دراسة نقدية لنص: ” أخبارٌ نَاقصة ” للشاعر السوري رياض ناصر نوري
سوران محمد شاعر و مترجم و ناقد
كنت أعرف بأن ندوب الشاعر الموهوب رياض ناصر نوري متعددة و عميقة وان كلماته الرنانة الفياضة تقرع أبواب الوجدان قبل العقول، وان هذه الصرخات الشعرية قد تأسرني يوما ما، وقد أستسلم لرسالته الخالدة وأعجز عن الاحاطة الكاملة بأحاسيسه الجياشة و نضاله الدءوب معلنا نصر الشعر على رعونة و وحشية الصيادين، الذين لا يأبهون بقتل أصغر مخلوق في السماء الى أكبرهم في البراري، فبأس الصناعة هي صناعة الموت!عندما يموت الضمير والنخوة والانسانية داخل النفوس، فلا يساوي القتل بعد الا أعدادا و أرقاما بعدما شطبت الحروب الاحساس بالذنب في جوف الأنسان، بل ان جوقة الاعلام تزين الجرائم و تسمي أصحابها أبطالا بدلا من أن تطلب بجرهم الى أقفاص العدالة في سبيل اعادة اللحمة للوطن والكرامة للأنسان.
في 14 حزيران/ يونيو 2011، وسط القمع الدموي، كتب أدونيس رسالة مفتوحة إلى الرئيس في صحيفة السفير اللبنانية كمواطن . ووصف الدولة بأنها دولة بوليسية وحشية وهاجم حزب الحاكم ودعا الرئيس للتنحي وحذر من أنه “لا يمكنك سجن أمة بأكملها”.
وهو الذي کان يوءمن منذ بدايات مسيرته الشعرية بأن الأدب وحده لا يمكن أن يحقق تجديد المجتمع وأنه يجب أن يكون مرتبطًا بحركة ثورية أكثر شمولية للتجديد على جميع المستويات.
وهكذا عندما لا يستمع الوطن الی نداء الشعراء يحصل ما لم يحمد عقباه، لأن خطاب الشاعر يعتبر انسانيا بحتا و ينبع من ضمير الامة، فلا شعب دون الشعراء و لا شعراء دون الجماهير. فالشاعر الصادق منهم و لهم يشارکهم الافراح والاتراح دوما.
يقول معتز رشدي في جريدة القدس “أكتب ما شئت، بالطريقة التي تشاء، على أن تظل محتفظاً باثنين لا غنى للشعر الحقيقي عنهما: البساطة والعمق، بهما وحدهما يفتح الشعر ذراعيه لقرائه، مهما تنوعت مشاربهم وانتماءاتهم”.
من هذا المنطلق قد نرى شاعرنا الواعي الاستاذ رياض ناصر هنا لا يضحي بشعرية النص و تقنياته الفنية من أجل الخطاب والثيمة، بل نجد ان هذين العنصرين يمتدان على خطين متوازيين فوق جسم النص من أول حرفه الی آخره، ويشعر القاريء بنشوة و لذة من التفنن والتلاعب بالالغاز بحثا عن طريقة جديدة مبتكرة للتعبير والذي لم نتعود عليه في الغالب، هنا نتلمس لغة شعرية غير مباشرة ترتقي بمستوی النص من الانغلاق على نفسه الى الانفتاح نحو العالم و المزيد في الطريق آتي، وليست هذه نهاية القصة أو ختاما للنص.
ان هذه الطريقة الشيقة المسمى بالسهل الممتنع، تعطي مرونة لأستنباطات القاريء و تجعله يكتب المغزى والمقصد بنفسه حسب ما يراه على ضوء تجاربه و أبجدياته المعرفية والثقافية و قدرة استيعابه و استنباطاته.
النقطة الثانية المهمة والتي تتميز هذا النص من غيره، هي أنه يحتوي على نصين داخل نص واحد، أي ان المقاطع الاربعة الأولی هي في حد ذاتها نص مستقل و قصة مترابطة، تلونه الدم والحرمان واليأس، في حين ان المقطع الأخير هو الکتابة التعبيرية للمقاطع الأربع السابقة بطريقة مختلفة، وهذا التفنن في الأسلوب يعتبر محاولة جادة لبلوغ جمالية الشكل و لبس النص ثوبا جميلا غير مألوف.
في نظري قد نجح الشاعر في محاولته هذه و استطاع ان يعطي قيمة جمالية لشكل النص و تذكير القاريء بمضمون ما قد سلف من النص بأسلوب شيق و مختصر، كما أن المقطع الخامس يعتبر صورة شعرية مستقلة في حد ذاته، اذ ان القاريء المتمعن الحفيص يميز هذا المقطع من حيث المحتوى من المقاطع الاربع السالفة، هنا في المقطع الخامس يحلق الحمام فوق الطفلة والرجل الاعمى وضفة النهر كي يرسل الشاعر رسالته للجميع بأن الوطن سيسوده السلام و يقفل الشاعر الباب على المآسي المتراکمة التي بدءت قبل عقد من الزمن أو أكثر، هذه هي أمنية الشاعر و کل ما يملك من جهود لأعادة الامور الی طبيعتها و طي سجل أحمر ثم فتح صفحة جديدة للأجيال القادمة، ولو ان العتمة احتلت المقاطع الأربع الأولى، الا ان الخاتمة قد يکتبها الحمام السلام و هو يحلق في جو السماء دون ان يوجه الصيادون الشرسون بندقيتهم صوبه، ويد الطفلة تلوح لها في حين انها شلت و سقطت الدمية من يدها في المقطع الثاني! وهكذا ينتصر فطرة الحق على الباطل الدخيل. بالتأكيد اذا نقارن المقطع الاخير مع سائر المقاطع سنرى بأن هنالك مفارقة كبيرة بين الواقع الموءلم و يوتوبيا الشاعر الذي بناه هنا، آملا ان يتحقق في المستقبل القريب.
أما المحور الثالث في هذه الدراسة والذي اشتغل عليه الشاعر قبل الانتهاء من كتابته النسخة الأخيرة من شعرە هو اتقانه في استعمال الرموز لتزين صوره الشعرية و جعلها أكثر قوة و انبهارا لانه يستمد بلاغته من هذه الاستعارات. فهي مفردات يومية (الحمام، الطفلة، النهر، الرجل الاعمی) لكنها مرت بماكينة الابداع و قد صنع الشاعر من هذا الرخام بناءا شاهقا و متميزا، كما يتضح لنا من خلال هذه المهارة قوة التخيل والابتكار لدى الشاعر، فهو ليس فقط استطاع تغيير مسار الموضوع من الغزل الموروث الى التداول الشعري لأحداث الساعة و مواضيع يومية حساسة ذات صلة بحياة الانسان و بني جلدة الشاعر، بل هو ابتكر لغة رمزيا و مجازيا كي يتداول هذا الواقع من منظوره الشعري و الانساني و يكتب التأريخ بقلمه کشاهد على هذه الحقبة الهزيلة.
في هذا الرسم البياني قد نوءول الرموز حسب ما نراه بحيث يتناسب مع هذا التحليل فكا لشفيرات المستعملة في النص، لكن في الأخير ان الشاعر هو المرجع و هو يملك أصل المعنى، لكنني كقاريء لي الحق في النظر من زاوية قراءتي، وقد سئل الشاعر الشيلي المعروف بابلو نيرودا يوما عن الغرض من استعمال الحمام في قصائده هل له وجه مجازي يدل عليه؟ فهو أجاب ان الحمام هو الحمام.
الرسم البياني للرموز و ايحاءاتها
وفي الختام أود أن أشير الی قول للناقد رولان بارت ينقل عنه المصطفى رياني بصدد أفقية أسلوب اللغة في الشعر والذي يعطي زخما شديدا للنص و بدونه يفقد النص قيمته حيث يقول: “وإذا كان الكلام اللغوي يشكل بنية أفقية فإن الأسلوب يتخذ شكلا عموديا وكثافة لغوية ينحت عميقا في التعبير والمعنى ليصبح سرا دائما يتطلب التحليل والتفكيك والنقد”.
نص الشاعر: أخبارٌ نَاقصة
تعملُ بنادقُ الصيادينَ
طيلةَ الليلِ والنهارْ
في قتلِ الحمامِ الأبيضِ
سربًا سربًا ..حمامةً .. حمامهْ
ليسَ هو الخبرُ
الذي أريدُ أنْ أكتبَه لكمْ .
.
الدميةُ التي سقطتْ
مِنْ يدِ الطفلةِ بغتةً
لحظةَ عبرت الطريقَ ثلّةٌ من الجندِ
وما أحدثتْه عيونُ تلك الدميةِ
من علاماتٍ فارقةٍ في رصيفِ الشارعْ
ليسَ كذلكَ هو الخبرُ الذي سمعتُه
و تمَّ تداولُهُ كعاجلٍ
عبرَ الإذاعاتِ المنزليّةِ
والذي نويتُ أن اكتبَهُ لكمْ .
.
أمَّا النهرُ الذي أضاعَ
في خضمِ الحربِ
الطريقَ إلى البحرِ
ونشرتْ لهُ الغيومُ
أكثرَ من إعلانٍ مصورٍ
في صحفِ المطرْ
كي يتمَّ العثورُ عليه
ولم يتمّ حتّى اللحظة.
ليسَ كذلكَ هو الخبرُ
الذي كنت أرغبُ
أن أفسِّرَ لكمْ تفاصيلَه
عبرَ كتابةِ نصٍّ أخضرَ .
.
والرجلُ الأعمى
الذي كانَ يجلسُ منذُ ولادتِه
أمامَ النافذةِ الوحيدةِ للربِّ
منتظرًا صدورَ البطاقةِ
التي تخوِّلُهُ دخولَ مملكةِ النور
ماتَ وقوفًا
في الطابورِ منذ هنيهةٍ
كذلك ليسَ هو الخبرُ
الذي أريدُ أنْ أكتبَ لكمْ عنهُ .
.
أردتُ فقط أن أكتبَ لكمْ :
عَنْ أسرابِ الحمامِ الأبيضِ
عن يدِ الطفلةِ وهي تلوِّحُ لها
حينَ حلّقتْ بهدوءٍ
فوقَ الطوابيرِ
قبل أن تذهبَ
صوبَ ضفةِ النهرِ .