شاهد واقرأ.. جوهرة مسقط.. فخر البحرية العُمانية في القرن التاسع

كتبت: شيخة الفجرية

تختار البلدان كيف تصنع أمجادها، خاصة حين تحيط بها المبررات الجغرافية، فإن الجغرافيا تقدم أقرب الخيارات الممكنة لصناعة أمجاد عظيمة؛ يخلدها التاريخ عبر الأزمنة والعصور. وهو ما حدث لأهل عُمان، الذين سكنوا بلادًا تطلُّ على البحار والخلجان، فهي بين بحر العرب وبحر عُمان والخليج العربي، وألهمهم الله اتباع الحدس الجغرافي، وجعله ممبررًا منطقيًا لارتياد الآفاق، فيمموا طموحهم شطر البحر، الذي فتح أمامهم سبلًا اتصاليةً مع الحضارات القديمة، عبر طريق الحرير والطرق التجارية البحرية الأخرى. كانت السفن وسيلتهم التقليدية، فصنعوها بأيديهم بالفطرة التي جبلوا عليها، وبالخبرة التي تنامت في تفكيرهم كلما اقتربوا وارتادوا العباب، وبعد تطويرهم لصناعة السفن، لتكون كل سفينة أقوى مما سبق في مواجهة أعتى الأمواج، قاموا بتصديرها للشعوب القريبة والبعيدة سلعة عمانية خالصة، استفادت منها البلدان لتكون أساطيلًا في ممالكها وسلطناتها، فحمل ملوك أكد الأحجار النفيسة من الجبال العمانية لبناء مسلَّاتهم التي يتباهى بها العالم الآن.

كما حملت السفن العمانية رحلات الملكة شمس في حملاتها المختلفة وزياراها الملكية ضمن الطقوس التعبدية، وضمن رحلاتها العالمية، وحملات تجار اللبان والبخور إلى أصقاع العالم، ولم يمكن إغفال السفن العمانية التي حملت المسلمين إلى الهند في إطار الفتوحات الإسلامية، التي أمر بها الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان طلبه أن تنطلق هذه الفتوحات من عُمان.

 وكانت سفينة ” القطمران “([1])، من أقدم السفن العمانية، التي صنعت بطريقة عمانية فريدة من نوعها، فقد ” اجمعت كل المصادر العربية والاجنبية القديمة أن السفن العمانية كانت تستخدم الحبال لتثبيت الألواح، وهي السفن التي عرفت باسم السفينة المخيطة، ومنها السفينة الكمباري التي لا تزال موجودة بمحافظة ظفار” ([2])، وأشهر أنواع السفن والقوارب العمانية الصنع والتصميم على الطريقة العمانية التقليدية؛ هي كالآتي:

1ـ المصنوعة من الحبال والألواح فقط:

 الكنو والشاشة والقطمران والبدن، والبتيل، والبقارة.

2ـ المصنوعة بالألواح والمسامير:

السمبوق والبغلة والغنجة. ([3])

وكانت هذه السفن تمخر العباب في رحلات منتظمة بين عمان وسواحل إفريقية، ثم انطلقت إلى الصين والولايات المتحدة الأمريكية محققة السبق في الوصول لتلكم البقاع.

وتبيانًا لهذا الدور الحضاري العظيم، جاء تكريم السفينة العمانية بتخليد ذكرها وإعادة بناء نماذج منها، وكانت سفينة “جوهرة مسقط” هي النموذج الأنجح، وجاءت الفكرة بعد اكتشاف حطام السفينة العمانية “بليتانج” في عام 1998م على سواحل أندونيسيا، وبعد البحث والكشف في السجلات التاريخية تبيَّن أن السفينة المكتشفة تعود إلى القرن التاسع الميلادي وأنها سفينة تجارية ضمن السفن التي تعبر طريق الحرير البحري، وبذلك ظهرت فكرة “جوهرة مسقط” المشتركة بين عمان وسنغافورة، وبعد الانتهاء من صنعها، تم إهدائها إلى جمهورية سنغافورة.

وفي الذكرى السنوية لهذا الحدث الحضاري في السادس عشر من فبراير، احتفى النادي الثقافي بـ ” سفينة جوهرة مسقط”، في أمسية حاضر فيها القبطان صالح بن سعيد الجابري والباحث حبيب بن مرهون الهادي؛ وأدارها الدكتور محمد الشعيلي.

بدأ الباحث حبيب الهادي في ورقته، عن خبرات العمانيين في الطرق البحرية في المحيط الهندي وبحر الصين، وأدوارهم المهمة واستعماها بدقة، واستعانتهم بعلم الفلك، واختراعهم للكثير من الآلات البحرية، وبدأ ورقته بالحديث عن الإسهام الحضاري العماني في علوم البحار، وتاريخ الملاحة العمانية، مشيرًا إلى الأدلة المادية التي تؤكد على أن “صناعة السفن عُمان هي الأقدم في شبه الجزيرة العربية”، ففي “رأس الجنز اكتشفت الألواح الخشبية يعود للألف الثالث قبل الميلاد، أي قبل 5 آلاف سنة كانت الملاحة العمانية تنطلق من ميناء رأس الحد ورأس الجنز”، وأن” العمانيون وصلوا لمرحلة متقدمة في صناعة السفن قبل 4500 سنة، ودخلت عمان إلى عالم التجارة في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد كأسطول تجاري، وليس فقط كسفن تجارية بسيطة تعبر السواحل، ووردت نصوص تؤكد من بلاد الرافدين خاصة الحضارة السومرية، إذ أتى من خلال ملحمة جلجامش عن سفينة ماجليوم التابعة لمملكة ماجان، التي غرقت في مياه الخليج العربي”، أشار إلى قول الجاحظ: “أزد عمان قوم ملاحين”، أما المسعودي فقال: “وأرباب المراكب من العمانيين يقطعون هذا البحر إلى جزيرة قنبلو ووجدت نواخذة بحر الصين والهند والسند والزنج واليمن والقلزم والحبشة من العمانيين”. أما أسد البحار الملاح العماني ابن ماجد، فقد أدرج في سجلات الأمم المتحدة بأنه من أبرز الشخصيات العالمية المؤثرة، كما أن رجب عبد العليم قال فيه “إن الفضل في ظهور تسمية علم البحر يجب أن يعود للملاح العماني أحمد بن ماجد”.

بعد ذلك تم بث ملخصًا من الفيلم الوثائقي الذي وثق عمليه بناء السفينة جوهرة مسقط خلال 10 أو 9 دقائق، واستعرض هذا الفيلم كيف تم بناء السفينة وماهي المواد التي دخلت في بناء السفينة، وأهمية كل مادة، كما استعرض التفاصيل الصغيرة التي يتم عملية تجميع المواد وتوزيعها على أجزاء السفينة، فقد كانت مراحل البناء يدوية، إذ تم هذا البناء على شاطئ قنتب في مدينة مسقط، واستعملت “(70,000) غرزة وأكثر من (100) كيلومتر من الحبال” المصنوعة بطريقة تقليدية ويدوية في عملية صنع سفينة تقليدية وبدون محرك، مع مكونات مقدمة ومؤخرة السفينة وكيفية خياطة أجزائها بحبال النارجيل، وكيفية تبخيرها وسدّ فجواتها بشحمٍ ضد التسرب، وأمَّا صواري السفينة فقد امتدت لمسافة (13,5) متر فوق السطح البحر، كما تبلغ مساحة منطقة الأشرعة حوالي (160) مترا مربعا، ويبلغ طول السفينة (18) متراً وحمولتها مع وزنها (55) طناً”. وبعد نهاية البناء وبداية الرحلة في 16 من فبراير عام 2010م، استعرض القبطان مسار الرحلة والمصاعب والأهوال والعواصف التي تعرضت لها السفينة، والفريق الذي شارك القبطان في عملية الإبحار من سلطنة عُمان إلى سنغافورة،

بعد الفيلم تم استضافة الفريق المرافق في رحلة جوهرة مسقط من سلطنة عُمان إلى سنغافورة حسب التوجيهات السامية من السلطان قابوس -طيَّب الله ثراه-، وتحدث القبطان صالح بن سعيد الجابري ثم سعيد الطارشي، الذي وصف المخاطر التي تعرضوا لها إبان الإعصار الذي ضرب خليج البنغال، وكيف سرعة رياح 120 كم في الساعة وارتفاع الموج 8 -10 أمتار، وتم تغيير العيد من الأشرعة ودخول الماء في السفينة، أما البحَّار يحيى وهو إلى جانب مشاركته في رحلة جوهرة مسقط فهو ما يزال منتسبًا للبحرية السلطانية العمانية وكذلك بقية أعضاء الرحلة. فقد سرد البحار يحيى الكثير من المخاطر والإيجابيات. وكان الفريق يؤكد أن مشروع جوهرة مسقط جاء لإحياء التراث البحري العماني، فقد كانت ممارسة عملية جسدت الطريقة التي كان يقوم بها الأجداد في السفر إلى أفريقيا والصين والهند والسند.

وترجمة لهذا الجهد الكبير، فقد تحول إلى رواية، كتبتها الروائية العمانية د. زوينة الكلبانية وأصدرتها بعنوان “الجوهرة والقبطان”، عن بيت الغشام للنشر والترجمة بمسقط في عام 2014، كما تم تحويل هذه الرواية إلى مسلسل إذاعي، من إخراج الفنان أحمد بن درويش الحمداني، ومعالجة درامية للأستاذ نور الدين الهاشمي وتمثيل مجموعة من الفنانين العمانيين.

وبذلك، مثلت سفينة “جوهرة مسقط”، مادة فنية لعمل درامي كبير يستحضر البطولات التي عاشها أفرادها، والذين كانت أدوارهم المعاصرة جليلة في إحياء الموروث البحري، أما الفينة الغارقة، فيمكن إعادة ترتيب شخصياتها حسب ما يقتضيه الشرط الدرامي الذي يهدف إلى تعزيز الموروث العماني عبر الأجيال.

المراجع:

([1]). ورقة قدمت في فعالية “تاريخ السفن في عمان” بالنادي الثقافي. حمود بن حمد الغيلاني.

([2]).  ورقة قدمت في فعالية “تاريخ السفن في عمان” بالنادي الثقافي. حمود بن حمد الغيلاني.

([3]).  ورقة قدمت في فعالية “تاريخ السفن في عمان” بالنادي الثقافي. حمود بن حمد الغيلاني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى