«تضفير الأسطورة» و«الواقعية السحرية» في رواية «البومة السوداء» للأديب المصري «خليل الجيزاوي»

صالح شرف الدين | ناقد مصري

رواية البومة السوداء، الرواية الثامنة في مشروع الكاتب خليل الجيزاوي الروائي، صدرت في 272 صفحة من القطع المتوسط عن سلسلة إبداعات عربية، دائرة الثقافة بالشارقة الإمارات سبتمبر 2021، وتسرد أحداث الرواية عن طريق الجدة بتقنية تيار الوعي التي تستعيد بالسرد تجربة حياة مريرة وفي صراع مستمر مع أشرار الإنس والجن، والحفيد يحفظ ويُدوّن، وينشر ما دوّنه في صورة رواية تمثل بداية سيرة ذاتية له، وفيها وفاء للجدة التي حرصت أن تنشر ما مرَّ بها إبراء للذمة، وإلهامًا لمن يأتي بعدها؛ ليصبر ويحتسب ولا يستسلم للشر، رغم أنها فقدت ثلاثة من أبنائها، فقد ظلّت قوية لآخر يوم في حياتها، ورغم أن غريمتها التي كانت تسميها (البومة السوداء) قد ماتت ذبحًا في ظروف غامضة، ولم يعثر على القاتل، ورغم ذلك حرصت أن توثق فصول سيرتها الذاتية وتحفظها لحفيدها الذي برَّ بوعده لها؛ ولأن بعض الحكايات القديمة تعدُّ من الأساطير، وصوغ الأساطير في سياق واقعي (البومة السوداء) يُعَدُّ من أحدث تقنيات الرواية الحديثة (الواقعية السحرية)، وسنجد هذا النسق يسير جنبًا إلى جنب مع تيار الوعي الذي يغلب على الرواية، ويتوازى معهما نسق ثالث (السيرة الذاتية) في نسق ظاهر تدوّن فيه تواريخ الأحداث، وإذا كانت رواية اللص والكلاب للكاتب نجيب محفوظ من النماذج العربية لرواية تيار الوعي، فأحسب أن (البومة السوداء) رواية تيار الوعي بامتياز، رغم بعض ملامح الواقعية السحرية، ونسق السيرة الذاتية، منذ بداية الرواية يحرص الروائي أن يُدوّن بالأسلوب المباشر (ضمير المتكلم)؛ لأنه يُدوّن مرحلة من مراحل سيرته الذاتية؛ ولأنه يحمل رسالة مؤتمن عليها، ويحب أن يوثق وفاءه بما وعد به، وفي السياق نفسه كل الحكايات سيفخر بها الأبناء والأحفاد، وكل من يعي دور المرسل والرسالة وحاملها، فهي للمرسل تجربة حياة، والرسالة تحق الحق وتبطل الباطل، وحاملها لم يفرط في الحفاظ عليها ونشرها.

زمكانية الحدث الروائي

تدور أحداث الرواية عزبة الجد خليل أبو صالح التابعة لإحدى القرى القريبة من مدينة طنطا، والزمان عام 1965 حيث عمر الحفيد الراوي خمس سنوات فقد ولد عام 1960 بعد سبعة أشهر من وفاة جده فسمي على اسم الجد، وزمن الرواية في نسقه الأول سبع سنوات من عام 1965 إلى عام 1972، وقد امتد بالاسترجاع إلى عشرات من السنين وحتى بدايات القرن العشرين مُصورًا أحوال الفلاحين وحياتهم الصعبة، والزمن في هذه الرواية زمن فني فاعل مؤثر في الشخوص التي نمت في الشر مثل: نبيلة، وفي الخير مثل: الجد والجدة والحفيد صاحب السيرة، والنمو كان جسميًا، ومعرفيًا، ورغم حرص الراوي أن يذكر التواريخ المهمة، فلم يذكر تاريخ ميلاد أخواله الثلاثة الذين ماتوا، ولا تواريخ الوفاة، ولا تاريخ وفاة الجد، ولكن ركّز على ذكر تاريخ وفاة الجدة باليوم والشهر والسنة.

