من برلين إلى بئر السبع، موعظة ودماء
المحامي جواد بولس | فلسطين
من كتاب “الفاشية، مقدمة قصيرة جدًا” للكاتب كيفن سيمور. عظة لجميعنا ولأعضاء القائمة الاسلامية الموحدة في الكنيست أيضًا.
“عقدت الجلسة الافتتاحية للبرلمان الألماني السابق، الرايخستاغ، في دار أوبرا “كرول” في وسط برلين يوم 23/3/1933 . بعد أن دمّر حريق مبنى الرايخستاغ قبل بضعة أسابيع. وداخل القاعة تدلّى علم ضخم يحمل رمز الصليب المعقوف. وكي يتمكن النواب من الدخول إلى القاعة كان عليهم أن يتحملوا الاهانة أثناء مرورهم وسط جمع مريع من شباب وقحين يحتشدون في الساحة المواجهة ويرتدون شارة الصليب المعقوف، وينادون النواب بأوصاف مثل “خنازير الوسط” أو ” خنزيرات الماركسية”. كان النواب الشيوعيون قد اعتقلوا إثر مزاعم بتورط حزبهم في احراق مبنى الرايخستاغ واحتجز أيضا عدد قليل من الاشتراكيين.
كان هناك موضوع واحد مطروح على البرلمان وهو تمرير “قانون التمكين” الذي يمنح المستشار الألماني سلطة إصدار قوانين دون موافقة البرلمان، حتى إذا كانت قوانين تخالف الدستور. ولما كان القانون يستلزم تعديلا دستوريًا، كان يتطلب موافقة أغلبية ثلثي النوّاب، لذلك كان النازيون بحاجة إلى دعم النواب المحافظين. حوى خطاب هتلر الذي ألقاه لطرح القانون تطمينات للمحافظين، ما جعلهم يصوتون لصالح القانون. قرأ هتلر اعلانه في تجهّم حاد ورباطة جأش استثنائية، ولم يتجلّ انفعاله المعروف إلا عند دعوته لاعدام مدبّر الحريق على رؤوس الاشهاد، ووعيده الشرس للنواب الاشتراكيين؛ فهدر صوت النواب النازيين بشعارهم المعروف “ألمانيا فوق الجميع”. ولقد احتج نائب اشتراكي ردًّا على هتلر، لكن صوته بالكاد سمع؛ فرد عليه هتلر في عصبية محمومة وهسيس أفراد “كتيبة العاصفة” كان يتردد من ورائهم صارخين : “سوف تعدمون اليوم شنقًا”.
وافق البرلمان على “قانون التمكين”، الأمر الذي أطاح بسيادة القانون وأرسى الأساس لنوع جديد من السلطة القائمة على ارادة الفوهرر. منح هذا القانون النازيين عملياً حق العمل وفق ما يرونه مناسبًا – ما يحقق “المصالح العليا للشعب الألماني”، والقضاء على رأي أي شخص يعتبرونه عدوًا للرايخ؛ وكان الاشتراكيون أول الضحايا.”
ومن برلين إلى بئر السبع ..
لن يصبح وضعنا، نحن العرب في إسرائيل، بعد عملية الطعن التي نفذها المواطن محمد أبو القيعان، من سكّان بلدة حورا في النقب، وأدّت إلى مقتل أربعة مواطنين يهود في مركز مدينة بئر السبع يوم الاربعاء المنصرم، أحسن ولا أأمن. فبعض المعلقين يتكهنون بأن البلاد ستواجه موجة جديدة من هذه العمليات الفردية، وتصعيدًا أمنيًا خطيرًا، لا سيّما خلال شهر رمضان المقبل. كم كنت أتمنى أن يخيب ظن جميع أولئك ” المنجّمين”، وألّا تَصْدق توقعاتهم؛ لكنني أعرف أننا نقف، في داخل إسرائيل، على حفاف العدم، حيث يطعم الدم النار، ونحن، عرب هذه البلاد، سنكون لها العيدان والحطب.
لم يحدث أي انفراج في علاقاتنا مع مؤسسات الدولة، رغم سقوط حكم بنيامين نتنياهو، ولن يحدث هذا في المستقبل المنظور؛ فلا الدولة اليهودية بقياداتها الراهنة معنية بحدوث هذا الانفراج، وليس بيننا من هو قادر على فك الاشتباك أو المعني بالتفتيش عن جسور جديدة حقيقية معها، والمؤهل لحمل هذه المسؤولية.
ويكفي أن نراجع عددًا من المشاهد التي حصلت في الأيام القليلة الأخيرة، قبل حدوث عملية بئر السبع، كي نخشى ما قد يحصل لنا في الأسابيع القريبة. فما زالت الكنيست تخضع لهيمنة اليمين وتصوّت على قوانينه العنصرية سواء دعمتها القائمة الاسلامية الموحّدة أم لا. وعلى الرغم من وجود حزبي العمل وميرتس في الحكومة، تتصرف معظم وزاراتها كمنظومات يمينية تقليدية. فعلى خزينتها يسيطر حزب “اسرائيل بيتنا” المعروف بمواقفه العدائية تجاه العرب؛ وفي أمنها الداخلي تتحكم شرطة كبر قادتها على موروث يقضي بمعاملة المواطنين العرب بقليل من الاحترام وبكثير من الريبة والتحسس وبالتخوين دائماً؛ بينما ما زال العنف يشكّل جزءًا من واقع بلداتنا والجريمة مشهدًا مستفحلًا في معظم مواقعنا.
وإن كان ذلك لا يكفي، فحظنا من سياسات وزيرة الداخلية، أييليت شاكيد، لا يتوقف عند تبعات قانون منع لم الشمل، ونتائجه الكارثية على آلاف العائلات الفلسطينية، ولا عند معوّقات وزارتها أمام تطوير قرانا ومدننا وخنقها بعنصرية فاضحة ؛ بل يتعداها نحو سيطرة جشعة على جهاز القضاء وحشوه بقضاة موالين، لا سيما بعد أن أعلنت عن خطتها في الاستيلاء على هيئة المحكمة العليا من خلال تعيين قضاة “محافظين”، مؤدلجين يمينيين ومستوطنين.
ولتأكيد مخاطر سياستها القضائية يكفينا مراجعة مواقف هؤلاء القضاة في عشرات القضايا التي رسّخوا فيها أحكامًا جائرة بحق العرب، وكتبوها بهدي عقائدهم المتساوقة مع سياسة حزب شاكيد- بينت اليمينية العنصرية. لقد كان آخر هذه الأحكام رفض المحكمة العليا ، في الاسبوع الماضي، لالتماس قدمه عدد من المواطنين في مدينة طيبة المثلث، ضد قرار ما يسمى “حارس أملاك الغائبين”. لقد قررت هذه المؤسسة العنصرية، التي استحدثتها الحركة الصهيونية من أجل سرقة أملاك الفلسطينيين بعد النكبة، الاعلان، في العام 2017 على أرض تبلغ مساحتها ثلاثين دونمًا من أراضي مدينة الطيبة كأملاك للغائبين ومصادرتها من أصحابها أبناء المدينة، بحجة أن هذه الأراضي وقعت، قبل سبعين عامًا، بمقتضى خط هدنة مؤقت رسم لضرورات ميدانية في العام 1948، خارج حدود إسرائيل؛ لم يسعف السكان أن ذلك الخط أزيل بعد شهور معدودة من رسمه ومن ثم عادت الأراضي لأصحابها الأصليين الذين تصرفوا بها كملّاك لغاية يومنا هذا. لن أرهق القراء في تفاصيل هذه المهزلة العنصرية العبثية، ولكن يجب أن نعلم بأن هيئة المحكمة العليا التي أصدرت قرارها الظالم والعنصري ضد المواطنين العرب، تشكّلت من قاضيين مستوطنين وقاض ثالث استقدمته الوزيرة شاكيد، عندما كانت وزيرة للقضاء في حكومة نتنياهو، بسبب أرائه اليمينية المعروفة، من أمريكا، إليها كان قد هاجر من إسرائيل قبل سنوات طويلة.
أعرف أن قطعان اليمين لم تكن بحاجة إلى “غزوة هذا المجاهد” في بئر السبع كي تتأهب سراياها للانطلاق في رحلة صيدها المقيت؛ لكنّها، مثلها مثل شبيهاتها في تاريخ الأمم الاسود، تستوحش عند مشاهدة طرطشات الدم اليهودي وهو ينفر على الشوارع، وتتحوّل إلى شياطين جائعة ترقص حول نعوش ضحايا الموت الرخيص المستفز وتصرخ باسم الثأر والانتقام.
