدة الإرادة واليقظة، والتي عبرها يسرب العدو عملاءه. العمل مشفوعا بالنقد اختبار للنظرية وللفكر وللتنظيم، وعبرهما يتم تطوير الخبرة وإغناء الفكر .

النقد والنقد الذاتي والمراجعة النقدية، هي الى جانب التفكير النقدي حصيلة تحديث الحياة الاجتماعية. التحديث عنقود متضافر من القيم الحداثية، تتلاحم بعلاقة السببية، فيأتي تحديث الخطاب الديني نتيجة ل ومتزامنا مع تحديث التعليم وصولا لتحديث الثقافة والتفكير، وصولا لخطاب ديني عقلاني يراعي الحقائق والوقائع الموضوعية. يكتسب تحديث الخطاب الديني ألأهمية القصوى في تفعيل الحراك الشعبي، نظرا لأن الدين يرشد جميع تصرفات الأفراد والجماعات. وحيث أن الجماهير الشعبية هي الأداة الاجتماعية للتغيير، تسترشد بفهمها للدين في جميع ممارساتها وعلاقاتها واستجاباتها للتحديات، فإن الدين يتغلغل في حياة المجتمع، ومن المستحيل فصل الدين عن المجتمع ، وعن كل ما يمارسه المجتمع من سياسات وفعاليات. في ظروف التخلف يستجيب الأفراد والجماعات لنداء الدين دون التدقيق في مضمون النداء؛ فهم لم يعتادوا التدقيق النقدي في ما يوجه اليهم وفرز الزيوف المموهة بدعوة الدين. السلفيون يخاطبون تدين الجماهير الموروث عن عصور التخلف، حيث تبخيس الجماهير، وعمدا تجاهلوا الارتقاء بالتدين الشعبي الى مضمون المقاصد العامة للشريعة- رفع الأذى عن الناس ودفع الضرر وتحقيق مصالح العباد- باختصار وضع مصالح وحاجات الجماهير الشعبية في مركز الاهتمام. في العصر الوسيط، وبالذات منذ أنتهاء حقبة الخلفاء الراشدين، لم يبرز من يدافع عن مصالح وحاجات الجماهير، فتعثرت الجماهير تحت الأقدام المتدافعة لأصحاب الشوكة، وتخدير فقه الظلام المتوارث عبر القرون حتى واقعنا الراهن. لم تجد الجماهير المضطهدة والمغبونة طبقيا أوقوميا أوطائفيا أوعشائريا من يقيمها من عثراتها. تواصل تبخيس الجماهير وتسطيح وعيها وحشوه بالخرافات والشعوذات في النظم الأبوية التي واصلت الهيمنة على المجتمعات العربية – الإسلامية في العصر الحديث بدعم وإسناد السيطرة الكولنيلية للامبريالية الأوروبية.

في الجزائر، على سبيل المثال، قهرت السيطرة الامبريالية ثورةٌ يؤكد مضمونَها الشعبي ارتقاءُ مليون ونصف المليون شهداء في الكفاح. استجاب ملايين الجزائريين لمختلف النداءات الاجتماعية والدينية للانخراط في الثورة؛ وحين اضطر الاستعمار والمستعمرون للرحيل خضعت الجزائر لتحولات النفس البشرية امام غوايات السلطة، فلم تجد الجماهير حضورا لمصالحها في النظام الجديد. مضت الجزائر في متاهات الانقلابات العسكرية والفتن والإرهاب والنهب الطفيلي للمال العام، بينما الجماهير حائرة ومرتبكة ولا مبالية. يكمن سبب المتاهة ان الثورة الجزائرية نبذت القوى الملتزمة بمصالح الجماهير وبتحرير وعيها من قيم العصر الوسيط ومن الخضوع للأسياد وتبخيس الذات لتحيلها سيدة مصيرها، ومن ثم سيدة الجزائر.

وأعظم من ثورة الجزائر كانت ثورة أكتوبر، واجهت نفس المصير. حلم لينين ان يدعم الاستيلاء على الأراضي والبنوك والصناعات بإحداث ثورة ثقافية سداها العلم، ” فلتجديد جهاز دولتنا ينبغي لنا مهما كلفنا الأمر أن نضع نصب أعيننا المهمة التالية :اولا ان نتعلم ، وثانيا أن نتعلم وثالثا أن نتعلم دائما، ثم العناية بأن لا يأتي العلم حرفا ميتا أو جملة شائعة على الموضة، بأن يدخل العلم حقا في العادات، ويصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتنا كليا وفعلاً” . حقا يدخل العلم ميادين الإنتاج المادي والروحي لكي يغدو نمط حياة، ولا يقتصر على استخدام الأدوات منتجات العلم. وأثناء النضال التحررتدخل القوى الثورية المفاهيم العلمية الى الجماهير المنطلقة من سبات العصر الوسيط ، فتتشكل الذهنية العلمية من خلال الممارسة العملية ووعي العلاقات في بيئة النضال الوطني التحرري.

تم قُطِع مسيرة الثورة الثقافية ولما تنجز أغراضه بعد رحيل لينين المبكر وسمح للبيروقراطيين بإدارة الإنتاج وقيادة المجتمع. البيروقراطيون ، وقد قويت شوكتهم ، هم الذين دمروا البناء الاشتراكي. في البداية، خلال عقد الثلاثينات، أنجزت الإدارة البيروقراطية طفرة في الإنتاج الصناعي، بالطبع على حساب رفاه الجماهير، لكنها وضعت بحوزة النظام قدرات عسكرية حطمت العدوان النازي وأجهزت على النازية في عقر دارها. غير ان الطفرة الاقتصادية توقفت وراح يتباطأ نمو الاقتصاد السوفييتي ويتعطل إدخال العلم في الانتاج الى أن حلت كارثة الانهيار. لم يشفع للنظام السوفييتي منجزاته في عقد الثلاثينات ولا انتصاره المجيد في الحرب الوطنية ضد الوحش النازي ، حتى ولا تحديه للامبريالية الأميركية الأشد توحشا، ولامنجزاته العلمية الرائدة في غزو الفضاء ودعم النضال التحرري للشعوب المقهورة.

تجربة أكتوبر راهنية من حيث النجاحات والإخفاقات ، تقدم دروسا ثمينة لمن يود أن يسهم في عملية التحديث والتحرر. يحتفظ باهمية مصيرية تحويل الحماس الوطني للجماهير الى وعي ثقافي بملابسات العملية التحررية ورد التطاولات العدوانية وفي سيرورة البناء التقدمي. تحرير الجماهير من الإذعان والتبعية لأصحاب النفوذ والثراء، ومن العقد النفسية والبلادة الذهنية والسأم الموروثة عن عهود الاضطهاد والسخرة، وإدخالهم خضم النشاط الوطني مناضلين واعين وهادفين .. إن هذه التحولات تعتبر جوهر ومضمون رسالة قوى التغيير الاجتماعية المعروفة باليسار ، والمؤهلة بفكرها وحيويتها لإحداث التحولات الثورية، وتحديث الحياة الاجتماعية. تحرير الجماهير من الغبن والاضطهاد والاستغلال ، وكذلك من تخلف دهور الظلم والعسف وعقدها هو رسالة قوى التغيير الاجتماعي الديمقراطي؛ إذ لا ديمقراطية بدون حراك شعبي وبدون الاختيار الحر الواعي المتكافئ بين جميع القوى الاجتماعية، وبدون تأثير متكافئ من قبل افراد الهيئة الاجتماعية؛ بات الرأسمال السياسي يتدخل في التأثير على الناخبين لمصلحة الأثرياء او عملائهم ، حيث تتنقل الرساميل عبر الحدود والقارات، ما أحال الديمقراطية الى مهزلة . رسالة التغيير الاجتماعي الديمقراطي تنجز من خلال الحراك الجماهيري واضطلاع حزب ثوري متمكن من الفكر الثوري او تحالف أحزاب ثورية بتربية الجماهير سياسيا – تثقيفها وزيادة منسوب المعارف العلمية في وعيها لتخليصه من الخرافات والشعوذات المترسبة في الوعي على أيدي فقهاء الظلام.

ان انحدار المجتمع السوفييتي من ذروة الانجازات في عقد الثلاثينات الى اللهاث العاجز في ثمانينات القرن الماضي هو النتيجة المحتمة لإيداع الجماهير في مستودع الحجر . فما من فرق بين إخضاع الطبقة العاملة لسيطرة الرأسماليين ، وبين إخضاعها لسطوة البيراقراطية. بقيت الطبقة العاملة مبعدة عن تقرير ألأمور، حتى امورها الخاصة، واستساغت العزلة ، وبقيت لا مبالية حتى وهي ترى السطو على جهودها وإبداعات علمائها بأساليب مافياوية. صحيح ما قيل ويقال أن حجر الأساس للانهيار أرسي عام 1929 حين أسند للبيروقراطية مهمة قيادة المجتمع السوفييتي خلافا لتحذيرات لينين الصريحة في وصيته الأخيرة.

انهارت التجربة السوفييتية ، كما انهارت حركات وطنية فارقت الديمقراطية، أجرت تحولات لصالح الجماهير الشعبية مع الحجر على الجماهير، كما حدث مع مصر عبد الناصر وعراق عبد الكريم قاسم وليبيا القذافي وسوريا الأسد. ويبعث على القلق في الوقت الراهن أن المقاومة المظفرة للعدوان الإسرائيلي تعتمد فقط على الفصائل المسلحة وتحجر على الجماهير، بل تهمل المصالح الوطنية . اجترح حزب الله مأثرة طرد قوات الغزو الإسرائيلي من لبنان ، وحملها على الهرب في عتمة الليل، وصد ببسالة عدوان إسرائيل عام 2006. قدم مثال حزب الله التجسيد الحي لحزب من طراز جديد، حزب المقاومة الوطنية. أثبت نشاط الحزب إمكانية لجم النزعة العدوانية لدولة إسرائيل العنصرية. قوض صمود حزب الله في عدوان 2006 كل ما بنته إسرائيل من عطف دولي بادعاء دور الضحية وبررت أعمالها العدوانية بالدفاع عن النفس. غيرأن استناد حزب الله الى ميليشيات مسلحة وإغفال الجماهير وتركها تتمرغ في وحل الحرمان تتدهور باضطراد أوضاعها المعيشية، في كنف نظام توافقات طائفية وفساد إداري ومالي اوصل البلاد الى الإفلاس. إن ذلك الوفاق مع اللصوص وعملاء العدو غلطة استراتيجية، تكررمآسي التجارب الوطنية الفاشلة.

وفي فلسطين المحتلة يجب إدراك أن المقاومة الوطنية لا تقتصر على الفرق المسلحة ، ولا تستقيم مع التنسيق مع الاحتلال واستجداء التنازلات طواعية من جانبه. ركود المقاومة الشعبية ، او قصرها على تحركات عفوية معزولة لا يشكل مقاومة جادة ترهق الاحتلال؛ وركود المقاومة عامل رئيس في تفتيت الجهد الوطني، وانشغال الجمهور الكبير عن الهم الوطني، بينما يندفع البعض بانفعالية الى مغامرات قاتلة لا تراعي التباسات الحالة الطوبوغرافية للضفة. شبان غاضبون على المحتل وساخطون من هزال المقاومة يشتعلون ويحترقون في الحال دون اكتساب خبرة او استجماع طاقات كفاحية! تجارب عديدة أثبتت أن الضفة الغربية لا تحتضن مقاومة مسلحة ، ورغم ذلك هناك من يرفض الاتعاظ ويحرض.

إغفال المراجعة النقدية تكرر الأخطاء والنكسات، وهي دلالة على الغرق في مستنقع التخلف الفكري والعملي. ينتصب في مقدمة مهام ثقافة المقاومة، ترميم تصدعات الروح الفلسطينية وتقرحاتها جراء الهزائم المتعاقبة، إثر خيبات الأمل بعد التضحيات الجسام واستنزاف الطاقات حتى النضوب. أولا وقبل كل شيء يجري انتشال الجماهير من وهدة الاستلاب واليأس وبث الأمل في النفوس والثقة بالطاقات التحويلية للجماهير الناهضة للكفاح الوطني. لمنع التداعيات السلبية يفترض أن يواصل النشاط السياسي الناجح عمله الدؤوب في أوساط الجمهور والاندماج معها، بما يتيح الاطلاع الدائم على النفسية الاجتماعية و التعرف على آليات عملها وتطلعاتها من أجل حسن التعامل معها بنجاح. التعامل اليومي مع الجماهير يوفر للحزب السياسي الاهتداء إلى العياني الملموس من الوقائع المستجدة والأفكار الرائجة ثم اجتراح العلاج. كما أن الإبقاء على تواصل دائم مع الجماهير يضمن الحفاظ على الواقعية السياسية ويوفر طروحات طازجة تعزز لحمة العلاقة بين الحركة السياسية والجماهير، وتصون الجماهير من الوقوع في هاوية الانهزامية والخيبة والتضليل الفكري. وتظل الوحدة الوطنية ممكنة بعيدا عن الإحباط واليأس قريبا من النبض العام.

تحقيق الكفاءة النفسية توفر نماء الطاقات والمناعة الروحية. الصحة النفسية تطهر الروح من أمراض التعصب والتزمت والانفعالية النزقة، ترتقي من مستنقع العفوية والارتجال وتكتسب الوعي المتأمل، يعي المصدات المانعة للتغيير داخل النفس وخارجها في ثنايا الحياة الاجتماعية. ونقد الذات أولى واجبات النقد الاجتماعية وأهم مكتسب للثقافة الوطنية. فقد تصطدم القناعة العقلية بما ترسب في الوجدان من هدر. الوعي يأتي في مقدمة شروط الاقتدار الذاتي.

ومن قيم التحديث الديمقراطية تستهدف قبل كل شيء ضمان حق المواطنة المتكافئة للجميع بغض النظر عن العرق والطائفة والعشيرة. بقدر انخراط الكتل البشرية في النضال الديمقراطي، يأتي التحول جذريا، بما يتيح إقامة تمثيل شعبي تعددي يتم فيه تبادل الحكم.

يتصدى التحديث لتدهور مستوى التعليم الحكومي والخاص، ويطرح البديل للتعليم التلقيني تعليما حواريا وتربية نقدية ؛ مثلما يستبدل أنظمة الضبط والعقوبات بعلاقات الاحترام المتبادل ، وذلك كي تتربى الأجيال على الجرأة بلا خوف ، وعلى التفكير النقدي المبدع والثقة والاعتزاز الفردي والجماعي، محركات نوابض الاعتزاز الوطني والقومي. ينبغي على المشتغلين في علوم التربية مراعاة الكرامة واحترام الذات لدى الطلبة لتشهد المدرسة علاقة احترام متبادل بين الطلبة وهيئة التدريس. يصاحب العلاقة الإنسانية توفير الشروط للتلاميذ وغيرهم لكي يتأملوا بصورة نقدية إدراك العالم بصورة عقلانية، ويشرعوا التساؤل.

الى جانب التسلح بالمعارف العلمية ينشد التحديث الثقافي وضع المنتج الثقافي بتعدد ألوانه في متناول الجميع. الثقافة للجميع الشعار المميز للتحديث الثقافي؛ إذ الثقافة مقاومة تنزل الى الشوارع والساحات، تقدم الغذاء الروحي للملايين ممن يؤمل فيهم ويعول عليهم إنجاح مهام التغيير.

المقاومة الشعبية تستوجب وضع الجماهير في حالة تحفزبتوفير ثقافة مقاومة واقتصاد مقاومة وتربية مقاومة وتعزيز الثقة بين سلطة الحكم والجمهور عن طريق مقاومة الفساد والمحسوبية وإشعار جميع قطاعت الشعب انها موضع رعاية وفق مبدأ التكافؤ . المقاومة الشعبية للجماهير تستوجب من فصائل التغيير الاجتماعي تنظيم الجماهير وترشيدها وشحنها بالمعارف العلمية.

يجب ان تعي اوسع الجماهير ان عدوان حزيران قد هيئ له منذ العام 1963، وجرى في ذلك الوقت المبكر إعداد البنية الإدارية والقضائية والاقتصادية للتحكم بحياة الفلسطينيين فوق تراب وطنهم. عدوان حزيران دبر بقصد تصفيد الشعب الفلسطيني داخل سجن محكم يجري في الأثناء سرقة أراضيه وضمها الى كيانه . وهذا ما كشف النقاب عنه الاكاديمي الباحث إيلان بابه مؤلف كتاب “التطهير العرقي في فلسطين” . يسرد الكاتب في مؤلفه “اكبر سجن على الأرض” الصادر عام 2020، مباشرة بعد عدوان حزيران ” في شهري يوليو (تموز) وأغسطس (آب) التاليين شكلت حجر الأساس في السياسة الإسرائيلية المطبقة في الأراضي المحتلة حتى يومنا هذا. ولم يحدث أن خرجت أي من حكومات إسرائيل المتعاقبة عن الالتزام التام بهذه السياسة ، او رغبت في ذلك بأي شكل من الأشكال”. [ص22] . طفق الاحتلال يسرق الأرض وأبقى السكان بلا حقوق سياسية او مدنية ، خاضعين للأحكام العرفية . “لا يستطيع احد ألا يلاحظ في محاضر تلك الاجتماعات(مجلس وزراء إسرائيل) النبرة الفوقية في ما خص علاقة إسرائيل بباقي دول العالم . فالرجال الجالسون خلف الطاولات البيضاوية والمستطيلة شعروا بالقوة : لم يخشوا أي مقاومة من الفلسطينيين ، ولم يكترثوا قيد انملة بالعالم العربي ، وكانوا واثقين من قدرتهم على التلاعب ببقية دول العالم ، وبنوع خاص الولايات المتحدة الأميركية”[128]

في إسرائيل أحدث متتياهو (ماتي) بيلد ضجة قوية لم ينتبه لها القادة الفلسطينيون ، وهم يعلقون الآمال على تدخل الامبريالية لصالحهم. أقترح بيلد مباشرة بعد نصر حزيران تقديم الضفة للفلسطينيين عربون صداقة وتعاون بحيث ينتهي الصراع. رفض اقتراحه واستقال من هيئة الأركان، واتهم القيادة الإسرائيلية باتباع نهج مدمر للسلام وإضمار نوايا تهجير جديدة. انضم الى اوري أفنيري في “غوش شالوم” ونجح معه في الانتخابات . قدم أطروحة دكتوراة وبات محاضرا للأدب الفلسطيني بالجامعة. توفي عام 1995 ، اي في عام اغتيال رابين. خلال السنوات الثماني قدم مطالعات تكشف نهج إسرائيل ولم تصغ لها القيادة الفلسطينية، فمضت عبر متاهة التفاوض، ولم تزل تعلق الآمال على التفاوض.

في العالم مثقفون وعلماء ملتزمون بالحقيقة ، نشرها والدفاع عنها ؛ من الطبيعي ان يتضامنوا مع شعب فلسطيني وينتصروا للعدالة في فلسطين. لم يجر تعريف الشعب الفلسطيني بجهود هؤلاء رغم أنهم دفعوا الغالي ضريبة نقاء الضمير وشرف الموقف. قضايا فكرية وسياسية ساندت القضية الفلسطينية غفل عنها القادة الفلسطينيون ، كان بالامكان أن تضيء لهم الدرب وتختصر المكابدة. وهذا مضمون حلقة تالية.

المعرفة قوة والجهل هوان وانكسارات

علاوة على الحشد وتنظيم النضالات تدخل فصائل التغيير الديمقراطي الى الوعي الاجتماعي المعرفة العلمية بالواقع وسبل الخلاص. في هذا المجال ترسي الأحزاب الديمقراطية عادة المطالعة والبحث المستدام عن المعرفة ؛ فالمعرفة قوة وسيطرة ووسيلة ريادة. المعرفة هي الفريضة المغيبة في العالم العربي المنكوب بأنظمة الاستبداد الأبوية، أنظمة التجهيل الممنهج تعتبر المعرفة وباءً تقتضي مكافحته. التجهيل وشح المعرفة الموروث يوسعان الهوة بين الكتل الشعبية وتيار التحرر والتقدم؛ ولكي يتم التفاعل بين القاعدة الشعبية وقوى التغيير الديمقراطي يتوجب ردم الهوة الفاصلة.

البنية الأبوية تسود بظلاميتها المجتمعات العربية؛ فهي تتحاشى العلم وتمنى إجراءاتها ومشاريعها بسبب ذلك بالفشل، تشيع الخرافة والشعوذة في أوساط “الرعية”، تمنع بكل السبل المتاحة تحديث التعليم وتحديث الخطاب الديني ، كي تبقي حجب الظلام مسدلة على المجتمعات العربية. في الإحصاءات الدولية تتردى الدول العربية في ذيل قوائم إصدارات الكتب أو ترجمتها أو نسبة مطالعة الكتب بين أفراد المجتمع. وحسب إحصاءات اليونيسكو فإن نسبة 26 بالمائة فقط من القراء يبحثون عن المعبومات في قراءاتهم. شهدت معدلات القراءة وإنتاج الكتب ونسخها وتداولها في الوطن العربي حالة من التراجع خلال العقود الأخيرة، فوفقاً لتقرير التنمية الثقافية للعام 2011 الصادر عن «مؤسسة الفكر العربي» وتقرير «التنمية البشرية» للعام 2012 والصادر عن «اليونسكو»، فإن الأرقام مُحبطة، وتتجلى في معدلات متدنية لطباعة الكتب وقراءتها . كما أن نسبة الأمية عالية بالنسبة للدول الأخرى . وتشير الإحصاءات أن كل 80 مواطناً عربياً يقرأون كتاباً واحداً في السنة. في المقابل، يقرأ المواطن الأوروبي نحو 35 كتاباً في السنة، والنسخ المطبوعة من كل كتاب عربي تقارب 1000 أو 2000 وفي أميركا 50 ألف نسخة.

يُترجَم سنوياً في العالم العربي خُمس ما يُترجَم في دولة اليونان الصغيرة، والحصيلة الكلية لما تُرجم إلى العربية منذ عصر الخليفة العبّاسي المأمون إلى العصر الحالي تقارب الـ10000 كتاب، وهذا العدد يساوي ما تترجمه إسبانيا في سنة واحدة.

شهد منتصف القرن الماضي نهوضا عاما في حركة التأليف والنشر مع تصاعد حركات النضال الوطني ضد السيطرة الامبريالية. انفتحت الشعوب العربية على النضال الوطني ومن ثم على العالم، وراحت تتعرف على تفاصيل الحياة الدولية. في الأردن تكاثر عدد دور الكتب، توفر الكتاب للقراء من الدول العربية المجاورة. معظم المطبوعات دارت أبحاثها حول تحليل الوضع العالمي والكشف عن دور الامبريالية على الصعيد العالمي . غدت مطالعة الكتب واجبا وطنيا لدى الشباب، وكانت الأحزاب الوطنية تحث على القراءة ، وكرست نسبة من جلسات المنظمات الحزبية لمناقشات فكرية تتعلق بالنظرية والسياسة. كما تعددت اللقاءات السياسية الجماهيرية، وكثيرا ما تحولت مناسبات أفراح او زيارات شخصية وطنية الى مهرجانات تلقى فيها الخطب تحلل الأوضاع المحلية والإقليمية و الدولية .

وبفضل الحريات السياسية النسبية في خمسينات القرن الماضي انتظمت أعداد من المعلمين في الأحزاب الوطنية، واحتضنت المدارس الفكر الوطني وارتقت العلاقة بين المدرسين والطلبة ليسودها قدر من الاحترام والرفاقية. تعاظم اهتمام الطلبة بقضايا المجتمع ونضجت مبكرا لدى جيل الشباب قيم الاعتماد على النفس والثقة بالذات والبحث عن المعرفة. توجه طلاب التعليم العالي الى الأقطار العربية المجاورة ، وانتظم معظمهم في أحزابها الوطنية .

بعد الانقلاب على الحكومة الوطنية تشكل جهاز المخابرات العامة يقمع المعارضة ويشرف على المدارس. جرى الحجر على الحريات العامة وفصل المعلمون الوطنيون من التدريس وفرض على الجميع الإذعان لنظام الاستعمار الجديد تديره الامبريالية الأميركيةـ وتشيع الاقتصاد الاستهلاكي والثقافة الاستهلكية ، يغريان بالفساد الإداري والأخلاقي والتفكك الاجتماعي. باتتت الاحتكارت تقدم الرشوات بهيئة عملات للمتنفذين مقابل استيراد اجهزتها ومعداتها العسكرية والمدنية. سلم جهاز التربية الى الإخوان المسلمين ، مكافأة. اولى الإخوان العناية بالتعليم بدءًا من رياض الأطفال وفرزوا من بين صفوفهم مشرفين أصحاب خبرة ، خاصة على الغلمان فوق العاشرة ، ممن يتوسمون فيهم الذكاء ليحصنوهم ضد الأفكار العلمانية والفكر الوطني.

توالدت بالنتيجة في كنف الاستعمار الجديد ثقافة استهلاكية تعايشت مع ثقافة سلفية وتوزعت الأجيال ما بين الفكر السلفي وبؤر الانحلال الأخلاقي . أنشئت الجامعة الأردنية واخضع نشاط الطلبة لمراقبة إرهابية حثيثة، فتضاءلت بالتدريج نسبة العناصر الوطنية بين المهنيين والمثقفين. كان عقد الستينات مقدمة وتمهيدا لعدوان حزيران وللاحتلال الإسرائيلي ، الذي دهم مجتمعا مرهقا مستسلما . حاكمية السلفية مهدت للتبعية للأجانب، ” تقضي التبعية في النهاية الى تكريس حاكمية من نوع لا يخطر للخطاب الديني على بال:انها حاكمية الغرب الراسمالي، الذي يمتلك المعرفة ، ويمتلك أدوات إنتاجها، ويمتلك، من ثم، حق اتخاذالقرارات المرتبطة بمصير العالم، وبمصير العالم العربي والإسلامي خاصة[ نصر حامد ابو زيد:النص ، السلطة، الحقيقة ، الفكر الديني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة – المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2199، ط7 –ص147].

يؤكد إيلان بابه في كتابه “أكبر سجن على الأرض” ان قيادة الجيش الإسرائيلي أعدت خطة حكم الضفة الغربية عام 1963؛ حملت الخطة اسم “شاكهام”، رئيس اللجنة التي كلفت بوضع الخطة. ويكتب بابه أن القيادة الصهيونية تعرضت لنقد شديد إذ أبقت الضفة الغربية خارج سيطرة الدولة. “بعيدا عن أي تبرير آخر لاستعادة ‘ قلب الوطن اليهودي’ كانت فكرة الاستعادة هذه راسخة بعمق في المناهج والنصوص التعليمية المدرسية في النظام التربوي الإسرائيلي، وكذلك ، كما أشار توم سيغيف ، كانت في العاب الأطفال التي تضمنت خرائط لإسرائيل ممتدة على كامل مساحة الضفة الغربية وتفترض وقوعها في قبضة الاحتلال”[53]. أفكار ومعارف بقيت مجهولة حتى الزمن الراهن لدى عالم السياسة والثقافة في فلسطين، فمضت في متاهة التفاوض او عطالة الانتظار. “في مطلع خمسينات القرن الماضي فكر بن غوريون ثلاث مرات في ضم الضفة الغربية بالقوة الى الدولة اليهودية” [50]. مباشرة بعد وقف العمليات العسكرية شرع القادة العسكريون ومدراء عامون الوزارات مداولاتهم التي أسفرت خلال ثلاثة أشهر عن قرارات” حكمت جميعها ، بشكل او بآخر،على سكان الضفة الغربية وقطاع غزة بالسجن المؤبد داخل السجن الأكبر والأضخم في التاريخ المعاصر “[بابه21] . أدخلت قوانين تعود لعهد الانتداب يجيز الحبس لمدد طويلة ” شجبها جميع القادة الصهاينة واعتبروها تشريعات نازية ؛ كما وصفوها بانها أنظمة ‘لامثيل لها في اي بلد متنوروبأن المانيا النازية ذاتها لم تفرض مثل هذا الأنظمة’ “[بابه 19] . ” أنشئ السجن الضخم في يونيو 1967، لا للإبقاء على الاحتلال بل كاستجابة عملية للشروط الإيديولوجية المسبقة للصهيونية: أي الحاجة الى السيطرة على أوسع مساحة ممكنة من فلسطين التاريخية ، وخلق أكثرية يهودية مطلقة فيها ، بل وحصرية إن أمكن”.[بابه23 ]. لم تحس الجماهير بمضايقات السجن الجديد لأن الحياة قبل الاحتلال لم تكن أفضل . كم تبدو المفاوضات واوهام السلوك مهزلة وسذاجة سياسية في ضوء هذه الوقائع!

“برزت الحاجة للاحتفاظ بالأراضي من دون طرد السكان منها ، ومن دون منحهم الجنسية في الوقت نفسه. تلك هي المعايير او الفرضيات الثلاثة التي لم تتغير حتى يومنا هذا ، وهي تبقى الثالوث غير المقدس لتعاليم التوافق الصهيوني[29] . في ضوء الأقانيم الثلاثة نفهم إقدام شارون على ترتيباته في قطاع غزة دون استشارة طرف فلسطيني. جميع قضايا فلسطين تخص إسرائيل وحدها. “بالنظر الى المشهد التاريخي العام ، يمكن اعتبار المحطات الرئيسية المذكورة في هذا الفصل -1948،1957، 1958، 1967- مراحل من مشروع استعماري متواصل هدفه تهويد فلسطين وسلبها هويتها العربية. في 1967 لم تكن إسرائيل تواجه اي أخطار وجودية”[93].

بينما كانت إسرائيل تحكم قبضتها على الضفة والقطاع بحكم كونها ” قلب الوطن اليهودي “، تلاحقت اكتشافات الباحثين في آثار فلسطين خلال الثلث الأخير من القرن الماضي، وكلها تشكك في روايات التوراة. والمؤسي ان جميع معطيات التنقيب الأثري ، والتي غامر المنقبون بالإفصاح عن نتائجها غير السارة للصهيونية وحلفائها والمؤججة لأحقادهم.. إن هذه المعطيات بقيت مخزونة على أرفف الكتب. حسم شكوك المنقبين عبر النصف الثاني من القرن الماضي العلامة توماس تومسون، فقدم رؤية متكاملة عام 1992استحوذت على انتباه علماء الآثارفي كتابه العلمي “التاريخ المبكر لشعب إسرائيل من المصادر الآركيولوجية المدونة”. ظهر توماس تومسون في ميدان الآثار ليفسد الزفة المقامة بمناسبة توحيد القدس. أورد في كتابه ” إن مجموع التاريخ الغربي لإسرائيل والإسرائيليين يستند إلى قصص من العهد القديم تقوم على الخيال” قدم كيث وايتلام عام 1996 عرضا لمنجزات الآثاريين في كتابه “اختلاق إسرائيل القديمة طمس التاريخ الفلسطيني”، نقَض بمنطق العلم الرواية الصهيونية -الامبريالية حول فلسطين من أساساتها.

اجمل البروفيسور كيث وايتلام ، أستاذ الدراسات الدينية في جامعة “ستيرلينغ” في سكوتلاندا، نتائج البحوث الأثرية في كتابه “اختلاق إسرائيل القديمة إسكات التاريخ الفلسطيني”. اجمعت البحوث على تلفيق تاريخ قديم مزعوم لإسرائيل. سجل وايتلام على المثقفين العرب تقصيرهم في الاستفادة من بحوث الاستشراق وضعف اهتمامهم بالتاريخ الفلسطيني القديم. فضح كيث ويتلام بجرأة كل زيوف الآثاريين التلموديين، وقامت الدكتورة سحر الهنيدي بترجمة الكتاب إلى العربية وصدر ضمن سلسلة ” عالم المعرفة” (عدد249 عام 1999). نقلت صحيفة (تايمز ليتراري سبليمينت) تصريحا للمفكر إدوارد سعيد ( 21 نوفمبر1996 ) حول أفضل كتاب قرأه ذلك العام فأجاب :”إنه كتاب كيث ويتلام، عمل أكاديمي من الطراز الأول ، أسلوبه بالغ الدقة ، وكاتبه يتمتع بجرأة كبيرة في نقده لعديد من الفرضيات حول التاريخ التوراتي.” قدمت المترجمة للترجمة العربية بدراسة القت الضوء على جريمة الاستشراق والمسيحية الأصولية بحق الشعب الفلسطيني. وحسب استنتاج وايتلام “التاريخ التوراتي والكشف عن الكنوز الأثرية في المنطقة قد استخدمتها القوى الغربية لمصلحتها في صراعها على الهيمنة السياسية وإضفاء الشرعية على طموحاتها الاستعمارية… ويمكن تطبيق هذا المبدأ على جميع دول المعمورة [وايتلام : 39].

سبقت الاكتشافات العلمية تنقيبات مغرضة أجراها وليم فولبرايت من المدرسة الأميركية، أسقط طابع الأحداث الجارية في فلسطين في عشرينات القرن العشرين – الوقت الذي اجرى حفرياته – على بنية إسرائيل القديمة وسيناريو تأسيسها، فجاءت نسخة عن العصر الحديث. في كتاب الفه اولبرايت في عقد الثلاثينات، اورد فيه مجزرة أريحا المدعاة على يدي شاول المزعوم، ليبرر مجازر إسرائيل في العصر الحديث : “لا يمكننا الارتقاء روحيا إلا من خلال الكوارث والمعاناة ، بعد التخلص من العقد النفسية ، وذلك عن طريق التطهر . وهذا التنفيس والتطهر العميق هما اللذان يرافقان التحولات الرئيسة . كل فترات المعاناة الذهنية والمادية هذه ، والتي يتم فيها إعادة القضاء على القديم قبل ولادة الجديد تثمر نماذج اجتماعية مختلفة عقيدة روحانية أعمق [ وايتلام : 131]. ولم يجد غضاضة في الاستشهاد بإبادة السكان الأصليين في أميركا، وذلك لتبرير ما يدبر ضد الشعب الفلسطيني. لدى استعراض كم كبير من معطيات قدمها من سبقوه أو جايلوه. بناء عليه أكد وايتلام ” إذا تمكنا من تغيير المنظور الذي تنبع منه التصورات لنبين أن خطاب الدراسات التوراتية قد اختلق تاريخا كثيرا ما يعكس حاضرها في كثير من جوانبه ، عندئذ فقط يمكن أن نحرر التاريخ الفلسطيني[وايتلام : 321].

كان من واجب القيادات السياسية والمثقفين الفلسطينيين أن يتلقفوا كتاب وايتلام مستلهمين كنوزه المعرفية في الرد على الأكاذيب الإسرائيلية وإفشال مراميها ، لا سيما وأن ظهور الكتاب تزامن مع إٌدام نتنياهو، بتحريض من المحافظين الجدد بالولايات المتحدة ، لرفض الانسحاب من الأراضي المحتلة والإيغال في الاستيطان بهدف التضييق على السكان الفلسطينيين كي يضطروا الى الرحيل.

نجم قصور السياسة والثقافة الفلسطينيتين عن تقليد الاستهانة بالثقاقة؛ وهو تقليد يعود الى عشرينات القرن الماضي، حين أدارت القيادة القومية الظهر لبراهين المثقفين من امثال خليل السكاكيني وخليل بيدس ونجيب نصار، وراحت تسعى لدى الانتداب البريطاني كي يوقف الهجرة اليهودية ، جاهلة او متجاهلة ان الانتداب وسيلة لتجسيد وعد بلفور البريطاني على الأرض الفلسطينية ، وانتدب الصهيوني هربرت صمويل ليكون اول مندوب سام على فلسطين ، يضع القوانين ويصدر القرارات الكفيلة بتسهيل الاستيطان اليهودي بفلسطين. عبثا حاول المثقفون واليسار السياسي ثني القيادة القومية عن تسول سدنة المشروع الصهيوني. استمرت القطيعة بين السياسة والثقافة حتى الوقت الراهن ، باستثناء مثقفين قبلوا ان يكونوا ديكور في مكاتب القيادات السياسية.

كشفت هزيمة حزيران عن مدى التخلف الكامن في المجتمعات العربية كافة؛ ومن جهة مقابلة استفزت البحوث الاجتماعية المتحرية عوامل الوهن في المجتمعات العربية. برز بغعد حزيران كوكبة من المثقفين ممن هزتهم هزيمة حزيران فبحثوا في مظاهر تخلف ووهن العالم العربي وانكساراته المتتالية. برزت مؤلفات ” مقدمات لدراسة المجتمع العربي” للأكاديمي هشام شرابي 1974، و”التخلف الاجتماعي سيكولوجية الإنسان المقهور لعالم النفس الاجتماعي مصطفى حجازي 1983، ومؤلفات في علم النفس لعلماء آخرين. ثم ظهر عام 1988 كتاب “البنية الأبوية إشكاليات تخلف المجتمع العربي” وصدر مترجما الى العربية عام 1992. صدرت مؤلفات عديدة في العلوم الاجتماعية والتربوية والأنثروبولوجية وفي التاريخ العربي. تكاملت نتائج البحوث عن معارف علمية شملت جوانب الحياة الاجتماعية العربية، ترشد نضالات التحرير الاجتماعي والقومي، وتشحنها بعناصر القوة. حقا حثت إسرائيل الخطى لانتهاز الوهن العربي، والأردني خاصة لاستكمال مشروعها في فلسطين. وإسرائيل قطعة من عالم الغرب الامبريالي. كان الدكتور شرابي، اول من انبرى للبحث ضمن مستوى رفيع من الخبرة العلمية ، إذ كان محاضرا في جامعة أميركية؛ كذلك هزه من الأعماق في ظروف الهزيمة، وأثر فيه ماركس في صيف 1967 . من منطلقات الفكر الماركسي وطبقا للمادية الجدلية، راح يحلل المجتمع العربي الخاضع لنفوذ الامبريالية وتاثيرها ، وذلك في مؤلفه الصادر عام 1974 ” مقدمات لدراسة المجتمع العربي” :” عبّر نيتشه عن ظاهرة الخبل الكامنة في صميم مجتمعات الغرب بلغة الشعر والفلسفة ، وعبر فرويد عن الظاهرة بلغة التحليل النفسي وعلم النفس ، وكشف ماركس بلغة النقد الاجتماعي والجدلية التاريخية، واتفق جميعهم على ان هذا المجتمع الغربي لا يقوم فقط على الاستغلال والقهر والعنف، بل أيضا على مقدرة هائلة على الكذب والتمويه على النفس وحجب الحقيقةعن الذات “[مقدمات لدراسة المجتمع العربي-ص 65].

