الحريّات في وطننا العربي كقيمة من القيم
بقلم: عماد خالد رحمة | برلين
من خلال قراءتنا العميقة لتاريخنا العربي – قديمه وحديثه – جعلتنا تلك القراءة نستكشف من سياق مجريات الأحداث وطبيعة الزعامات ونوعية الحكم وطريقة إدارته للسلطة ،أنَّ الحرية قضية هامة ومفصلية في كلِّ وقت. وإذا كنا نحن العرب نحمل تراثاً غنياً وثراً وثقيلاً في آن، من حرية الكلمة شعراً ونثراً ورواية ومسرحاً، مدحاً وهجاءً، فإننا نكتشف بقوة أنَّ الأصل والأساس في تكوين العربي وماهيته هو الإحساس العميق بالحرية والدفاع عنها بكل الإمكانيات المتاحة. والقصد هنا تلك الحرية المسؤولة التي تبقى ضمن حدود المصلحة الوطنية العليا ولا تتجاوزها، ولا تسعى إلى الوصول إلى الشهرة بمنطق (خالف تُعرف)، ولا تتعارض مع حقوق الآخر ولا تسيء إلى الغير. فالحرية ذات مفهوم واضح وصريح ومحدَّد درجت عليه البشرية منذ لحظة الخلق الأولى .متذكرين ما قاله الإمام علي بن أبي طالب في وصية له: (لا تكن غيرك وقد خلقك الله حرا)ً.
إنَّ قضية الحرية هي من أهم القضايا التي استرعت اهتمام وفضول البشرية منذ الأزل، ولا تزال تلك القضية تؤرق عقولهم وأذهانهم بما تفتحه من إشكالات ومطارحات ذات بعد (أكسيولوجي Axiologie) ـ أي العلم الذي يبحث في القيم ـ. ،تلك الإشكاليات والمطارحات فيها من القيم الهائلة التي تستدعي التدارس في رحاب الأخلاق، بحكم أن مسألة الحرية هي أولا وأخيراً و قبل كل شيء مسألة إتيقية بوصفها ضرباً من تجليات الممارسة التي تمثل الصيغة الفعلية للحكمة العملية قبل أن تكون مسألة وجودانية ـ أي (أنطولوجية) ـ بالأساس، وهكذا يمكننا معالجة الحرية من زاوية تلازمها المشروط بالمسؤولية الكبيرة التي تقع ضمن المنهج الأخلاقي كلَبِنَة أولى وأساسية لأيّة محاولة تحاول أن تتقصى دلالات الحرية كنمط قيمي، يحيل بالتأكيد إلى حرّيات .كما أنَّ الحديث المعمق عن الحرية في مدلولها التجريدي المحض فلا يمكن أن يكون مدان لنا البتة لأننا نعتبره ذا حمولة قيمية. والحرية مسألة تتعلَّق بالضرورة بالأخلاق لأنها منطلقةً من شرط المسؤولية الأخلاقية، ونعتبرها كقيمة في حدِّ ذاتها. من هنا وجب علينا أن نفترض على أنَّ الحرية كقيمة من القيم (الإيتيقية) تعني الحرية بوصفها حريات، أما والحرية المطلقة ،والحرية الأنطولوجية، والحرية المجردة، فليست قيماً على الإطلاق.
إنّ البحث في الحرية هو بحثٌ موضعَ خطرٍ ومصيري للإنسان والمجتمع معاً، لا يقتصر الخوض في محيطه على تحديد الحريات كقيمة ومعيار حيث تقاس أخلاقية الفعل بموجبها فحسب، بل يفترض أن يتجاوز ذلك الخوض ليتضمّن الوعي العقلاني للإنسان بالخيارات في مرحلةٍ معينة من سيرورته الإنسانية، وضمن أوضاع تاريخية معطاة ومحدّدة. ومدى دفع أي خيار منها ماهية المجتمع وبنيته تجاه تحقيق الحريات ،وضمانها بشكلٍ مطلق. أمّا المخاطر السريَّة الكامنة في الخيارات فهي التي لا تحسب عواقبها على نحوٍ عقلاني ومنطقي صحيح ومنها الإضرار بقضية الحريّة ذاتها .
في سياق البحث ههنا يبرز السؤال المركزي الذي يمكن أن نلخص به مضمون الفكرة حول ماهي سمة الوعي اللازم لممارسة الحريات السياسية بكل تلاوينها ؟، هل يشترط الوعي كحالة إلزام قسري وضرورة لهذه الممارسة؟، أم أنَّ أيَّة ممارسة عملية وحقيقية للحرية هي شرط يعمل على تطور هذا الوعي مهما تفاوتت نسبته ودرجته ؟ ، من جانبنا نعتقد أنَّ الوصول إلى أسمى درجاتٍ ممكنةٍ من الوعي النسبي أو الوعي المطلق لا يمكن أبدا أن تتم من دون أن نمارس حرية الرأي وحرية التعبير ،وشتى أنواع الحريات المدنية، إذ يلزم وجود الحريات الفردية كشرط أساسي وهام لقيام الديمقراطية الليبرالية، كما ييمكننا أن نتساءل بنوعٍ من القلق المدثَّر بالصمت والسكون: إذا وقعنا بين فكي كماشة حادّة ،واضطررنا إلى الاختيار بين ممكنين إثنين :الاستقرار وحفظ الحياة والأمن والأمان والسلام في مقابل الخيار الثاني الذي هو الحرية، فأيهما سنختار؟
هل سنعمد لاخراج اللفظة العربية (الحرية) من تزمتها النظري الخالص المتعالق بالتنظير الفلسفي وتقوقعها إلى دراسة ما يتعلق بالحريات بكل أنواعها ،وإمكانات احقاقها ،ومكامن الحدود والفواصل التي تتربص بها في مقابل السعي الحثيث عن الحديث عن تأثر المثقفين العرب في بداية الحداثة العربية بالفكرة الأوروبية عن الحرية، بدءا بحرية الأمة من الاستبداد والطغيان والقهر والظلم وانتهاءاً بتحرّر الأفراد من القسر والإجبار والإكراه في مسائل متعلّقة بالرأي والرأي العام، وحرية التعبير . ونحن غير غافلين عن تصنيف الحريات في عصرنا الراهن التي تنقسم إلى حريات شخصية ،وحريات مدنية، وحريات سياسية. إضافةً إلى البعد الفرداني في الحرِّية، حيث يكون للفرد الشجاعة الكاملة والقدرة الكلّية لمغادرة القطيع الخائف من التفرد أو الفرادة، عندها يستطيع الانسان بحق اكتشاف حريته الذاتية الجوانية بعمق شديد، لكنه في المقابل لا يقصي نفسه من الجماعة ،بل يبقى مرتبطاً بها ومندمجاً معها، ليظهر تجلي جديد منطقي وواقعي لمفهوم التحرر المحمول بجملةٍ من المعاني الجديدة التي تحتاج هي الأخرى إلى أدواتٍ جديدةٍ .يمكن أن تتحقّق في مجتمعاتنا العربية الحديثة والمعاصرة.
هناك العديد من القضايا الإساسية التي عاشتها البشرية، والتي لا يمكن التشكيك بها، وهي أنَّ الله خلق الإنسان حراً ويعيش حراً ويموت حراً، لكن ما يهمنا هو كيفية توظيف هذا الحق الأساسي والبارز من بين حقوق الإنسان في ضوء الظروف المتقلِّبة القائمة في عالمنا المعاصر، مع تطبيقها على خصوصيتنا العربية، وما يجري فيها. وهذا ما يدفعنا أن نبحث في شأن الحريَّات في وطننا العربي وموقف الشعب العربي منها:
شهدت منطقتنا العربية تجليات كبرى للدكتاتوريات في العشر سنوات الأخيرة، فقد بات رفض العالم للديكتاتوريات بمثابة خارطة فكرية وسياسية ومعرفية جديدة مع اختفاء الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، والرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، فضلاً عن سقوط حكم الفرد في كلٍ من تونس وجمهورية مصر العربية. هذا جزءٌ غير قليل عن تشكّل خارطة سياسّية عربية جديدة. هذا التغيير في منطقتنا العربية بكل ما كان على بلداننا العربية وما عليها سوف يبقي ما جرى في فترة (الربيع العربي) من أحدا ث مثار جدالٍ ساخن وموضع خلاف حاد. وإن كنّا نعترف بأنَّ ما جرى فتح للحريةِ باباً واسعاً على مصراعيه لم يكن متاحاً من قبل. ولكن حالات الخلط في أوراق اللعبة السياسية والأمنية والتغيير البنيوي والاستراتيجي في مساحةٍ واسعةٍ من الأرض العربية وكذلك كثرة الملابسات التي أحاطت بها ،جعلتنا ندرك أن الأمر لا يبدو قاطعاً. فنحن ما زلنا نعتقد أنَّ أحداث ذلك (الربيع) المزعوم والذي شهد حالة (الفوضى الخلّاقة) التي جاءت بها وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية كوندوليزارايس هي جزء من مخطط استراتيجي للمنطقة استثمرت فيه القوى الكبرى أحوال بعض الدول العربية وما شاع فيها من فوضى وخراب وفساد وضعف وإهمال، كما استغلت معاناة بعض الشعوب وشيوع الفقر والجهل والأمية والبطالة لكي تحوّل ذلك ليكون بعناية فائقة ضمن إطار منظومة واحدة دعت من خلالها إلى رفع شعارات الحرية والتغيير. وهذا الأمر لا بأس به طالما انطلق من حناجر مئات الآلاف بل الملايين من المقهورين من أبناء شعبنا العربي. لكن في ذلك يتضمَّن الكثير من القضايا المنظورة وغير المنظورة. فقد انتهى العمر الافتراضي لتلك النظم الحاكمة المتربعة على عروش الطغيان، وهذا خاضع لقضيتين أساسيتين هما: إما نتيجة المزايدة الثورية الغير متوازنة ورفع شعارات تجاوزتها الأحداث التي اتصفت بالسخونة ،أو نتيجة ترهّل وضعف ونكوص وارتكاس بعضها الآخر وانتهاء أعمارها الافتراضية المرسوم لها.
لقد آن الأوان لأن نكمل ما بدأناه قبل سنواتٍ عدّة. وهو التنبيه إلى شيوع خلط كبير استقر في الذاكرة العربية تراوحت بين الاستقلال السياسي من جهة ،ومنظومة الحريَّات من جهةٍ آخرى. فتاهت (الإيتيقية) ـ أي القيم ـ وغابت الرؤى، وأصبحنا أمام مشاهد مقلَّقة ولا تدعو إلى الارتياح أبداً، بخاصة وأنَّ الحرية وحدها لا تكفي، إذ لا بدَّ من أن يتم دراستها بعمق شديد، وأن تقترن ببرنامج إصلاحي مدروس بإحكام، ويحقق الطموحات المرجوّة .تتحقق فيه الحرية الاقتصادية والمالية والحرية الاجتماعية التي تراعي في الوقت ذاته الطبقات الأكثر عدداً والأشد فقراً وحاجةً، فضلاً عن أنها تفتح الأبواب واسعةً على مصراعيها أمام التحوّل الاجتماعي المنشود الذي يتوافق ويتواكب مع روح العصر وآليات التكنولوجيا الحديثة والمنجزات الأليكترونية العالية والشرائح الذكية. فنحن هاهنا إزاء تغيرات نوعية ضخمة في عالم اليوم، تُلزمنا أن نكون نملك الإرادة القوية الحرّة ،وقادرين على الإصلاح بالتغيير والتطوير والتحديث والتقدم الجاد والسريع نحو الرؤية التي مضت عليها الدول المتقدمة واتجهت نحوها جموع الأمم الصاعدة على الدوام ،والتي حقَّقت حضورها اللائق بين الأمم، إذ ليس سرّاً أنَّ إسهامنا نحن العرب في حضارةِ العصر محدود للغاية، وأنَّ جزءاً كبيراً من ثرواتنا الهائلة يستخدمه غير العرب في غير مصلحتنا وتحديداً دول الغرب الأوروبي ـ الأمريكي. لذلك، يكون من المتعيّن علينا القيام بعملية ترشيد فكري وعقلي دائمة. فالعقل هو سيِّد الموقف، إذ إنَّ النهضة الحقيقية لا تتحقَّق إلا بقرارٍ عقلي، كما أنَّ التخلف هو تعبيرٌ عنم الركود الفكري والثقافي والمعرفي والعلمي والأخلاقي.