يريدنا البعض ألا نخاف وألا نتحسّب من تبعات هذه العملية/الجريمة ولإمكانيات توظيفها ضدنا، كما يحصل، من قبل الجماعات اليمينية الفاشية وقيادييها من الساسة والحاخامين. فعلى الرغم مما بدأنا نسمعه ونشاهده، ما زال بعض “المفكرين” والمحللين يمعنون في محاولات تحليل العملية بروية عقائدية، وبعضهم يحاول أن يتفهم دوافع القاتل بلغة الفرح الصاخب المرفوض، وكأن هؤلاء لا يسمعون عواءات الذئاب الجائعة وهي تتدافع على عتبات ديارهم. وعلى الرغم من قيام معظم قيادات مجتمعاتنا العربية المحلية والبدوية على وجه الخصوص، من شجب العملية، رأينا كيف انبرت بعض فرق السحيجة الى التصفيق من وراء الحدود “لأبطالنا”، الذين يفتكون باليهود، وكيف أخذت منابرهم تخاطبنا بحميمية خانقة، وكأننا قد خلقنا جنودًا في سبيل عزّهم، ويجب أن نموت كظلال لأحلامهم العقيمة، أو أن نعيش كوكلاء لهمهم، ساعة راحوا هم يهادنون “السلاطين” أو يغازلون “قيصر”.
كنت أقرأ ما نشره نشطاء بعض الفرق اليمينية الفاشية على أثر عملية بئر السبع، خاصة تصريحات قادة ومؤسّسي “سرّية بارئيل” الحديثة التكوين، وأفكر بأولئك “البعيدين” الذين يقامرون على وجعنا وعلى نهاية إسرائيل القريبة. فقرأت عن مئات من المتطوعين الذين انضموا الى صفوف هذه الوحدة/ الميليشيا التي سيعمل أفرادها من أجل “خلاص النقب” واعادة الأمن الشخصي لسكانه. انها سرايا الموت التي سأعود للحديث عنها قريبًا؛ “فسرية بارئيل” وكتيبة “نيتسح يهودا” وحركة “لاهافا” وغيرها وغيرها، هي الحقيقة الثابتة التي سنواجهها في مواقعنا لا محالة. وهي، للعلم، عبارة عن”كائنات” قاتلة كانت قد فقّست في دفيئات الحكومات السابقة والحالية، وكبرت في ظل بيئة سياسية مساندة، واشتدّت أعوادها في حضن مجتمعات يهودية ستفيق قريبًا وتتمرغ في فراشها أو تحت نعالها. انهم ورثة يوشع وسائر أنبياء اسرائيل ومثلهم يتحدثون بلغة السيف والنار ، فبالنسبة لهم يعدّ جميع أعضاء الكنيست العرب “مخربين”، ويوصف مقتل المواطن سند الهربد، ابن مدينة رهط ، بنار المستعربين بالحدث “الروعة”، لكنه غير كاف، فهم يعتقدون أن هنالك “بضعة عشرات الآلاف الذين يجب أن يكون مصيرهم مشابها لمصيره”. وأما هدفهم الحقيقي فهو اشعال المنطقة وتنظيفها من جميع المخربين.
أعرف شخصيًا بعض من يستهزيء بما نواجهه من مخاطر كارثية وأتمنى أن يصحو هؤلاء قبل فوات الأوان؛ ولا أعرف شخصيًا كثيرين من أصحاب الأصوات المتهافتة علينا من وراء النهر ومن بلاد السراب، لكنني أقول لهم: حططوا عن رحالكم واتركونا بحالنا، فنحن أبناء هذه الأرض وأدرى بشعاب أنقابنا وبالدفاع عنها، نحن الأجدر؛ ومن دعا منكم باسم “داعش” وأخواتها وكبّر، ليرحل؛ فنحن، النجاة من النكبة، لنا رب وأنبياء وأباء علمونا أن نحب الحياة ومن أجلها نصلي ونتعبد، مهما تعاظم الظلم في ربوعنا وتجبّر.