تزامن عدوان حزيران مع تمدد الليبرالية الجديدة في الأقطار العربية كافة، وكان لها تأثير منهك في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية . دعمت الليبرالية الجديدة كل ما ثبته الاحتلال بعد عدوان حزيران في جميع أنحاء العالم العربي. حملت الليبرالية الجديد عنصرية الغرب. رصد صحفي التقصي، جوناثان كوك، في إحدى مقالاته، بعض تجليات ثقافة الليبرالية ونموذجها داخل إسرائيل “الرواية الفلسطينية تعرض مشوهة باعتبارها عداءًا للسامية… . ضمن نظام التصنيف هذا نحن ابناء الله وغيرنا اناس سيئون. نحن النظام وهم الفوضى. يكمن مصدر استمرار ية رواية الغرب في فائدتها للنخب المسيطرة ؛ فهي مكرسة لتخليد سلطتها عن طريق شرعنتها، وجعل التوزيع غير المتوازن والجائر أمرا طبيعيا لا غبار عليه”.

حين يستهين السياسيون بالثقافة في نشاطهم العملي، ويكابد الشباب الفلسطيني الحرمان بسبب البطالة ، يجري التركيز على الشباب بوجه خاص لإغرائه بعالم الإثارة والمتع الحسية وشهوات الاستهلاك باعتبارها قيما راقية يتم هدرالوعي ويسهل الانجرار وراء ثقافة الليبرالية الجديدة . يعلق هشام شرابي على الظاهرة فيقول : قوى الهدر الخارجي لا يقيض لها النجاح إلا بمقدار ما يتحول الهدر الخارجي الى هدر داخلي.”[مقدمات 37]. خطر يفرض على الثقافة في فلسطين التصدي له وإفشال مراميه حفاظا على معنويات الشباب وإبقائهم احتياطا، على الأقل، لتيار التغيير الديمقراطي. تزامن مكتشفات العلوم الإنسانية مع سطوة الأنظمة الأبوية والحجر على قوى التغيير الاجتماعي وتمدد ثقافة الليبرالية الجديدة، فتعطلت الاستفادة من هذه الاكتشافات العلمية؛ حيث استقرت على رفوف الكتب.

مخدرون بأفيون العنصرية

كتب هيرتزل عام 1895، وكان في حيرة أين ستقام ” الدولة اليهودية “، ان شعبه اليهودي سوف ينعزل بدولته المرجوة عن أصحاب الديا ر، السكان الأصليين. ومن قبل، عام 1891، رصد أشر تسفي غينزبرغ، المكنى احد هعام، إثر جولة قام بها في فلسطين من “كانوا عبيداً في منافيهم” و “العبد غدا ملكا في بلاد لا حدود لحريتها في قُطر مثل تركيا… فيعاملون العرب بعداء وقسوة”. وفي العام 1907، تزعم الحركة الصهيونية مثقفون وكتاب إثر وفاة هيرتزل بازمة قلبية عام 1904، ترددت في كتاباتهم تطلعات العيش المشترك مع العرب والأخذ بأيديهم للنهوض؛ فزجرهم كلاوزنر في مقالة نقدية. قال كلاوزنر، الذي رحل الى فلسطين عام 1919، وعمل ملهما في النظرة العنصرية لوالد نتياهو ، بن زيون نتنياهو،” منذ ألفي عام ونحن نعيش بين أقوام متحضرين، ولم نأت الى فلسطين للاندماج”. لا يجوز التفكير في الاختلاط والتعايش مع من وصفهم ” أشباه متوحشين”. منذ ذلك الحين ومقولة ” أشباه المتوحشين” تخفي وراءها مصائب القتل العشوائي والتهجير وتدمير الممتلكات. عجز مزمن عن التكيف مع الواقع اوقع المجتمع اليهودي في هلوسات العنصرية، تداعت من حكايات التوراة ومن ثقافة عنصرية افرزتها في أوروبا تطلعات الغزو الامبريالي؛ وفرضت واقعا متخيلا ونظام أبارتهايد يكاد ان يكون سجنا يحكم الحصار، بفضل دعم السيطرة الامبريالية على بلدان المنطقة. فصل في بنية السجن الأكبر الاكاديمي والمفكر إيلان بابه في كتابه الجديد “أكبر سجن على الأرض”. هذه المقالة تنقل عن بابه ما أورده في كتابه المشار اليه. نقل بابه عن رئيس الاستخبارات العسكرية شلومو غازيت، الذي عمل عام 1967 اول منسق للحكم العسكري، قوله : ” إسرائيل أرادت للفلسطينيين مواجهة البطالة والنقص في الأرض والمياه والتدمير، وهكذا يمكن ان نخلق الأسباب المؤدية لرحيلهم عن الضفة الغربية وغزة [290] . حالة وجودية يمكن ان تتشكل في أي يوم وأي لحظة، جراء هدم المنازل وتخريب البنية التحتية واقتلاع الأشجار والتهجير والقتل العشوائي وشح المياه والبطالة العامة بمجرد “غلق الحدود” وما من حدود لدولة إسرائيل. كان هدف عدوان حزيران وضع الفلسطينيين تحت تهديد تلك الحالة بحيث تضطرهم الى المغادرة “طواعية”. وكان للأميركيين هدف آخر، الى جانب خدمة مشروع الصهيونية بفلسطين، إفشال خطة عبد الناصر لطرد الأميركيين من المنطقة؛ قتغدوا به قبل ان يتعشى بهم؛ إذ وجهوا لطمة زلزلت نفوذه بالمنطقة. “أحاطت هالة تكاد تكون الاهية بصانعي القرار( الإسرائيليين) في تلك الحقبة، وشجعتهم على اتخاذ قرارات صارمة ذات عواقب تاريخية ، عجزت الحكومات اللاحقة عن تغييرها أو إبطالها[23]. قرارات أثبتت انها امنع من حواجز الأسلاك المكهربة. كما ارتفعت أسهم إسرائيل داخل الولايات المتحدة ونشطت حركة التضامن معها وتبني مشروعها .

حظر على الفلسطينيين المبدأ التاح لكل شعوب الكرة الأرضية- حق تقريرالمصير؛ “كان المطلب الرئيس المفروض على السكان ان يقبلوا بان لا رأي لهم على الإطلاق بتقرير مستقبلهم”[98]. وضع الفلسطينيون بين خياري الجزرة والعصا ؛ ” أما العصا فلم تكن اقتصادية بالدرجة الأولى ، بل تضمنت قضاء شاملا على كرامة الإنسان وحريته وغالبا على حياته في مواجهة اي فعل فردي او جماعي، تخريبي او اعتبر تخريبيا حسب نظرالحكام الجدد “[177].

بتأثر بالغ كتب بابه: “لا يستسيغ هذا الكتاب استخدام مصطلح ‘ احتلال’، ولهذا التحفظ محددان : الأول ان المصطلح يوحي بوجود فصل وهمي بين إسرائيل والأراضي المحتلة، ما يشرعن بطريقة غير مباشرة الوجود الإسرائيلي في كل المناطق الأخرى على ما كان يعرف بأرض فلسطين الخاضعة للانتداب، كما يؤسس للانقسام غير المقبول بين إسرائيل ‘الديمقراطية ’ والأراضي المحتلة ‘ غير الديمقراطية’.

“اما التحفظ الثاني فيتعلق بالتداعيات السياسية والقانونية التي غالبا ما تقترن بمصطلح ‘احتلال’، فالاحتلال ينظر إليه عادة على انه تدبير مؤقت لتأمين أرض في أعقاب نزاع مسلح أو حرب. وتكون لهذا الاحتلال بداية ونهاية، وهو يخضع لأخكام وقواعد دولية تنبع من الطابع المؤقت لأي احتلال مفترض”[36-37] . وأضاف :” السلطات التي تتشبث بالأرض المحتلة وتلك التي تؤيد ‘المحتل’ تتقبل ان واقع ‘ الاحتلال’ سيدوم لسنوات طويلة قادمة…. اما الناحية الثانيةعن حالات الاحتلال العسكري المعروفة فتكمن في ان المحتل يمارس سيطرة كاملةعلى الضفة والقطاع …جزءا من عملية منهجية للإقصاء او الإبادة الجماعية لذلك فإن الحد الذي وصلت اليه ممارسات السيطرة الكاملة على ما صار يعرف بالأراضي المحتلة يدفعنا الى البحث عن مصطلح لغوي أفضل” [37].

عمليا اندمجت فلسطين التاريخية من جديد في بيئة عنصرية – أبارتهايد – ينجز مجتمع التقدم والازدهار بينما يتم إفقار المجتمع الثاني بلا حدود. بيئة نسفت بدعة الديمقراطية والليبرالية، حيث يشكل اضطهاد مجموعة عرقية غير يهودية المعلم الأبرز في نظامه السيسي والاقتصادي.

يناشد بابه أصحاب الضمائر الحية: “أهدي هذا الكتاب الى اولئك الذين حاولوا بلا كلل تنبيه البشر الشرفاء الى اهمية عدم الاكتفاء بالوقوف متفرجين فيما يعامل ملايين البشر بطريقة وحشية ومذلة ، لمجرد انهم ليسوا يهودا.[32]. فقد حسمت قوى العدوان الأمور وارتأت أنها وحدها باتت تقرر شئون المنطقة بأسرها وليس فلسطين فقط. “كان مجلس الوزراء وقيادة الجيش على ثقة مطلقة بأن “لامبالاة الدول سنة 1948، عندما سيطرت الحركة الصهيونية على 78 بالمائة من فلسطين” سوف تتكر عام 1967؛ “ولهذا كانوا مقتنعين بأن المجتمع الدولي سيسمح لهم مرة جديدة بالقيام بخطوات أحادية الجانب بعدما احتل الجيس الإسرائيلي ال 23 بالمائة المتبقية من الأرض” [26]. كانت وعود الجلوس حول طاولة المفاوضات او إعادة النظر في الإجراءات المتخذة ذرا للرماد في العيون، و” النقاشات السياسية المزعومة التي دارت بعد ذلك ، بين ‘معسكر السلام’ و ‘معسكر الحرب’ في اسرائيل عديمة الأهمية في أفضل وصف لها ، وكاذبة في أسوأ وصف. وإن كان هذا التقييم صحيحا فمعناه ان عملية السلام المتمحورة كليا حول هذا ‘ النقاش’ كانت محكومة بالفشل منذ لحظة انطلاقها” [41].

لم يك بد من التحايل والمراوغة، إذ كان ذلك من أساسيات نهج السياسة الإسرائيلية، نظرا لأنها لم تحمل للعالم مشروعا تحرريا وتقدميا، بل مغامرات قرصنة دولية. “حددت الحكومة الإسرائيلية مواقع استيطانية لليهود ضمن أسافين دقتها في الضفة والقطاع؛ “ينظر في هذا الكتاب الى ان المستوطنين اليهود ومستوطناتهم على انهم وسيلة لتضييق الفسحة التي يعيش فيها الفلسطينيون وتقليص اعدادهم في الأراضي المحتلة ، أكثر منهم استجابة لرغبة ايديولوجية صهيونية في التوسع نحو باقي ارض فلسطين[42]. اتخذت القيادة الإسرائيلية ” قرارا واضحا بشأن النظام القضائي الذي سوف يُعتمَد لإدارة شئون السكان في الأراضي المحتلة؛ لكنها تركت مسألة تحديد وضعهم القانوني في مهب الريح (وهي لا تزال كذلك حتى يومنا هذا) [49] .

ترسخ في إلإعلام إسرائيل نهج المخاتلة والمراوغة ، يقول المسئولون الشيء ونقيضه. اكتست جميع جدران البلدة القديمة في القدس بملصقات تدعو جميع الفلسطينيين الراغبين في الانتقال الى الأردن الى تسجيل اسمائهم في محكمة المدينة..أعطوا مهلة خمسة ايام للانتقال طوعا [111]. وفي 19 يونيو 1967 افاد مدير الأنروا بالأردن ان 100 الف لاجئ جديد وصلوا الضفة الشرقية ، ومعظمهم لاجئون للمرة الثانية…. وسوف ينضم اليهم كثيرون آخرون فيما بدأت الحكومة الإسرائيلية في توطين اليهود مكانهم في منطقة القدس الكبرى”[188].

” ابتدع مصطلح ‘الترحيل الإرادي’ تسمية أخرى للتطهير العرقي”[107]. في أيام الاحتلال الأولى رحل سكان احياء من القدس .” رحيل جماعي ’طوعي ‘ بادر اليه الفلسطينيون من القدس عبر جسر اللنبي المدمر. هذه الازدواجية في الكلام ستتتحول الى إحدى سمات التغطية الإعلامية الإسرائيلية ‘التي ما زالت قائمة حتى اليوم”[186]. …”راح الإسرائيليون يطلقون أكاذيب سافرة بدون ان يرف لهم جفن، ما ادى الى نشوء لغة مضللة. فعلى سبيل المثال تحدث حاييم هيرتزوغ ،الحاكم العام للقدس الذي اصبح لاحقا رئيس دولة إسرائيل، عن رغبة الفلسطينيين في لم شمل عائلاتهم في الأردن”[187].

“تبرز من كنز الحكومة وأرشيف الأمم المتحدة الدفين خمس قضايا مروعة : التدميرالشامل للبيوت في قلقيلية، وترحيل اعداد كبيرة من طولكرم، والترحيل الجماعي لحوالي خمسين الف لاجئ من اريحا وتدمير ثلاث قرى في اللطرون ؛ وأخير تدمير قريتين في منطقة الخليل، إضافة الى طرد السكان من قرى كبيت عوا وعددهم 2500 شخص وبيت مرسم وعددهم 500 نسمة[ 191].

وحسب تقدير دايان – وكان صريحا في تصريحاته- بلغ عدد النازحين جراء سياسات الطرد ، الإسرائيلية 20 الفا في ذلك الوقت من يونيو[192]. زعم دايان بان الأمر مجرد ‘‘رحيل طوعي ‘رحيل طوعي’، في توصيف لغوي مخادع ومالوف للتطهير العرقي عام 1948، والذي لعب فيه دايان دورا رئيسا”.[197].

و”بحسب مصادر الأمم المتحدة فقد طردت إسرائيل نحو 189 الف فلسطيني”[205].

راح مجلس الوزراء” يفكر في وسيلة لتجميع كل الفلسطينيين في مكان واحد يكون عبارة عن

‘كانتون حكم ذاتي’”[102]. ألحقت المناطق المحتلة بوزارة الدفاع ، إلا ان “وزير الداخلية، حاييم موشيه شابيرا، فهم انه سيترتب اعتماد لغة مزدوجة لمخاطبة المجتمع الدولي.. معظم الوزراء كانوا على قناعة بعدم الحاجة لاعتماد لغة مزدوجة في مسألة القدس، وشددوا منذ البداية ان تلك المسالة ستبقى دائما خارج إطارأي مفاوضات مستقبلية”[112]

“من جهة كان يطلب من الشعب الأميركي مساندة داوود الضعيف يعيش في ‘خطر وجودي دائم’

ممثل في احتمال حصول هولوكوست وشيك، ومن جهة أخرى يُعمل على إقناع الإدارة الأميركية بان إسرائيل قوةعسكرية لا تقهر، ورصيد قيم في الحرب الباردة التي تخوضها الولايات المتحدة آنذاك”[118].

بنتوف ، وزير الإسكان من (اليسار الصهيوني) اقترح فكرة عدم الانسحاب من الأراضي المحتلة “قبل التوصل الى إبرام معاهدة سلام”. راقت العبارة لبقية الوزراء.. “ومنذ ذلك الحين بات طرح معاهدة سلام كشرط مسبق للانسحاب، هو المنطق الإسرائيلي الأساسي، وعذرا لتعزيز الاحتلال ورفض اي تسوية جديدة مع اي طرف كان يمثل الفلسطينيين”[106] . ومع الوقت اصبحت عبارة ” لا يوجد شريك للسلام” شرطا رائجا يستخدمه الساسة الإسرائيليون لتبريرفعالهم العدوانية ضد السكان العرب. لخص (يوسف) بورغ الأمربالقول “سوف نحكم قبضتنا على الأراضي لمدة طويلة جدا، فيما ندعي امام الخارج اننا نريد إحقاق السلام”[127].

وجدت إسرائيل فوائد جمة في ازدواجية التضليل الإعلامي. ” خلال عقد السبعينات ، وهي الحقبة التي تغنّى بها المؤرخون ووصفوها بأنها فترة رخاء فلسطيني بإشراف إسرائيلي ترافق الاستعمار الاقتصادي المنهجي مع إهمال تطويرالبنى المحلية التحتية في الأراضي المحتلة. الضفة والقطاع كانا مجرد مصدر للعمالة الرخيصة وسوق اسير للبضائع الإسرائيلية. روجت الدعاية ل‘مجتمع عربي بدائي’ فرصة ذهبية لفتح صفحة جديدة في التاريخ الاقتصادي للشرق الأوسط”[ 235].

المفارقة الأبشع ادعاء إسرائيل أنها دولة ديمقراطية بينما تمد ذأذرعها الأخطبوطية على شعب تضطهده وتحاول خنقه . مفهوم الاحتلال يطمس واقع الأبارتهايد.

وعندما تفجرت الانتفضة عام 1987، أخفت إسرائيل حقيقة أن الانتفاضة رد فعل على المعاملة اللاإنسانية تحت وابل من الدعاية؛ فزعمت ان “من اطلقت الانتفاضة كانت قوة سياسية جديدة حماس . برزت حماس على الساحة “[276] حدث ذلك ابان احتدام ظاهرة الإسلاموفوبيا؛ الدولية . “هكذا فإن حماس ، وفي آن واحد ،عقّدت حياة الإسرائيليين، وساعدتهم في وسم النضال الفلسطيني بانه جزء من قوة اسلامية مناهضة للغرب ومنخرطة في الصراع بين الحضارات. وهذا هو السبب وراء اعتقاد عدد كبير من الباحثين الذين كتبوا تاريخ حركة حماس ان اسرائيل لعبت دورا مهما في تأسيسها وبروزها[277].

عقدت اتفاقية اوسلو عام 1993 مقنّعة بمسعى التسوية السلمية ؛ “علينا الإقرار أن عملية اوسلو لم تكن سعيا عادلا ومتوازنا الى السلام ، بل مساومة أقدم عليها شعب مهزوم ومستعمَر . وبالنتيجة اجبر الفلسطينيون على السعي ألى حلول سارت ضد مصالحهم وعرّض وجودهم ذاته للخطر. [206]. … “نوعية الحياة للفلسطينيين أصبحت بعد الاتفاق أسوأ بكثير مما كانت عليه قبله”[314].

المستغرب ان القيادة الفلسطينية صمتت بينما تكال ضدها تهم إفشال مؤتمركامب ديفيد، وعلى اوسع نطاق. يكتب بابه:”لدينا تقرير موثوق وصادق حول ما حصل في كامب ديفيد أعده حسين آغا وروبرت مالي ، من وزارة الخارجية الأميركية . نشر تقريرهما المفصل في “نيويورك ريفيو أوف بوكس”، ويبدأه الكاتبان بنفي الادعاء الإسرائيلي ان عرفات قد نسف القمة.. توضح المقالة أن مشكلة عرفات الرئيسية لدى وصوله الى القمة كانت ان حياة الفلسطينيين في الأراضي ساءت بعد اوسلو. قدم عرفات اقتراحا شديد العقلانية ، بحسب هذين المسئوليْن الأميركييْن ، وهو انه – وبدلا من ‘الاستعجال لوضع حد نهائي للصراع خلال أسبوعين- على إسرائيل اتخاذ بعض الإجراءات التي تعيد ثقة الفلسطينيين بفوائد ومنافع عملية السلام”[325].

وحسب شهادة المسئوليْن الأميركييْن رفض باراك تغيير سياسة اسرائيل تجاه المستوطنات اليهودية او وقف الإساءات اليومية بحق الفلسطينيين . موقف باراك المتشددد لم يترك اي خيار امام عرفات”[316]. ومع ذلك كذب مدعيا أنه قدم تنازلات !

كانت ” الانتفاضة الثانية تعبيرا جماعيا عن الاستياء من الخيانة في أوسلو ، فاقمه استفزاز شارون. ففي سبتمبر 2000، وكان زعيم المعارضة ، جال في الحرم الشريف ( المسجد الأقصى) بمواكبة امنية وإعلامية ضخمة ما ولد انفجارا للتظاهرات الغاضبة ” [316 ] واجهته إسرائيل بعنف لا مبرر له.

قدّر الفرع السويدي لمنظمة “أنقذوا الأطفال ” ان ما بين 23600 و 29900 طفل يحتاجون الى العلاج الطبي نتيجو إصابات لحقت بهم جراء الضرب خلال السنتين الأولى والثانية من الانتفاضة ، وان ثلثهم هم دون سن العاشرة” [276].

وحشية الإجراءات الإسرائيلية بعد فشل كامب ديفيد ” اتت نتيجة الطاعة شبه الكاملة التي أبداها النظام القضائي لنزوت الحكومة والجيش وطلباتهما. وهو ما مكن الجنرالات والسياسيين من تخطي الخطوط الحمر التي وضعها الإسرائيليون لأنفسهم. وفي منتصف التسعينات تقريبا اندمج النظام القضائي عضويا وغير مشروط في إدارة السجن الكبير. [293].

أجرى صحافيان اسرائيليان كبيران هما عوفر شيلاه ورفيف دراكر ، مقابلات مع رئيس الأركان وخبراء استراتيجيين في وزارة الدفاع .. استنتج الكاتبان ان جيش الدفاع الإسرائيلي كان يمر في صيف 2000 بحالة إحباط إثر الهزيمة المذلة التي الحقها به حزب الله، الذي اجبر الجيش على الانسحاب بشكل كامل من لبنان. تولد خوف من تاثير هذا الانسحاب على صورة الجيش بحيث يبدو ضعيفا ، ونشأت حاجة ماسة الى استعراض القوة”[317].

كتاب إيلان بابه تجسيد لتضامن مثقف يهودي شريف مع الشعب الفلسطيني ، دقق في الأرشيفات وخرج بتوصيف دقيق للسجن الأكبر، حالة وجودية للفلسطينيين مثلت في خيال المخططين لعدوان حزيران. سردية فضحت المستور الذي عجزت الدعاية الفلسطينية والعربية عن الوصول اليها، مع أنها مضمنة في أرشيفات تم الإفراج عنها . مما لا شك فيه ان للكتاب ومقالات اخرى نشرها الكاتب دورًا في الموقف شبه الإجماعي داخل مؤتمر حزب العمال البريطاني، المنعقد قبل أسابيع .

يتوجب علينا ، نحن نزلاء السجن الأكبر استلهام نص وروح الكتاب لتوحيد القوى لإطلاق الطاقات الكامنة في جماهير الشعب الفلسطيني لوأد نظام الأبارتهايد. وإذا استلهمنا مقولة عبد الناصر “ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة ، وهي صحيحة حقا، فإن الحراك الشعبي يطلق قوة هي الأقدر والقوة الغلابة؛ ذلك انه كحراك شعبي سلمي يستنفر قوى مضاعفة تمارس الضغوط على إسرائيل ومسانديها ، تعيد الى الأذهان المخدرة بالأفيون العنصري وعيها بالواقع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى