رثاء الأب في ديوان (هي ذي العهود) للدكتورة عهود عبد الواحد

أ.د. مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي


إنَّ رِثاءَ الأب لدى الشاعرة (عهود عبد الواحد) قد اتَّسم بصدق العاطفة, وعمق الأسى وصدق الموقفالشِّعوري, وبالأخصِّ فيما يتعلَّقُ برثاء الأب (اللواء عبد الواحد عبد الصاحب), وندب الذات , فالذاتُ تقطرُ حزناً و ألماً على مصابِها النَّاتج من شعورها بقرب لحظة الموتِ منها, لذلك التجأت إلى رثاء ذاتها بالتَّفجُّعِ والبُكاءِ، الأمرُ الذي ازداد حرارةً وغُصَّةً مع ندب الأب خاصَّةً وأنَّ القدرَ قد اختارَهُ, واختطفَهُ بعيداً عن أحضان الشاعرة, فكان لذلكَ الموقف جُرحاً غائراً تركَ أثراً عظيماً في نفسهِا, إذ ترثيه بألفاظٍ تدلُّ على مدى الحزن العميق الذي خلَّفهُ ذلكَ الرَّحيل في قلوب أهلهِ ومُحبيهِ, فذكراهُ وطيفُهُ لا يأبى مُفارقةَ مخيَّلة الشاعرة, فقد كان في حياتهاِ كظلها من كثرة التردد على المكان نفسهِ, ولكن آنَ الأوانُ أن يرتحلَ إلى مكانٍ آخر حيثُ الرُّقادُ الأبديُّ, إلى قبرٍ مُوحشٍ تنفصلُ فيه الرُّوح عن الجسدِ كما ينفصلُ السَّيف عن الغمدِ, وقد عبَّرت الحروف عمَّا بداخلِها فهي تتأوَّهُ على فَقْدِ أبيها فهو صديقُها الذي تركَها بعيداً حتى أوشكت على اللحاق بهِ.

وتستعرضُ هنا عدداً من المواقف التي مرت بها الشاعرة عهود, قبيل وفاة والدها رحمة الله عليه فنراها تقول:

سلام أبي وصديقي اللبيب
أحقا مرضت وأنت الطبيب
أحقا رحلت لتلقى العلاج
وأنت الحياة لكل جديب
ذهبت وقلبي يناغيك حتى
وصلت لمشفى العلاج المصيب
دعوت الهي كثيرا كثيرا
ليشفيك والدمع جد سكيب

إن الأسلوب الشعري عند الشاعرة عهود ينماز بالبساطة, ولغتُهُا الشعرية التي كثيراً ما تقتربُ من الكلام السائر أوالعبارة النَّثرية، وهي إذ تتأمَّل المشهد المحزن َ وتكشفُ عن وعي مُباشرٍ المشهد من حولها, كذلك استطاعت أن تعكسَ وعياً بالحياةِ اليوميَّة فعالجَت كثيراً من مواضيعِها من غير تَعثُّرٍ أو ازدراء, ومن ثَمَّ فهي معنية عنايةً مُخلصة بالحياة والوضعية الإنسانية, ولهُا القدرة على تصوير المواقف المثيرة للأسى في سهولةٍ ووضوحٍ من غير كُلفةٍ أو تصنُّع وهذا يدلُّ على تعظيم مرثيِّها, وإعلاء شأنِهِ ومكانتهِ بكلماتٍ تدلُّ على البساطة والتَّواضع ودماثة الخلق، الأمر الذي جعلَهُا تحتلُّ موقعاً متميِّزاً بين النَّاس, فضلاً عن بساطة الأسلوب الشِّعري واللغة السلِسة التي تصِل إلى قلوب الناس, فنراها تقول:

أبي هل رأيت عهودا بمشفى
فوالله إني هناك رقيب
وكنت أداويك من فيض روحي
حنانا فحبك نبع عجيب
وقد جئت أرض الحسين لأدعو
وما خاب داع وربي مجيب
وعند أبي الفضل رمز الغيارى
بكيت لأجل البعيد القريب
وان شاء ربي يعود حبيبي
معافى بحق الرسول الحبيب

إنَّ هذهِ صفاتٌ محمودةٌ, وقد دخلت في إطار الزمن الماضي عندما كان الأب في المشفى إذ قامت بالثناء على الأب في أنفاسه الأخيرة والإشادة بفعالهِ وخصاله إذ ليس بين الرثاء والمدح فرق عند الشاعرة عهود؛ إلَّا أنَّهُا تخلطُ بالرثاء شيء يدلُّ على أنَّ المقصود به ما زال حيا فتثقل النَّص بالإيحاءات والإيماءات الدَّالة على مكانة المرثي وخبرته, فقد كان يسيرُ على خطوات ثابتةٍ, ولم يلتوِ في أساليبهِ, ولم يعرف المُداهنة, ومن ثَمَّ فهو يهدفُ إلى إصلاح المجتمع وفق أُسس ومبادئ سامية, ويسعى إلى بثِّ الوعي التَّجديدي في مجتمعهِ الذي تغيَّرت وجهتُهُ الحقيقية على أثر التَّقاليد والأعراف الخاطئة, فهذهِ الشخصيَّة المرثية لا تترك طريقاً إلَّا وسلكتهُ في سبيل أن تصل إلى إدخال السرور والمرح على عائلته حتى وإن اضطرَّت إلى اختراق جميع الحُجُب الأرضية لتمرَّ فوق السَّحائب، ليضطلع النَّص بخلق مساحةٍ ما بين القيد والسَّحاب ومدى ما فيهما من تَّباين، الأمر الذي يستدعي فطنة القارئ إلى مدى القُدرات والطَّاقات الكامنة التي يتمتَّعُ بها المرثي في سبيل إيصال محتوى مادَّته ومضمون رسالته, إذ نستقرئ مشاعرَ الحزنِ والهمِّ التي أثارها رحيلُ الأب (اللواء عبد الواحد عبد الصاحب) والرثاء عند الشاعرة عهود تعبِّرُ فيهِ عن مشاعر الحزنِ واللوعةِ , التي تَنْتَابهُا لِغيابِ عزيزٍ فُجِعَت بفقدهِ, وقد عبرت عن عاطفة الألمِ كلَّما امتدَّت لها يدُ الغيبِ, لتُعطِّل فاعليةَ الحياة في إنسانٍ ما, ليكون الرثاءُ هو هذا التَّعبيرُ الذَّاتي بالتَّفجُّع على الميت وبُكاء فضائلهِ, وتصوير مشاعر وجدانية خالصة حيال حادثة الموت , فنراها تقول:

رحلت وروحي عليك تذوب
وقلبي تضيق عليه الدروب
تفرس في كل وجه عسى أن
يلاقيك لكنه يستريب
ونفسي تجزع من كاس هم
يغصغصها والفراق رهيب
أكفكف دمعي واتي إليك
فأنت لداء هواي طبيب

ويمكنُ أن تُعَدُّ العاطفةُ التي اتَّشحَ بها النَّصُّ في ضمن ما يُسمَّيها النُّقَّادُ ﺑ “عاطفة الوفاء” إذ تعني عندهم عرفانَ الجَّميلِ وحفظ المودَّةِ التي كانت تربطُ الشاعرَة بالمرثيِّ, فالعاطفةُ الحقيقيةُ التي تُفجِّرُ ينبوعَ الرِّثاءِ الحق , إنَّما هي عاطفة الحزن, والأسى, والحرقة التي تستولي على الشَّاعرة, فتذوبُ لها نفسُهُا شعراً , فيتَّشح بالسَّواد, وتبلِّلهُ دموعُ الأسى والحرمان, إذ يصدرُ خطابها إلى شخصٍ انتهى به المطاف إلى مسافات بعيدةٍ, وفي النَّصِّ إشارةٌ عابرةٌ إلى علاقة الشاعرة بابيها فهو ليس ممَّن جعلوا المالَ والجاهَ جُلَّ غاياتهم واهتماماتهم, بل اجتهدوا في تكوين العلاقات الطيبة مع الناس والأهل والأصدقاء, هي خيرَ مَن يُدخِل على نفسِهِ النَّشوةَ والافتخارَ لحظةَ موتهِ؛ لأنَّها تُمثِّلُ الإرث والإرث الحضاري والفكري للذات المرثية في نفوس القرَّاء ومتذوقي الشعر, فنراها تقول:

بعين دمت لفراق حبيب
أبت ان يكون سواك حبيب
فأنت ملاذ عهود وبعدك
قل لي: إلى من يكون الهروب؟!
فشمسك دفئي احن إليها
وأخشى إذا حل في الغروب
واذكر منك حنانا عجيبا
إذا يحتويني ,, وربي أذوب

ولا يقفُ الرثاءُ على تخليدِ الإنسانِ الميتِ فهو تخليدٌ لقِيمٍ اجتماعيةٍ وإنسانيةٍ اقترنت بهِ أيضاً, فكلُّ صفةٍ من الصِّفات التي تُقدِّمها الشَّاعرُة للمرثي تقترنُ بفضيلة ٍمن الفضائل, وهذه الفضائل تُمثِّلُ البنيةَ الأساسيةَ للإنسان السَّوي حيَّاً, وتكونُ سبباً لذكرهِ إذا مات, هذا فضلاً عن أنَّ الرِّثاء يُعبِّرُ عن فضيلةٍ إنسانيةٍ أخرى تتصلُ بالمرثي نفسه, تتمثَّلُ بالوفاءِ لإنسانٍ فارقَ عالَم الأحياء, وقد أجادت الشاعرة المبدعة عهود في رثاء أبيها الذي رحل سريعا , فنراها تقول:

ولهفة خل ضناه الغرام
فإن عليه اشتياق غريب
واذ كنت تمشي يحل السلام
وتخصب أصقاعنا وتطيب
وحين لربك يعلو ابتهال
تصلي الحياة وتمحى الذنوب
وحين تسير تضج النخيل
تقول: أتانا شجاع مهيب
ومن لا يبالي بوقع الخطوب
وموج المنايا الجسام يصوب

إنَّ الشاعرة عهود عبد الواحد في موضوع الرِّثاء اتسَّمت بأُفقَ التَّجديدِ الشعري, وخرجت إلى فضاءاته الواسعة, بل التزمت بمعنى الرِّثاءِ التجديدي, ولم تخرج عن محور القصيدة الرثائية, أمَّا صفاتُ المرثي كانت له أبعاداً دلاليةً تَزيدُ عن الإشادة به, وبمصادر ثقافتِه بين النَّاسِ, فضلاً عن ذلك فقد أكثرتَ من معاني البُكاء والتَّأمُّل والحكمة التي تُصاحِبُ دلالةَ الرِّثاء, فضلا عن قدرتها الفنية في رسم القصيدة بريشتها الشعرية, ولديها أسلوب جميل, ورائع في كتابة القصيدة الرثائية , وجاءت خاتمة القصيدة معبرة عن أساليب بلاغية جميلة وأسلوب التشبيه من خلال أداته في القصيدة لها فضلا عن تميز القصيدة بألفاظ الحزن, والشجن, وهذا ما وجدناه في قصائد الرثاء عند الشاعرة المبدعة عهود عبد الواحد فنراها تقول:

تعلمت منك امتطاء الصعاب
فلا خوف ينتابني أو يجوب

وعيشا يسر كريم الصحاب علاه شموخ اباء عجيب

أشم مع الريح منك نسيما
افز له .. أبي هل تؤوب؟
وهل ستعود إلي ليال
بقربك والعيش زاه رطيب
إلهي أتاك ابي مستجيرا
فأودعه جنات خلد تطيب
وأبلغه مني سلاما وقولا:
حوتك بأوساطهن القلوب

ترتفعُ الشَّاعرة عهود إلى مستوى الحدث المؤلم, فيأتي رثاؤهُا عاطفيَّاً، فالشَّاعرة تسجِّلُ حزنها و إظهار توجُّعِهاُ ممَّا آلَ إليه حالُ فقده المفجع والمؤلم, وقد كثرت الحوادثِ وهواجسُ الهمِّ والأنين من بعده، وهي علامةُ رحيله عن محبيه, فالقدرُ قد قسَّم أرزَاءَهُ بيننا وليس بوسعِها ردُّه أو الاعتراض عليه سوى تحمُّل مشاقِّهِ وألمهِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى