الاستخلاف والتمكين والإعمار (3)
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
يقول جارودي “فآيات الله في صحائف الكون تتلاقى مع آيات الله في صحائف الوحي تلاقيا يجعل النظرة إلى الكون أسمى، وهذا العقل المؤمن لا يعجز عن تحليل الروابط التي تصل الأشياء بعضها ببعض، والتي تقود إلى القوانين العلمية الشائعة في الوجود، وإنما يمتاز العلم المتدين بأنه يضفي على هذه القوانين معنى أشرف”(1)
هكذا يكون منطق العقل المؤمن والفطرة السوية؛ أما العقل الإنساني المنغلق على نفسه نابذا حكمة السماء، المغتر البطر بما عنده من العلم، فيظن أن خلاص البشرية في رقيه التاريخي وأن مدار الزمان سيجعل منها حاكما فردا على الكون لا يحتاج بعد ذلك إلى الإله؛ وهذا ما ارتآه فولتير في القرن السابع عشر الميلادي.. فماذا قال؟ وماذا حل بالبشرية بعد ذلك حين ارتقى العقل بالعلم في القرن العشرين والواحد والعشرين؟
يقول فولتير “إنه يمكننا أن نعتقد أن العقل والصناعة سوف يتقدمان أكثر فأكثر وأن الفنون المفيدة ستتحسن، وأن المفاسد التي حلت بالإنسان سوف تختفي بالتدريخ بين أولئك الذين يحكمون الأمم، وأن الفلسفة بعد انتشارها في العالم ستقدم العزاء للطبيعة البشرية عن الكوارث التي ستعانيها في العصور كلها”.(2)
هذا الإنسان المأفون الذي اعتمد العقل مرجعا وملاذا يركن إليه بصفته المنقذ المؤمل للبشرية، كما أن الفلسفة التي اهتدى إليها سوف تقدم العزاء للبشرية عن الكوارث التي تعانيها في العصور الفائتة والقادمة.. فهل هذا ما تحقق في قرن فولتير أو بعد قرنه، أو بعد قرنه بقرون؟!! لقد مر ما يربو على ثلاثة قرون من عهد فولتير وحتى يومنا، قفز العلم فيها قفزة خرافية طاف فيها أرجاء الكون ومهد لنفسه في جنباته، وذلل المادة، وطفر بالتكنولوجيا والرفاهية، وتجلت هيمنته في تفاصيل الكون وأعماق الأرض ودقائق العلم والحياة .. فماذا جنى؟!!
الحقائق التاريخية التي توثقها الكتابات التاريخية لا تحتاج إلى إعادة مراجعة أو تدقيق فهي تنبئ عن قليل من كثير مما أصاب هذه البشرية في هذه العهود القريبة ، كما أن الشواهد البشرية قريبة عهد بكثير مما حدث، فلا تكاد تحتاج إلى وثائق إلا للتحقق من التفاصيل لا الوقوع، ولا تحتمل اتهاما ولا الشك في شيء منها بالافتراء أو التكذيب .. إننا لا نتحدث عن عهود غابرة قد ضرب الزمان على أحداثها فعفت آثارها واندرست رسومها، إنما الرسوم لا تزال باقية والأحداث الكثير منها لا تزال جارية!!
ليست آثار الحرب العالمية الأولى والثانية عنا ببعيد، وليس ما أصاب اليابان من آثار القنبلة النووية قد ذهب أثره، وليس ما خلفه الاستعمار في الشرق ــ ما مضى منه وما بقي ــ من تغيير للهويات، وإزهاق للأرواح ، وإتلاف للأموال والموارد والعمران، بل ما أصاب البر والبحر جميعه كما ذكر القرآن “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا..”.
لا تزال جثث العبيد المزهقة ظلما والمتلفة عمدا في صحراء أمريكا راعية الحضارة، والهنود الحمر، وأفريقيا المستعبدة المنتهبة الثروات والبشر، وما قبل فولتير من ملاحم الحروب الصليبية في الشرق العربي المسلم وما بعده وما بين ذلك، ليس كل ذلك عنا ببعيد مما قدمت حضارة الغرب العلمية للعالم حتى “ظهر الفساد في البر والبحر “، فضلا عما حاق بالأخلاق البشرية والمثل التي تعورف عليها فطريا لحفظ الحياة والعمران قبل ظهور أخلاق الحضارات، وفلسفات الإنسان.
فهل صدقت نبوءات فولتير الذي اتخذ العقل هاديا والفلسفة إلها أو منقذا؟!! لقد كذب وكذبوا .. ولم تجن البشرية من فيض العلم وتحرر العقل من القيم والشرائع إلا ما نرى وما نسمع ليل نهار!! ولم ير العالم وبالا أشد وأنكى مما رآه على أيدي هؤلاء الدخلاء على التمكين في الكون الذين جعل لهم الله الدولة عقابا على البشرية عامة، وعلى أهل التمكين الجديرين به خاصة لما فرطوا وأفرطوا في منهج الله وأمانته التي ألقاها إليهم، فركنوا إلى آثار آبائهم الفاتحين، حتى عفوا وأترفوا وأسرفوا، فمالت بهم الأرض ومال عليهم شذاذ الآفاق وسفلة البلاد.
وقد ترتب على هذه السقطة التاريخية التي هوى بها أصحاب التمكين أن أقبل العقل والفكر ليعيد النظر في كل شيء، على رأسها الأخلاق والأديان والحريات والمذاهب العقدية والفكرية والفلسفية؛ ثم تراجعت مناهج السماء وتوارى أصحابها ليحل مكانهم أولياء الشيطان من دعاة المذاهب الحديثة ، ثم نمت طائفة أو نابتة من أهليها (أهل الأديان) تشكك في كل قديم وتزري به، وتدعو حتى بني جلدتها ــ لا أن يفيقوا من غفوتهم ــ إنما أن يعيدوا النظر فيما بين أيديهم من التراث ثم الأصول! وقد رموها بكل وصم للتراجع والتخلف، ونسبوا إلى ساحتها البريئة إن لم يكن الجهل، فهو القدم والتراجع التاريخي التي لا تصلح معه إلا أثرا تاريخيا يحترم ثم يوضع على أرفف النسيان ليستقبل بدلا عنه هذا الطارئ الغربي الذي أفسح للعلم هذه المكانة وأعلى قدره فوق كل قدر.
إن من سنة الاجتماع البشري الطبيعية أن يقوم على عنصرين بدهيين هما الحكم والمباديء.. أما الحكم فلابد منه لحفظ الأمن والمال والمكتسبات والأنفس، وأما المبادئ فهي التي يتعارف عليها كنظم أخلاقية وسياسية للاجتماع ؛ ولا غنى لأحدهما عن الآخر، فإن اختلت المباديء أو ضعفت قوم حالها الحكم وأعاد انضباطها، والمعنى أن سطوة الحكم تحق حين لا تجدي مرونة المبادئ..
أما الاجتماع البشري المعد حسب منهج السماء فقوامه (الحكم والشرع )، وكما قال ابن تيمية رحمه الله “سيف يحكم وكتاب يشرع”، وقول عثمان رضي الله عنه: “يوزع بالسلطان ما لا يوزع بالقرآن”، وهذا هو مناط التميكن الحقيقي الذي أراده الله “أن الأرض يرثها عبادي الصالحون”.. “، فإن دارت الدائرة حينا من الدهر على أهل التمكين الحقيقيين فهو من غياب أحد عنصري الحضارة أو كلاهما؛ وكما ذكر ابن خلدون في حالة التحقق الحضاري والاستواء فإنه لابد أن يسود خلق الترف ويتراجع خلق العدل ويضعف الحكم ويبدأ معدل الحضارة في الهبوط، ثم يؤذن لها في التراجع والتحلل القيمي والخلقي والعسكري ؛ فيعاقب الله أهل المنهج، فيجعل لغيرهم الغلبة عليهم حين تكون لهم غلبة القوة وإن غابت من نفوسهم واجتماعهم فضيلة القيم.
وهذا وإن كان تحقق حديثا مع أهل الإسلام فإنه لا يعدو أن يكون سنة من سنن الله الكونية في التمكين والاستخلاف، وقد جرى كما ذكر صلى الله عليه وسلم مع بني إسرائيل من قبلنا وقد اتبعنا السنن فاستحققنا العقاب “وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)[الإسراء].
الإحالات:
- الشيخ الغزالي ـ سر تأخر العرب والمسلمين.
- نفس المصدر