المكان: العزبة والقرية ومدينة طنطا والمسجد الأحمدي، وبيت الجدة، وبيت الشيخ حسان وبيت الشريرة والمقابر، وقد بدت براعة الكاتب في رسم الأماكن، ونقل صورًا لها جعلتنا نشعر وكأننا نعيش مع الأبطال فيها، وقد تأثرت الأماكن بالزمن، وأثرت في الأحداث، وارتبطت بالشخوص، وكان سرد التفاصيل الدقيقة للحياة في الريف المصري مميزًا وموثقًا لكثير من صور الحياة التي لم تعد موجودة مع التطور الذي حدث في المساكن وفي وسائل المعيشة ودخول الأجهزة الحديثة في تفاصيل حياة الناس في القرى، ونجد رسمًا مميزًا للمكان بكل تفاصيله الدقيقة، وكأنه توثيق لصورة الحياة في الريف المصري في هذه الفترة، وبراعة التصوير تشعرنا وكأننا نعيش في تلك الأماكن نتخيل الصور، ونشم الروائح، ونسمع الأصوات، ويختلط الوصف الحقيقي الموثق لكل كبيرة وصغيرة بالخيال والأساطير أحيانًا يقول: “من باحة الدار أسمع خشخشة راديو جدي، وصوت الشيخ محمد رفعت يقرأ قرآن الفجر، ومن بعيد يصل إلينا مُتقطعًا صوت الشيخ حمزة البدوي شيخ الجامع الكبير، أسمعه مرة بوضوح ويضيع عدة مرات إذا هبّت الريح، ومن خصاص الشباك المكسور أرى الفجر الأزرق يشقشق بخيوطه البيضاء مثل ندف السحاب، وأرى الليل يلملم جلبابه الأسود الكبير الذي يضربه فوق سماء عزبة جدي خليل أبو صالح، أسمع أذان الديوك في حوش جدتي، يتقاطع مع صوت الشيخ حمزة وهو يؤذن لصلاة الفجر، يمكنني الآن أن أميز صوت الديك الكبير، الذي يشبه لونه لون زهرة نوار الفول الحراتي، ترى البياض الثلجي المرقط بالأسود، بعيني وأذني أتابع حركة رياح الليل، تهدأ شيئًا فشيئًا، فتزيح السحب الليلية الداكنة وتسحبها للبعيد، لتفسح مكانًا للسحب البيضاء حتى تفتح آلاف الكوات في سماء الله، فيطلع النهار”. الرواية ص 12

تيار الوعي في حديث الراوي بضمير المتكلم، ولم يجعل نفسه ساردًا عليمًا ويروي بضمير الغائب، وحتى في أغلب ما رواه عن الجدة نقل إلينا حكيها بضمير المتكلم؛ ليؤثر فينا أكثر يقول: “تمصمص جدتي شفتيها، وتنظر تجاه القاعة الباردة رغم طقطقة جمرات النار في الراكية، وتقول مؤكدة: نعم جدك ركب العفريت، واشترى لنا شاي وسكر وسجاير من البلد والعفريت رجعه مرة تانية حتى عتبة الدار”. الرواية ص 19

ويأتي توثيق ملامح الحياة في تلك الفترة طبيعيًا مع حكايات الجدة، وهو خط معلوماتي قيم يقول: “بدأت أسمع تمثيلية ألف ليلة وليلة من الراديو عام 1965م، وأكدت جدتي أن أول مرة تذاع كانت في 1955م؛ فسألتها مُندهشًا: وهل تذاع تمثيلية من عشر سنوات ولم تنته حتى الآن؟!

أجابت متعجبة: وهل الحكايات تنتهي يا ولدي؟! اسمها ألف ليلة وليلة وتذاع مرة واحدة في السنة في رمضان، وليلة بعد ليلة كنت أتابع التمثيلية وحفظت صوت أبطالها: زوزو ماضي في دور الجارية شهر زاد، وعبد الرحيم الزرقاني في دور الملك شهريار، وأسمع المذيع يقول: إنها من تأليف الشاعر طاهر أبو فاشا، وإخراج محمد محمود شعبان، وكانت جدتي تحكي حكاياتها العجيبة مثلما تحكي شهر زاد حكاياتها المدهشة تمامًا”. الرواية ص 21

تضفير تيار الوعي مع الواقعية السحرية

يتوازى تيار الوعي مع الواقعية السحرية والسيرة الذاتية في خطوط ثلاثة متوازية متساندة، تبدأ بحكي مباشر من الجدة تقول مخاطبة الحفيد الراوي: “كنت الزوجة الثانية لجدك الذي تزوج وظل مع زوجته الأولى سعدية عشر سنوات حاولت زوجته الأولى أن تفعل ما تفعله المرأة التي تريد أن تحبل وتأتي له بالولد، حاولت محاولات كثيرة ويبدو أنها لم تحصل على نصيبها من اسمها، فعاشت وماتت حزينة”. الرواية ص 34

يحكي على لسان الجدة خمس محاولات حاولتها سعدية لتنجب، وهي رغم واقعيتها في التراث الشعبي إلا أنها غاية في الغرابة وتثير الدهشة، ونحسب أن بعضها مستمر حتى الآن رغم انتشار التعليم والتوعية والتداوي عند الأطباء، وكان لسعدية أخت شريرة تسميها الجدة (البومة السوداء) وتشكك في إخلاصها في مساعدة أختها في التداوي من العقم لأنها تحب زوج أختها وحاولت أن توقعه في حبائلها أكثر من مرة خصوصا بعد وفاة أختها عقب المحاولة الخامسة للتداوي من العقم، وسعدية ونبيلة بنات خالة الجد، ورغم رفضه للارتباط بنبيلة فقد كان يشعر بمسؤولية نحوها فيسأل عنها ويطمئن عليها بين الحين والآخر في إشارة واضحة من الراوي يبين فيها نبل الجد.

تستعر كراهية نبيلة للجدة بعد أن أنجبت ثلاثة أولاد وبنتًا، وتبدأ في الكيد للجدة والجد رغبة في أن تحرق قلبهما على أولادهما، وتقوم بعمل أسحار سوداء لهم جميعًا، فيموت الابن الأول إبراهيم وهو شاب صغير، وبعده بسنتين يموت الابن الثاني جمعة وهو شاب صغير، وبعد سنة ونصف يموت الابن الثالث حميدو، ويموت الجد حزنًا على الأبناء الثلاثة الذين غادروا في ريعان الشباب، أربع حالات وفاة كادت تفقد الجدة عقلها؛ لكنها تتماسك وتستعيد وعيها الإيماني الذي تتمسك به في مواجهة المصائب تقول لحفيدها: “لا حيلة في الرزق ولا شفاعة في الموت، ولا راحة للإنسان في الدنيا، ولا راد لقضاء الله، ولا سلامة من ألسنة الناس”. الرواية ص 51

استخدم الراوي التكرار المؤكد للأحداث فروى بلسان طفل يسمع الحكايات أكثر من مرة، واستخدم تقنيات احترافية في السرد، فيجمل الحكي ثم يفصله ولا يوجد تكرار لقصة بالجمل والكلمات والحجم نفسه، لكن دومًا هناك إضافات تؤكد الأحداث وتزيد تأثيرها بكل ما يضاف إليها ولا يكاد الفصل الأول ينتهي إلا ونحن قد وضعنا أيدينا على مجمل الرواية، واشتقنا أن نعرف المزيد يقول في ختام الفصل الأول جاذبًا الانتباه ومشوقًا لنا: “حكت لي جدتي آلاف الحكايات عن آلاف الرجال، لكن عندما تحكي عن المرأة في حياتها، كانت تحكي عن امرأة واحدة في حياتها، جارتها الشريرة الساحرة الملعونة، ومعركتها معها تملأ كتاب من ألف صفحة وحدها، عمري الآن سبع سنوات وبات مسار السرد والقراءة في تاريخ عائلة جدتي يأخد مسارا آخر”. الرواية ص 52

الجدار صفحات كتاب الجدة

تواصل الجدة الحكي وقد وضعت ملابس من رحلوا على جدار القاعة، ومن خلالها ينثال تيار الوعي ناقلا تفاصيل قصة الميلاد والموت، والمعاناة في المرض ومحاولة فك السحر ورغم كل ما بذل من دموع ودم، يموت الابن الثاني جمعة، وهو ابن 19 سنة، ويرسم الراوي دقائق الحكي زمانًا ومكانًا وإحساسًا، ينقل لنا هذه التفاصيل رغبة في توثيقها، ونقلنا إلى المكان والزمان والحالة التي صاحبت الحكي يقول: “ومع شرب الشاي تهزني قائلة: انظر هناك في الركن البعيد هذا هو خالك جمعة واسطة العقد حبيب قلب وعين أمه وروحها، أنظر حيث أشارت في الركن الثاني البعيد أرى خالي جمعة يقف على الجدار في جلابيبه الثلاثة في أعمار مختلفة، وكانت جدتي قد كتبت تاريخ خالي جمعة بجوار تاريخ خالي إبراهيم رحمهما الله على جدار القاعة الصغيرة، وكانت كل مرحلة من مراحل عمر خالي جمعة، تسرد أحداث حياته القصيرة”. الرواية ص 95

تحكي الجدة عن ميلاد جمعة المتعسر، وكيف نشأ ضعيفا ولم يتركه المرض، ولم يقصروا في البحث عن العلاج، وعن حلمه الذي يفزعه ويبكيه، وعن الشيخ حسان تقول: “أكد الشيخ حسان لي أن خالك مسحور بالسحر الأسود، وأن هناك من صنعت على شكله تمثالا صغيرًا من الشمع، أن من سحره يقوم بغرس دبابيس وإبر الخياطة في تمثال الشمع فيتوجع خالك من الآلام، وكأن هذه الدبابيس والإبر تغرس في جسمه هو، وأضاف: في هذه الورقة ستجدين العهد السليماني الثاني ومعه الهيكل السليماني الثاني لتحصني بهما ولدك من الجن بعد صلاة العشاء، تشعلين موقد النار في قاعة ابنك وتضعين القليل من هذا البخور وتقرئين العهد السليماني الثاني والهيكل السليماني الثاني سبع مرات لمدة أسبوع كامل”. الرواية ص 102

تواصل الجدة الحكي، وتضفر تيار الوعي بالغرائبية والعجائبية والواقعية السحرية وهي تخبر عن مواصلة نبيلة الشريرة سحرها الأسود لدرجة تساقط الأحجار المشتعلة عليهم والتي قال عنها الشيخ حسان: إن ما حدث لهم سحر أسود يسمى سحر الرجم حيث سخروا لكم جنيًا يرجمكم بأحجار مشتعلة، ويصف لها وصفة عجيبة تستخدم فيها وطواطا، وبعد أن يوصيها بشراء راديو كبير وأن يظل القرآن يقرأ أطول مدة طوال اليوم والليلة، ثم يعطيها العهد السليماني الثالث والهيكل السليماني الثالث، يقول الراوي على لسان الجدة: “وكنت طوال طريق العودة من طنطا أصرخ داخلي ودمي يفور، وكانت عيناي تملآن بالدموع الحارة، وتخرج من فمي ألسنة النيران المشتعلة، أصرخ وفمي يقذف الشتائم: رجم بالحجارة، وهل أصبحنا كفارا يا بنت الكلاب؟ آه يا ملعونة يا كافرة يا ريت كنت قتلتها يوم ما دخلت عليَّ الدار تعزيني في وفاة ابني إبراهيم، كنت خلصت البلد كلها والدنيا من شرها وسحرها الأسود”. الرواية ص 108

وبعد أن رأت الأشباح، وشاهدها الجد، أعطاها الشيخ حسان العهد السليماني الرابع والهيكل السليماني الرابع، ويكبر جمعة، وفي سن الخامسة عشرة يصيبه المرض الذي احتار فيه الأطباء، وتأكدت الجدة أن في الأمر سحرًا، ورفض الجد الذهاب لمن يفك السحر، فتذكره الجدة أن إمام المسجد الأحمدي أفتى أن ذلك مباح للمضطر، وهي تتردد على الشيخ حسان مضطرة، وصف لها الشيخ العلاج الذي استمر طويلا، وبعد عام كامل تماثل جمعة للشفاء، ولكن لم تنته أعمال الشر، والحرب سجال بين الساحرة الشريرة، وبين الجدة، والمحاولات مستميتة، وعجائب السحر الأسود مستمرة.

أسطورة البومة السوداء

تسرد الجدة حكاية ابنة خالة الجد (نبيلة) وكيف تحولت إلى ساحرة شريرة، رسم اجتماعي لها، ومراحل حياتها منذ كانت طفلة، وحكايتها مع الجد، ومع أختها، وزوجها، وحكاية البومة السوداء كأسطورة، وحكاية أم الصبيان، ومسألة زواج الجن من الإنس وإنجاب أبناء نصفهم جن ونصفهم إنس، وفيما يشبه الأسطورة الحوار بين نبي الله سليمان وبين (أم الصبيان) الذي يحكيه الجد، والذي قرأه في واحد من الكتب القديمة يقول:

“أم الصبيان لعنها التي لقيها نبي الله سليمان عليه السلام.

سألها نبي الله: من أنت أيتها الملعونة فلم أر أقبح منك في طريقي؟

قالت: أنا مسخرة ومسلطة على بني آدم وبنات حواء.

قال لها نبي الله عليه السلام: وقعت في يدي يا ملعونة!

قالت: يا نبي الله لا تقيدني فأنا مأمورة فيما أفعل، ولا أفعل شيئًا إلا بأمر الله تعالى فيمن ظلم نفسه ولم يحترس مني.

قال لها سيدنا سليمان عليه السلام: فما الحرز؟!

قالت بكتاب فيه اسم الله تعالى، وفيه صفاتي وجميع أسمائي.

قال لها: وكم اسمًا لك؟!

قالت: يا نبي الله، وحق الله الذي لا إله إلا هو، عالم السر والنجوى لم أكذب عليك بحرف واحد، يا نبي الله أنا لي أربعة وعشرون اسما، أسمائي: جلوش، غيروش، حراش، جواش هيبوش، قمروش، قوش، سعوش، مرتلوش، هرنفوش، خرتموش، أم يصليل، أم دهمش، أم ملدم، أم علوش، أم عموش، أم نقوش، أم مردم، بنت الريح، بنت الرياح، بنت الهمام، بنت الوهيم، أم الصبيان، التابعة، ولم يتركها نبي الله إلا بعد أن أعطته العهود السليمانية السبعة”. الرواية ص 145، ويورد على لسان شيخ مسجد السيد البدوي تأكيد أن حديثًا وقصصًا قديمة تؤكد إمكانية زواج الإنس والجن، وهو أمر حذر منه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: “من عاشر جنيًا فليس مني”. الرواية ص 148

يسيطر على الجد والجدة الخوف على حميدو الابن الثالث، وينفذان ما أشار به الشيخ حسان، فيهدمان البيت ويعيدان بناءه، ويتفق الجد مع إسماعيل ابن الساحرة الشريرة أن يأخذها أسبوعًا في بيته بالمحلة الكبرى بحجة علاجها حتى يمكن هدم البيت لأن هناك جدار مشترك سيهدم، وعندما تم الهدم وجد الجميع عجائب الأعمال السحرية وعشرات الغربان والوطاويط والثعابين هربت عند الهدم، ينتهي هذا الفصل بسماع الجدة لزوجها يبتهل إلى الله، ويستغفره، وينيب إليه وهو يبكي بكاءً حارًا، وتكتم ذلك، وقد غدا أملها في أن يعرف القاصي والداني ما فعلته الشريرة، وكيف كافحت للوقوف في وجه الشر رغم موت أبنائها الثلاثة تقول: “بعد ثلاث سنوات أخرى من مولد خالك جمعة رزقني الله بخالك حميدو ولد أخرس لا يتكلم؛ لكنه كان يفهم كلامي معه من حركات الشفايف، وبعد سنتين رزقني الله بأمك، ست الصبايا وأم أبيها وحبية أمها”. الرواية ص 166

وتقول: “أريد يا ولدي ألا تموت هذه الحكايات بموتي، أريدك أن تحفظها، وتحكيها وتقصها على كل من تعرفهم ومن لا تعرفهم بعد سنوات قصيرة أو طويلة لن تجدني بجوارك ستجدني بجوار جدك وأخوالك، أريدك أن تحفظها مثل آيات القرآن الكريم التي حفظتها في كتاب القرية، ومتى كبرت وصارت لك كلمة مسموعة بين الناس قصها عليهم، أريد أن يعرف كل الناس حكايتي مع الساحرة الشريرة، ولماذا وكيف قتلت أولادي، أخوالك الثلاثة.

يقول: أقترب منها وأتمسح بها وأقبل يدها ثم رأسها وكتفها قائلا: العمر الطويل لك يا ستي، الشر بعيد عنك، الشر للي يكرهوك يارب، حاضر سأحفظها مثل اسمي؛ تحضنني، وتمطرني بقبلاتها، وتضمني لصدرها قائلة: الموت ليس شرًا يا ولدي، الموت كتاب معلوم، قطار كل الناس تركبه، ومتى حانت محطة كل منهم نزل من قطار الحياة الدنيا؛ ليركب قطار الآخرة انتظارا ليوم الحشر العظيم”. الرواية ص 169

وتحكي الجدة عن أحوال التصوف والمتصوفين، وكيف أن ولدها حميدو الذي لا يتكلم عندما زار مسجد السيد البدوي نطق: أمه نور، ثلاث مرات وتقول ما حفظته من الشيخ الكبير لمسجد السيد البدوي في الليلة الكبيرة لمولده: “الحمد لله حمد العارفين بسر الواصلين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام النبيين، ورضي الله عن سادتنا الأقطاب الأربعة: سيدنا أحمد البدوي، وسيدنا إبراهيم الدسوقي، وسيدنا أحمد الرفاعي، وسيدنا عبد القادر الجيلاني، والسلام إلى كل أصحاب الحقوق علينا من مشايخنا الأطهار الأبرار، نحن الآن أيها الأحباب في حضرة شيخ العرب أبو اللثامين، وأبو فراج رضي الله عنه وأرضاه، وقد حفظت كل ما قاله عن سيرة الشيخ الجليل من الميلاد إلى أن سلك طريق التصوف، وقد علمه شيخه كيف يكون الاغتسال للقلب بعد الجوارح، وقال له عندما طلب منه أن يعلمه: “أنت تسألني يعني كأنك تقول: أريد أن أقلدك، لا تقلد حبي بل اصنع حبك بيدك أو بعينيك أو بقلبك أو بكل ذلك، وهذا أول شرط من شروط وصول العبد الصوفي إلى الله”. الرواية ص 172 وص 173

صناعة السحر الأسود

تحكي الجدة كيف حزنت كثيرًا عندما وجدت الفئران تعود إلى البيت، وبدأت تخاف على ولدها الثالث، وتعود للشيخ حسان الذي يؤكد لها أن الجارة الشريرة مستمرة في صناعة السحر الأسود لها ولزوجها وابنها، ويعطيها العهد السليماني الخامس، ثم السادس ثم السابع، وقد احتدم الصراع بينها وبين ما تفعله الساحرة الشريرة، وتحكي تفاصيل تتماهى كثيرًا مع الأساطير: الأرانب الخمسة، والبومة السوداء، والقرموط الذي تم اصطياده، وذبحه، وتكاد الجدة تفقد عقلها عندما يموت حميدو، وتنفعل على ملك الموت، وتصفه بالقسوة والظلم والجبن، وهي المؤمنة التي قالت عنه من قبل أنه ليس شرا ولكنه قضاء وقدر، تقول: ما أقسى القدر يا ولدي عندما يكتب على الأم أن تدفن أولادها الثلاثة في التراب بيدها، ورفعت رأسي للسماء العالية باكية أصرخ: كم أنت ظالم وقلب كالحجر الصوان يا ملك الموت، ظالم لأنك لم ترحم أمهم، وظللت تخطف أولادها واحدًا واحدًا، كما يخطف الغراب الأسود أفراخ البطة الصغار، يا ملك الموت أيها الظالم القاسي الجبان كان يمكنك أن تخطف روحي وتترك أفراخي”. الرواية ص 198

فلسفة الموت والحياة

يبدأ الفصل السابع بتأملات الموت وفلسفته، نسق فلسفي عميق، فيه إبحار في الخيال يقول: كانت جدتي تبكي قائلة: “لقد ظل ملك الموت طوال مرض أخوالك الثلاثة يسكن وسط حوش الدار الوسيع، كنت أسمعه ينادي عليهم بأسمائهم واحدًا واحدًا في الصباح والمساء وهو يعرفهم اسمًا اسمًا، نعم سمعته يدق الباب علينا متى أغلقت في وجهه باب الدار، “ويقول: “كنت دوما أتأمل لعبة الموت والحياة، وأنا أسمع صوت ملك الموت، وأرى صورته تتشكل طوال سبع سنوات عشتها معها، كانت جدتي تحضر الموت أمامي كل ليلة، فقد صنعت له شكلا مثل خيال الحقل، وجعلت له جسمًا، ورأسًا وعينين، وأنفًا وفمًا وساقين من القماش القديم، وألبسته جلبابًا أسود مرقعًا، وكانت تعلقه مشنوقًا في مسمار بحبل طويل في سقف القاعة، كأنها تحكم على ملك الموت بالإعدام شنقًا كل ليلة، كانت تسميه ملك الموت مرة، وثانية تسميه ملك الجن والشياطين، وثالثة تسميه ملك العفاريت، وكانت تفقأ عيونه بالسيخ الحديدي”. الرواية ص 237

توظيف عناصر الفنتازيا

إن الانسياب المتواصل للأفكار داخل الذهن وجريان الفكر باطنيًا وذهنيًا والتغييرات والتقلبات والتدفق والتفاعل بين الماضي والحاضر يؤكد لنا أن تيار الوعي حاضر بقوة في الرواية، وعندما تختلط التصورات الغريبة بسياق السرد، الذي يظل محتفظا بموضوعيته، وواقعيته، وتوظيف عناصر فنتازية لقوى خفية تسري في النسق الواقعي يؤكد تقنية الواقعية السحرية، وذكر الأحداث المرتبطة بالميلاد، والنشأة، وما مر بالإنسان من أحداث والتأريخ الدقيق لهذه الأحداث والمراحل يشير إلى نسق السيرة الذاتية؛ لذلك طال عنوان هذه القراءة ليشمل الأنساق الثلاثة: (تيار الوعي والسحر والسحرية في أنساق السيرة الذاتية)، لقد نجحت الرواية في تقديم فصل من فصول السيرة الذاتية (سبع سنوات) بتقنية حداثية حيث تألق تيار من الحكي بحوار داخلي وبيني ممزوج بالمشاعر الإنسانية، وفي صورة مدهشة، ويلبس بعض الأساطير ثيابا واقعية تثري الأحداث، وتغري بالقراءة، وتدهش المتلقي، وتحثه على التأمل وأخذ العبرة.

وقد بدأت قراءتي بنصوص غير موجودة في الرواية لكنها تتعلق بعمقها وهدفها، وهذه النصوص المقدسة لها نسق يختلف عن النسق الأسطوري، وهي تزيل شبهات كثيرة، وترد على من يشكك في وجود سحر وسحرة، وتؤكد أن هناك قدرة لبعض الناس على صناعة الشر وإيذاء البشر لكن هذه القدرات محدودة الأثر، وليست علمًا بل أعمالا ظلامية، كما تؤكد أن النص القرآني يعجز البشر عن صنع مثله، واستمرار العجز رغم التقدم البشري يبقيه مقدسًا، ويكسبه مصداقية، وتؤكد أن الإضرار بالمخلوقات لا يخرج عن القدر (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله)، ولأن القوى الخفية تحتاج دائمًا لقوة غير تقليدية تحمينا منها كان الاعتصام بالنصوص القرآنية (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل)، وبالدعاء (فأعوذ بما احتفظت به مما أقدرت عليه)، وقد حرص الكاتب على أن يفعل الشيء نفسه بتفصيلات أكثر، فأورد نصائح كثيرة منها: الراديو الذي يبث القرآن لفترة طويلة، والسبع عهود السليمانية التي تحفظ من تلك القوى الخفية التي يمكن تؤذي البشر.

ثراء اللغة الروائية

لغة الرواية أول ما يجذب الانتباه، وتحتاج دراسة مستقلة تتناولها أفقيًا كنص واحد تم ضبط كل حرف من حروف كلماته، ورأسيا؛ فتضوي على الاستقصاء في ميدان الوصف وفي المعاني، والتأكيد بالترادف والازدواج في الجمل، وثراء الفكر، والأحاسيس، وصور الخيال الكلي والجزئي، والموسيقى النابعة من المفارقات اللفظية والمعنوية، وذلك الرتم الداخلي الذي يسري في أنساق الرواية نتيجة لاتساق الأفكار مع المشاعر وانضباط الصياغة اللفظية المعبرة عنهما.

لقد أوردت سبعًا وعشرين فقرة تتكون من حوالي مائتي سطر؛ لتؤكد ما توصلت إليه قراءتي من أفكار ومعان ومشاعر وقيم، وتكون ميدانًا يتأمله كل من لم يقرأ الرواية، فمن المؤكد أنه سيجد فيها ما يدعم مصداقية القراءة من ناحية، ومن ناحية أخرى يجد الكثير مما لم أشر إليه، فالنصوص منفتحة على تلق حر بلا حدود.

في الروايات التقليدية عندما نضع أيدينا على الزمان والمكان والشخوص والعقدة والحل تتوفر لدينا قيم الشكل والمضمون، وأنساق السرد الروائي، وعناصر الجمال، والتفرد، وأماكن القوة والضعف، ولكن في هذه الرواية المسألة تتجاوز العناصر التقليدية؛ فالبطل عادة في السير الذاتية هو صاحب السيرة؛ ولكن في هذه الرواية البطل الأول (الجدة) ثم السحر والموت ثم السحرية ويأتي صاحب السيرة بطلا رابعًا، والجد بطلا خامسًا، وهذا الترتيب حسب المساحة التي شغلها الأبطال في الأحداث، الجدة وحكيها الذي وصل لآلاف الحكايات وامتد عشرات السنوات، والسحر الذي أودى بحياة ثلاثة من الأبناء ثم الشريرة ثم الجد ثم الجدة، والسحرية في أنساق السحر والسحرة والصراع مع القوى الخفية التي أخذت بعدا أسطوريا يرتدي ثوب الواقع الغرائبي المدهش، والراوية يحكي بسرد مباشر غالبًا أحداث سبع سنوات، والجد الذي ساند الجدة، وكان نبيلا في سلوكياته حتى توفي في السبعين من عمره، لقد حرص الكاتب على أن يرسم شخوصه نفسيا واجتماعيا بدقة، وترك لنا تخيل الشكل الفيزيائي لهم، وقد تمنينا أن يرسمه لنا بلغته التصويرية المبهرة؛ فتؤثر فينًا الشخوص أكثر.

أنساق إنسانية ملهمة

إن الاحتفاء برواية (البومة السوداء) يتكئ على العمق الإنساني لثلاثة أنساق بدا فيها المرسل والرسالة وحاملها: لقد توقفنا طويلا عند المرسل (الجدة) وأي متلق متأمل أحسبه سيتعلق بها إنسانيًا، وعندما يطوي الرواية ستظل صورتها تتقافز أمامه فهي أنموذج حي للمرأة المصرية المكافحة القوية أم المرابطين التي تحرص على أن تبقى مركبها عائمة رغم الرياح والأنواء، وقسوة الأمواج وبطشها، يموت زوجها الأول فتصبر، وتتزوج مرة ثانية، وتكافح، وتصمد، وتحتسب وهي تواري التراب ثلاثة من أبنائها بذلت من أجلهم الدموع والدم في مواجهة موجات متلاحقة من الكره والحقد والسحر الأسود، وظلت صامدة، لم تبق لها إلا ابنة وابنا من زوجها الأول، فتقوم بدور زوجها الثاني فتحرس 500 فدان، وتحرص على أن تخلد قصة كفاحها وصراعها مع الشر والشريرة، فتحكي قصتها لحفيدها، وتحفظه إياها، وتطلب منه أن يحمل أمانة توصيلها وحكايتها لمن يعرف ومن لا يعرف؛ لتكون عبرةً لهم وسندًا في مقاومة الشر الأشرار، هذه المرسلة تستحق الفخر والاحترام، وهذه الرسالة النبيلة التي تزيد مساحات الحق والخير والجمال تستحق الاحتفال، هذا الزخم المصاحب للحضور القوي للجدة يأخذنا إلى نسق رمزي مضمر لها يجعلها تتماهى مع وطن يسعى على قدمين، يحمل ملامحه كل الماجدين من أبنائه، ونجد حامل الرسالة، صاحب السيرة الذاتية، في عمق الرسالة، وقد نال شرف حملها، وكان أهلا لهذه الأمانة، فرغم مرور عشرات السنين، فلم ينس الأحداث، ولم يفرط في الرسالة، وبذل من الجهد الكثير؛ ليحقق رغبة الجدة، فينشر حكاياتها الملهمة في ثوب روائي قشيب، لقد تأثر بالزمان رغم أنه قصير فنما جسميًا وعقليًا ومعرفيًا، وارتبط بالمكان، فشعر بالغربة عندما غادر بيت الجدة إلى بيت أبيه، وعلمته حكايات الجدة الكثير والكثير، وفي أنساق الرواية التي تكسبها مصداقية على المستوى المعرفي والتوثيقي، حرص الكاتب على أن يُضفّر مع الحكايات أهم الأحداث التي مرت في زمن الرواية الحقيقي والذي امتد بالحكي للماضي؛ فدون لنا وصفًا دقيقًا لحالة الفلاح بداية من أوائل القرن العشرين وحتى منتصفه وقيام ثورة 1952 م وكيف تحول من الحفاء والفقر المدقع إلى امتلاك خمسة أفدنة، وتطور حياته للأفضل، ووثق دور العرب في حراسة الأرض، وهو يشير إلى نبل الجد الذي رفض أن يأخذ خمسة أفدنة، سرد الراوي عن هزيمة 67 وتهجير مدن القناة، وربط بين غدر المحتلين وفجرهم في القتل، وغدر نبيلة الشريرة وفجرها في أعمال السحر الأسود، وأورد وفاة ناصر وكيف ظلّت الجدة تبكيه ثلاثة أيام، كتب عن التصوف والمتصوفين، وهو يكتب عن الجد وأخذه عهد من شيخ الجامع الأحمدي، ودوّن العهود السليمانية السبعة؛ لكي يستخدمها الناس في مقاومة شر الأشرار الذين يستخدمون السحر الأسود في إيذائهم؛ ولأن العالم يحتفي كثيرًا بالسير الذاتية؛ لأنها تحمل في أنساقها تجارب إنسانية ملهمة، وبعد قراءتنا لأيام بغداد التي تناولت جانبًا من سيرة الكاتب الذاتية، وفي ختام هذه القراءة نتمنى أن يوفق الكاتب في إصدار سيرته الذاتية كاملة، ونحسب أنه في خروجها للنور زيادة في مساحات الحق والخير والجمال التي نتمناها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى