رواية ” أسد أم جفيل الاعرج ” (4)

طارق المامون | السودان

اللوحة للفنان البريطاني: ريتشارد أنسديل

ضرب السلطان الأرض غاضبا و صائحا :قلت لك لا ملك غيري في هذه البلاد .. أنظر أيها الغريب إما أن تفصح عن قاتل أبيك أو اخرج من مجلسي هذا و انتظر حكمي …

الحلقة الرابعة
– هدئ من روعك يا مولاي فإن الذي قتل و الدي ليس من البشر فما كان لفارس أن يجرؤ على قتله مهما بلغت شجاعته و ليس من الجن فإن الجن يتهيب حامل القرآن و قد كان والدي يحفظ القرآن و يستظهره عن ظهر قلب و لقد روض والدي ملوكهم و أسلموا له قيادهم .. لكن من قتله ملك عظيم نتتبعه من عشرات السنوات إنه الأسد ذو العقصة السوداء في كتفه , ملك كل غابات أقليم السودان الداخلي نتتبعه منذ أن كان شبلا يافعا .. نتسقط أخباره كما تتسقط أخبار أعدائك العظام و جاءت لصيده الحملات إثر الحملات فقد كان منيعا في سربه , لا تصل إليه إلا بعد أن تقضي على أسود و سباع كثيرة , فإن الذئاب و الضباع و بقية أهل الغابة يظاهرونه الولاء في نموذج عجيب شد انتباه صيادينا و حق له ذلك , فقد استبسل في تأمين الغابات كلها من شر الصيادين و المغامرين أمثالنا و لقد أدهشنا حضوره و امتداد نفوذه فما من غابة ندخلها إلا ونجده بها متأهبا متحفزا لقتالنا و طردنا كأن هناك من يخبره بتحركنا من بلادنا و بوجهتنا قبل الوصول الى المنطقة , , وقد قتل هذا الملك والدي حينما واجهه كما يتواجه الفرسان الشجعان وجها لوجه …
ضحك السلطان حتى كاد أن ينكفئ على قفاه بعد أن علم بأن هذا الملك ملك من السباع و ليس من البشر و لكنه أسرها في نفسه و اعتبرها نوع من عدم احترامه ذكر الملوك أمامه بهذه الجرأة و التحدي وقال له: نحن لا نقتل ملوك الحيوانات يا “تونسي” بل نكرمهم و نطعمهم و نحميهم , و لقد هيأنا فرقة من العسكر لا هم لها غير منع الصيادين و المغامرين من قتل الأسود و النمور و الحيّات العظيمة ,بيننا و بينهم تحالف و ميثاق لم ننقضه منذ مئات السنين و لم ينقضوه…و لولا أننا انشغلنا في سنواتنا الأخيرة بحروبنا مع الفونج الأقوياء وحلفائهم لما كنت في مجلسك هذا و لما مات أبوك بعضة أسد ..كما تزعم و لكنكم استمرأتم الدخول الى أراضينا في غياب جنودنا و عساكرنا وانشغالهم بالقتال.
تبسم “مهران” مجاملا مضيفه في ضحكته : إن مناطق الغابات تذخر بالصيادين المهرة من أهلها الذين يجيدون صيد الأسود .. و بعضهم كان يبيعها لنا و بعضهم نشتري منه عاج الأفيال الثمين و جلد الثعابين الضخمة و لحم الكركدن الأبيض الشرس الذي أظن أن نسله سينقطع عاجلا إن لم تقوموا بحمايته .
جلالة السلطان العظيم إن ثأري مع أسد واحد و ليس مع كل الأسود فأنا أعاهدك على حمايتها كما أحمي زوجتي و بناتي و سأتعاون مع عسسك و عساكرك في هذا إن أذنت لي بذلك.. ولكني نذرت نفسي على القضاء عليه و لئن رجعت الى قومي بدونه فسوف ينبذونني و يطردونني .. فأنا ابن “عليسة” العظيمة منذ أول الدنيا التي طوعت الجبال و البحار و ألانت حديدها و سليل “ديهيا الكاهنة” التي خضع لها البرو البحر في زمانها لن أخون كلمتي و مهجتي دون عهدي..
عظم الغريب في عيني “السلطان” و سرته نبرته و ثقته رغم أنها أخافته منه , قال له: ما كان لك أن تتفوه بمثل كلامك و أنت في حضرتي لولا اطمئنانك لعهدي وثقتك بأني لا أقتل ضيفي , و سنحمل قولك على هذا المحمل … لكن من قال لك بأن أسدك ما زال حيا بين السباع..ربما مات كما تموت الأحياء كلها لتلتقي عند من لا يموت يوم الدينونة الكبرى , وربما مرض أو هزل فما لعظيم عظمة مع مرض و ربما اصطاده صياد غيرك فإن حواء ولادة و فوق كل ذي علم عليم فما أنت أول الفرسان ولا أنت آخرهم.
تغير وجه “التونسي مهران” و احمر حتى بانت الدماء في خديه و عينيه و قال: ما كان لأحد غيري أن يقتله و لن يموت أو أموت قبل أن أصل إليه طال الزمن أو قصر ثق بذلك أيها السلطان الجليل.. كذا يقول الكتاب و هكذا أخبرني أبي قبل أن يموت متأثرا بجراحه و إني لقاتله بإذن الله…
لم تقنع قصة الأسد السلطان كثيرا بقدر ما أثارت الشكوك في قلبه, فما علاقة الأسد بالتنجيم عن الذهب و كيف استطاع “مهران” رسم كل هذه الرسوم عن مملكته و معرفة أماكن الغابات و المدن , و لذلك أرسل من يراقبه و يَلزَمُه في حركاته و سكناته بالذات عندما يخرج خارج مناجمه, كما أنه استدعى “حاكم” في صباح ليلة الوليمة ليوجه له رسالة واضحة أن هذا الغريب تحت مسؤوليته المباشرة و أن “حاكم” و أهله أجمعين تحت تهديد جلالته المباشر إن شعر بريبة في أمره فهو في وضع لا يحتمل التسامح في الصغائر دعك من الكبائر, و أبان له جيدا أنه سيقبل بأن يكون “مهران” تحت حماية “حاكم” شريطة أن يؤمن له تلك المنطقة و أن يأتيه بأخبارها , و أنه سيعتمده “شرتايا” على أن يقبل بحكم الوساطة الذي سيأتيه للحكم بينه و بين الشرتاي “سرور”.
كان كلام “التونسي” عن الأسد مثار استغراب “حاكم” فهذه المرة الأولى التي يفصح فيها عن قصته مع الأسد , و لقد أجابت هذه الرواية عن أسئلة كثيرة كانت تحوم في صدره حول نسيبه “مهران”.. خروجه و اختفائه لأيام دون أن يعلم أحد بمكانه.. الغرباء الذين كانوا يأتون بين كل فترة و أخرى محملين بأنياب و جلود و رؤوس ثعابين و حيوانات مختلفة, ذلك الغريب الذي جيء محمولا به و مات و دفن تحت سفح الجبل … ذلك الجرح الغائر في جنبه الذي تثور آلامه كل فترة من الزمن و بالذات في فصل المطر حتى تقعده عن الحركة.. كل هذه أسرار لم يبح بها له و لم تتكشف معالم حقيقتها غير يوم أن أخبر السلطان العظيم بسره…. ثم إن المسؤولية أصبحت كبيرة بتهديد السلطان له و السلطان في أيامه هذه أشرس من أسد جريح هاج من رائحة دم , و يبدو أن نفس الأسئلة التي كانت تدور قبلا في رأس السلطان بدأت تعمل في رأسه.. من هو و ماذا يريد و هل له علاقة بما يدور في المنطقة من كر و فر بين سلطان المسبعات وبين سلطان الفور خاصة و هو يقع بين منطقتين النفوذ فيها لسلطان الفاشر و القرب فيها لسلطان “الأبيض”…
و في طريق الرجعة و في ساعة راحة و مقيل طلب “حاكم” من “مهران التونسي” أن يذهب معه بعيدا عن القافلة التي جاء بها لزيارة السلطان ليريه شيئا يخبؤه في منطقة قريبة من موقع مقيل القافلة حتى إذا ابتعد بحيث لا يسمع أحد حديثهما طلب منه التوقف والنزول من حصانيهما و الجلوس و ريثما يخرج شيئا من الخُرْجِ و أمده بماء من قربة يحملها في حصانه ليشرب, فلما اطمأن إلى اطمئنانه و جلوسه ووضعه وكاء القربة في فمه أخرج خنجرا من جفيره وأتى من خلف “مهران” ووضع الخنجر في رقبته ممسكا برأسه تالا لها إلى الخلف : من أنت و ماذا تريد …أصدقني و إلا و حياة أبوي الشريف لترجعن من هنا رأسا بلا قدمين…
يتبع….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى