جمالية الوصف السردي في (الطريق إلى الناصرية) لـ” طارق حربي “
أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
سنتحدث عن الوصف السردي عند الأديب طارق حربي في كتابه (الطريق إلى الناصرية), وهو يسرد لنا سلسلة الأحداث التي عاشها حربي في مدينته الناصرية بعد الرجوع إليها من المنفى و لشد ما يؤلمه وصف الناصرية من قبل أبنائها سواء العائدين من المنافي أو الماكثين فيها حين يطفو كل ذلك في سيل الروايات الجارف الذي يعطي للناصرية صورتها السوداء القائمة , والحديث عن الحضارة السومرية القديمة ,والثراء السابق ,والنعيم المقيم ,والجمال الباقي في تلافيف الروح التواقة لان ترى الناصرية من جديد بصورتها القديمة, تلك الصورة التي لن تنسى في ذاكرة الأديب طارق حربي , فنراه يقول: وعدا شوارع النيل والحبوبي والجمهورية والنهر, كان بي شوق لا يوصف لزيارة ملاعب الصبا في محلة السيف بكسر السين وتشديدها, فمع سراي الحكومة وإدارة المدينة في مرحلة التأسيس أنشئت صوامع بيع وشراء الحبوب وسميت بالسيف, وشيدت أولى الإحياء السكنية حول الصوامع وسميت باسمها بما شملت من أسواق الحدادين والنجارين وصاغه الذهب والمواد الإنشائية , تميز أسلوب الشاعر, والكاتب (طارق حربي) في كتابه الجديد (الطريق إلى الناصرية) بأسلوب يحيل اليوم إلى فن اليوميات أكثر من فن السيرة, فهو يوم ليس ككل الأيام , أو هو احتدام الأيام في دورة زمان قياسية محددة , تتصادم فيها أيام الدكتاتورية مع أيام الاحتلال , وصباحات المنفى مع فجر العودة , ساعات الإحباط بأوقات الأحلام بالحياة إلى هذا الحد , شاء الشاعر العراقي حربي لإصداره المغايرة عن عادة كتاباته الشعرية بالافتراق عنها خارج الشعر, وخارج الأشكال, والتقنيات التي إلف الكتابة بها في إصداراته السابقة فجاء كتاب (الطريق إلى الناصرية) سردا يكاد يكون مرئيا,مخترقا بأضواء الذاكرة عن مدينة الكاتب الناصرية تحديدا ,حيث اللغة هنا بأبسط أشكالها, وليست عبارة (الطريق) على غلاف الكتاب سوى توثيق افتراضي فني لهذا الطريق, وهنا كناية عن مناسبة لوصف ما يجري في الناصرية قديما وحديثا, فهو طريق له ما قبله,وما بعده في حياة الزمن, بينما الأيام الشخصية للكاتب تجري عميقا في تاريخه الشخصي عبر نهر طويل, فنراه يقول: وجدت نفسي ذات مساء من نهاية الشهر الأول من الزيارة مع ثلة طيبة من الأصدقاء القدامى, في المتنزه الذي لم تبق منه سوى إطلال الأمس ارتقينا السلالم المهدمة لل (كازينو) والتقطنا صورا للفرات الخالد المار بقربها وكم بدا حينذاك حزينا؟! وهل يقبض النفس شيء مثل انحسار المياه فيه وتحوله إلى نهير؟! وأزاد المشهد المسائي كآبة هو انطفاء المصابيح المعلقة على أعمدة جسر النصر البعيد نسبيا وكانت نصف مصابيحه معطوبة أصلا ! خيل إلي في تلك الساعة أن لا شيء مثل تضامن الجسر مع النهر, يرسم صورة واقعية لما آلت إليه أحوال البشر والحجر ! إن ما كتبه المبدع طارق حربي هو تسجيل بأقل ما يمكن من الصفة الأدبية واقل منها الشعرية لكي يقترب أكثر من هذا الواقع الذي اعتقد انه بمجرد تصويره يحتوي على أبعاد شعرية إنسانية وتاريخية على مستوى كبير من الأهمية, لأن التاريخ يكتب الآن, وليس هناك مؤرخون مكلفون وحدهم بكتابة التاريخ ,كلنا نكتب التاريخ, والتاريخ الحديث هو محصلة كل الكتابات، فكانت عينا الكاتب حربي عدسات لرؤية صور مأساوية نقلها إلينا الشاعر بريشته كفنان محترف, فنراه يقول: حتى اليوم تحكي قصة الأمس عن مجتمع متماسك متعايش في إطار السلم الاجتماعي توحدهم الهوية العراقية الجامعة لكن السياسة مزقت نسيجهم فاجبر اليهود على الهجرة وما زالوا يحنون إلى العراق والكرد الفيليون إلى إيران في عام 1980 فضلا عن طيف واسع من الوطنيين والتنويريين والحالمين بناصرية أفضل وعراق خال من الظلم والدكتاتورية.
ولعل عنوان الكتاب (الطريق إلى الناصرية) يعد من أهم مفاتيح الدخول إلى عالمه الفني, واستكشاف مكامنه, وسبر أغواره, وإنارة الأماكن المظلمة فيه, بل حتى الغموض المهيمن عليه, أو على بعض أجزائه ينجلي حينما نلجأ إلى العنوان وندرس بنيته, فيصبح عونا على فهم التركيب الأكثر غموضا وإيهاما من أجل الوصول إلى الدلالة الاشمل في النص الأدبي, واستيعابه، ولم يخطئ محمود عبد الوهاب حينما سمى العنوان ثريا النص لتألقه, وتشظيه وإنارته للنص, ويعد العنوان منبها أسلوبيا لايستهان به في النص لما يحمل من بنية دلالية, والنص له دلالته ولغته الخاصة ذات الإبعاد المتعددة, التي يوضحها المبدع طارق حربي في عنوان كتابه (في الطريق) فنراه يقول: عدت بعد أكثر من 22 عاما من المنفى إلى بلدي, أمضيت سنتين وأربعة أشهر منها في مخيم رفحاء الصحراوي, الواقع إلى الشمال الشرقي من المملكة العربية السعودية في إعقاب انتكاسة انتفاضة آذار في عام 1991, ونحو عشرين في المنفى النرويجي فكرت طويلا قبل اتخاذ خطوة الزيارة خشية الصدمة التي سوف يسببها لي طول البعاد وتغير نفوس العباد ! وجدت في نهاية المطاف إلا مفر من زيارة العراق مهما طال الزمن ,وهنا الذي يشرف النص لا ليضيء ما يعتم منه فحسب, بل ليوجه القراءة كلها, وهذا ما يفهمه شعراء الحداثة من فلسفة العنونة, وعد العنوان في الدراسات النقدية الحداثوية بنية نصية وليس لافتة مجردة من الدلالة فهو قراءة نصية تستوقف وتوجه بقدر محمولها ذاته , وما تتشكل منه في عملية الكتابة أولا,ومن ثم فهو في أضاءته السبيل التي تتناغم مع القراءة, واعتلائه صهوة النص يسمح بنشر النور اللازم لتتبع الدلالات الحافة للنص ثانيا ,وإذا ما تطرقنا إلى الزمن في كتاب (الطريق الى الناصرية) نجده محور العملية الجدلية التي تقوم بتوظيف الأفكار والرؤيات, والتصورات المندرجة ضمن خصائص كل عصر لتميزه عن غيره من العصور, إذ به يكشف عن آفاق التجارب الإنسانية التي يمكن أن تقف معطياتها عند حد معين, إنما تسعى للبقاء في استمرارية تنأى بها عن الوقوع في ثبات دائم, وذلك عبر إدراكها ضمن بنيات التحول المحتضنة لها , والمتجسدة في مركبه المتناوب الأبعاد, إذ ما من شيء إلا ناله الزمن بجانب من التغير والتبدل, بل إن الزمن هو التغير عينه , وبدونه تبور الحركة وتنعدم الحياة, سيبرز المبدع طارق حربي للشارع الواحد, وللساحة الواحدة , وللنهر وللبساتين, سيبرز لكل صورتين, صورة الماضي, وصورة الحاضر, وستبدو الصورة الأولى القديمة هي الأجمل, فيما ستبدو الصورة الثانية بائسة, وليس السبب مردودا على الاحتلال فقط, فالمسؤول عنه أيضا نظام الحكم السابق, إذ بدأت الأمور تسوء قبل يوم (9/4/2003), بعقود عدا المعلومات التاريخية عن الناصرية, وعدا الكتابة عن حياة الناس فيها الزمن الجميل, والزمن القبيح, أي في الستينيات وما بعدها , يقرأ المرء تفسيرا معقولا عن ظاهرة تدمير مدينة الناصرية, لان الكتاب لم يتوقفوا أمامه, وهو ترييف الناصرية, فمأساة هذه المدينة بدأت حقا منذ اللحظة التي بدأ فيها الريفيون العراقيون يغزون المدينة, وبدلا من أن تمدنهم مدينة الناصرية, فقد ريفوها أي حولوها إلى ريف, وهذا هو سر مقتل هذه المدينة في الزمن الحالي, إذ فقدت بذلك دورها الحضاري, وما كان لها أن تصل إلى ما وصلت إليه لولا الترييف, ومن ثم الدكتاتور, ولو واصلت المدينة نزوعها المدني, ومدنت الريف والريفيون لأسهمت أسهاما كبيرا في التطور, ولربما كان للعراق دور مهم جدا في العالم العربي ومن خلال نصوص طارق حربي السردية انه معارض للنظام السابق, فقد أدانه غير مرة, وحمله مسؤولية أيضا فيما آلت إليه الأمور في العراق, أليس صدام نفسه ابن قرية قالت عنه ابنته ذات يوم أن طموح أكثر أبنائها لم يكن يتجاوز أن يصبح معلما في مدرسة, فإذا بابيها وأسرته يغدون رأس النظام وابرز أعمدته.