شعرية العتبات النّصية في دواوين الشّاعر العُماني سعيد الصقلاوي

د. انشراح سعدي أستاذة محاضرة /جامعة الجزائر2

    لم يعد النّص الشّعري المعاصر مجرد قصائد تُجمع وتُطبع في كتاب، وإنّما هو نسيج من النّصوص المكتوبة و النّصوص الموازية المعلنة تارة والمضمرة معانيها تارة  أخرى، والنّص الموازي هو عبارة عن ملحقات نصية وعتبات تتصل بالنّص مباشرة “تشمل كل ما ورد محيطا بالكتاب من الغلاف،والمؤلف،والعنوان، والإهداء، والتصديرات، والمقدمات، والهوامش”[i]، وسنتناول في هذه الدراسة تمثُل العتبات النّصية في مجاميع الشاعر العماني سعيد الصقلاوي  الخمس:(ترنيمة الأمل/ أنت لي قدر/ /نشيد الماء/ /أجنجة النهار/ /وصايا قيد الأرض)، منطلقين من تساؤلات كثيرة أهمها هل خطاب العتبات عند الشاعر سعيد الصقلاوي خطاب واع في ظل فوضى النّشر والتلقي والتأويل؟ وهل ساهم خطاب العتبات في ففهم النص؟ أم في اتساع رقعة الفجوة بين النص والمتلقي؟

       إن الإجابة عن الأسئلة تستدعي الوقوف على عتبات الدواوين الشعرية ، التي سننتقل عبرها من شعرية المقروء إلى شعرية التفاعل النصي، التي لا يتكون من النصوص فقط وإنما بما يحيط هذه النصوص التي أصبحت جزاء لا غنى عنه في فهم النص وتأويله.

       يعرف جيرار جنيت النص الموازي  * le paratexte في كتابة اطراس  Palimpsestes  بأنه “يتكون من علاقة هي عموما أقل وضوحا وأكثر اتساعا. ويقيمها النص في الكل الذي يشكله العمل الأدبي، مع ما يمكن أن نسميه بالنص الـموازي، أو الملحـقات النصية Les Paratextes، كالعنوان، والعنوان الفردي، والعناوين الداخلية، والمقدمات، والملحقات، والتنبيهات، والتمهيد، والهوامش في أسفل الصفحة أو في النهاية، والمقتبسات والتزيينات، والرسوم، وعبارات الإهداء والتنويه والشكر، والشريط، والقميص، وأنواع أخرى من العلامات الثانوية والإشارات الكتابية أو غيرها مما توفر للنص وسطا متنوعا. وقد يكون في بعض الأحيان شرحا أو تعليقا رسميا أو شبه رسمي”[ii]،

ويعرف محمد الهادي المطوي النص الموازي قائلا ” هو كل نصية شعرية أو نثرية تكون فيها العلاقة، مهما كانت خفية أو ظاهرة، بعيدة أو قريبة بين نص أصلي هو المتن ونص آخر يقدم له أو يتخلله مثل العنوان المزيف والعنوان والمقدمة، والإهداء، والتنبيهات، والفاتحة، والملاحق والذيول، والخلاصة، والهوامش، والصور، والنقوش، وغيرها من توابع نص المتن والمتممات له مما ألحقه المؤلف أو الناشر أو الطابع داخل الكتاب أو خارجه مثل الشهادات والمحاورات والإعلانات وغيرها، سواء لبيان بواعث إبداعه وغاياته، أم لإرشاد القارئ وتوجيهه حتى يضمن له القراءة المنتجة”[iii].

   ويمكن تقسيم النّص الموازي إلى قسمين:

أ*النـص المــوازي الداخــلي (Péritexte):  

تعني السابقة اليونانية (Péri) حول، أو كل نص مواز يحيط بالنص أو المتن (النص المحيط)، أو النص الموازي الداخلي أو المصاحب أو المجاور.والنص الموازي الداخلي عبارة عن ملحقات نصية، وعتبات تتصل بالنص مباشرة. ويشمل كل ما ورد محيطا بالكتاب من الغلاف، والمؤلف، والعنوان، والإهداء، والمقتبسات، والمقدمات، والهوامش، وغير ذلك مما حلله جنيت في الأحد عشر فصلا الأولى من كتابه (عتبات).

ب*النص المــوازي الخارجي (Epitexte):

وتعني السابقة اليونانية (Epi) على، أي: النص الموازي الخارجي، أو النص الموازي الرديف، أو النص العمومي المصاحب. وهو كل نص من غير النوع الأول مما يكون بينه وبين الكتاب بعد فضائي وفي أحيان كثيرة زماني أيضا، ويحمل صبغة إعلامية مثل الاستجوابات والمذكرات، والشهادات، والإعلانات، ويشمل الفصلين الأخيرين من كتاب جنيت السابق ذكره[iv].

    النص الموازي الخارجي هو كل نص مواز لا يوجد ملحقا بالنص ،كاللقاءات والحوارات والندوات وغيرها وهو لا يعنينا في هذه الدراسة ،أما النص  الموازي الداخلي فهو عتبات النص كيما أشرنا وسنبدأ بعتبة الغلاف.

  • حفريات في عتبات الأغلفة الصقلاوية من  شعرية المعلن إلى  شعرية المضمر :

     إن الخطاب الغلافي من أهم عناصر النّص الموازي المساعدة على فهم جنس النّص الأدبي، والدخول إلى أعماقه من أجل الوقوف على مضامينه وأبعاده الفنية والأيديولوجية والجمالية، إذ يوجه القارئ من خلال اسم المؤلف والعنوان المركزي والعناوين الفرعية وجنس الابداع ودار النشر وكلمة المبدع أو الناقد والصور أو اللوحات الفنية المدرجة فيه إلى هذه المضامين المعلنة أحيانا والمضمرة أحيانا أخرى ،المحيلة جميعا إلى التّيمة العامة للعمل الإبداعي.

  • عتبة المؤلف:

      يعتبر اسم المؤلف من العلامات المهمة المشكلة لعتبة الغلاف الخارجي على مستوى التشكيل المعنوي والبصري، إذ لا يستقيم أي عمل ابداعي بلا اسم صاحبه، وتندرج عتبة المؤلف ضمن ملحقات النص الموازي، فالمؤلف هو  منتج النّص ومبدعه ومالكه الحقيقي، فهو يشكل مرآة لنصه من الناحية :البيوغرافية ،والاجتماعية ،والتاريخية ،والنفسية إن شعوريا  وإن لاشعويا[v]،واسم المؤلف يعطي شرعية لقراءة النص في كثير من الأحيان ، إذ نُقبل عادة على قراءة الأعمال التي نعرف أصحابها ،فيكون الاسم على واجهة الغلاف إعلانا واشهارا لصاحبه ،يسوّقه قرائيا إن صحت العبارة ، فاسمه يؤدي وظيفة تعيينيه اشهارية ،ولا  يمكن أن يتساوى في ذهن القارئ الكاتب المعروف مع الكاتب المبتدئ .

     وقراءتنا لهذه العتبة المهمة لن تنحصر في هذا الجزء ،بل سنتجاوزها إلى ترتيب واختيار الموقع المناسب لاسم المؤلف في الفضاء الغلافي، فهي ليست مسألة اعتباطية “فوضع الاسم في أعلى الصفحة لا يعطي الانطباع نفسه الذي يعطيه وضعه في الأسفل ، لذلك غلب  تقديم الأسماء الصادرة  حديثا في الأعلى ، إلا أنه يصعب على الدوام ،ضبط التفسيرات  الممكنة وردود فعل القراء، وكذا ضبط نوعية التأثيرات  الخفية التي يمكن  أن يمارسها  توزيع المواقع ، في التشكيل الخارجي  للنص ، إلا إذا قام الباحث بدراسة ميدانية “[vi].

   اختلف موقع كتابة اسم سعيد الصقلاوي في مجاميعه الشعرية الخمس ،بين الأعلى والوسط والأسفل ،ففي ديوانه الأول ترنيمة الأمل الصادر سنة 1975 كُتب اسم الكاتب تحت العنوان مباشرة بخط أرفع، وفي ديوانه الثاني أنت لي قدر الصادر سنة 1985 كُتب اسم الشاعر أسفل الغلاف تماما، في حين  تصدّر اسمه في الديوانين  الموسومين  أجنحة النهار و نشيد الماء الصادرين  في 1999 و2004 أعلى الصفحة ،وعاد في ديوانه وصايا قيد الأرض الصادر 2016في طبعة ثانية ليتوسط الغلاف ولكن بخط كبير ولون أزرق بارز.

   شكّل اختلاف تموضع اسم الشاعر سعيد الصقلاوي في أغلفة دواوينه الشعرية ، تماسكا مع عناوين دواوينه ،رغم أن هناك من يرى أن الشاعر بارتفاع اسمه وتعاليه  على تفاصيل الغلاف الأخرى ،هو مصدر هذه النصوص ، ومرسل إشاراته الشعرية[vii] ، إلا أنه لم  يكن من أهداف الشاعر سعيد الصقلاوي بسط سلطتة على النص ولا تعاليه على تفاصيله الأخرى كالصور والعناوين التي تراوحت بين الترنيمة والاعتراف والنشيد والأجنحة والوصايا، عناوين تدور في فلك مشروع واحد تبدو ملامحه واضحة، تتأكد من خلال تتبع الخيط الرابط بين هذه النصوص الشعرية في مسار إبداعي تجاوز الأربعين سنة ، وهنا نطرح سؤالا لو قرّرنا إقصاء المؤلف كما فعلت البينوية  باسم البنية والنظام واللغة  والنسق والعلامات وعملنا على خلخة مملكة الصقلاوي الشعرية كما فعل ملارمي Mallarmé  هل نتمكن من فهم هذه النصوص؟ هل لهذه العناوين دلالة إن لم ترتبط به؟

    نعتبر أن سلطة الصقلاوي على هذه النصوص لا تكمن في مكان تموضع الاسم وإنما  نسبة القول إلى مؤلف معترف بقيمته، أي مؤلف يجوز أن تصدر عنه نصوص، فالنّصوص حسب ميشيل فوكو نادرة ومن الأسباب التي تفسر هذه الندرة وجوب تحقيق شروط دقيقة لا يمكن بدونها أن يصير شخص ما مؤلفا يعتد بكلامه[viii]، ولا يخفى على القارئ مكانة سعيد الصقلاوي في الساّحة الإبداعية الخليجية والعربية والعالمية فنصوصه مترجمة إلى العديد من اللغات العالمية كالإنجليزية والفرنسية والاسبانية ، إذ كانت أعماله التي حظيت بترجمات مختلفة نافذة للآخر يلج منها إلى سمات وخصائص الشعر العماني ،فهو من أبرز الشعراء العمانيين المعاصرين ، ولذلك  يزكي اسمه  مشروعية أي ديوان يرتبط به فيكون أفق انتظار لقارئ يعرفه مسبقا ولا يهتم بتموضع اسمه على غلاف  الديوان، لأنه أثبت وجوده من خلال أعمال متنوعة ومميزة جعلت القارئ يترقب إصداراته الجديدة .

     كوّن الشاعر العماني سعيد الصقلاوي حوّله تصوّرا أسلوبيا و أجناسيا ودلاليا ، أما الأسلوبي فرغم تطور السّمات الاسلوبية واختلافها من ديوان إلى آخر إلا أنها تنطلق من نفس النواة، وأما الأجناسية فحتى وإن لم تجنس بعض الدواوين إلا أن القارئ يعرف  سعيد الصقلاوي شاعرا ،وأما الدلالية فالقارئ المتتبع لصقلاوي يعرف الحقول الدلالية التي يشتغل عليها الشاعر في مشروعه الإبداعي  محل الدراسة، هذا ما حمل فليب لوجون Philippe Lejeune على القول ” ربما لا يصبح  المرء مؤلفا إلا ابتداء من كتابه الثاني، عندما يغدو الاسم الشخصي الذي يوجد على الغلاف العامل المشترك الذي يجمع  على الأقل نصين  مختلفين ، ومن ثم  يعطي  فكرة شخص لا يمكن  أن يرد على نص   بعينه  من هذه النصوص ، ويمكنه أن ينتج نصوصا أخرى، فيتجاوزها جميعا “[ix]، فالمؤلف بالنسبة لنا يشكل سلطة من خلال مشروعه الشعري الذي يزدان في كل مرة بمجموعة شعرية جديدة لا بموضع اسمه على الغلاف.

 

  • عتبة الجنس الأدبي: خوف من التّجنيس أم ثورة على نظرية الأجناس الأدبية؟

   يبدو أن الشاعر سعيد الصقلاوي لم يضع علامة تجنيسية على أغلفة دواوينه الخمسة التي نستثني منها ديواني أجنحة النهار، وديوان نشيد الماء ، ففي الأول كان التجنيس ظاهرا، إذ جاء في الغلاف سعيد الصقلاوي /أجنجة النهار/ شعر ، ولكن  في الثاني جاء مستترا في ورقة داخلية سبقت الإهداء مباشرة، لا على غلاف الديوان، والتجنيس مبدأ تنظيمي للخطابات الأدبية ومعيار لتصنيف النصوص الإبداعية ومؤسسة تنظيرية ثابتة تسهر على ضبط النص أو الخطاب، وتحديد مقوماته ومرتكزاته، وتقعيد بنياته الدلالية  والفنية و الوظيفية من خلال مبدأي : الثبات والتغيير، ويساهم الجنس الأدبي في الحفاظ على النوع الأدبي ورصد تغيراته الجمالية الناتجة عن الانزياح والخرق النوعي[x].

   يظهر جليا من خلال الدّواوين المدروسة أن الصقلاوي أهمل ربط نصوصه الشعرية بجنس الشعر في  ثلاثة من أصل خمسة دواوين ،بل وكأني به  يتعمد اسقاط هذه العتبة المهمة ، ربما في ثورة على نظرية الأجناس الأدبية التي ثار عليها موريس بلانشو شأنه شأن عالم فن الجمال الإيطالي كروشيه  الذي دعا إلى التخلّص من مفهوم الجنس ونفيه ، حيث قال بلانشو ” لم يعد هناك كتاب ينتمي إلى جنس ،كل كتاب يرجع إلى الأدب الواحد”[xi] ، والشعر يدخل في دائرة الابداع ،ولا جدوى من وسم الجنس على الغلاف ما دام القارئ يعرف البنى الشعرية ولن يخطئها ،والتجنيس القولي كعلامة على غلاف العمل لن تشفع له عند القارئ أو الناقد، فإن لم يمتلك معايير كتابة الشعر أو الرواية أو القصة لن يفيده وضع علامة الجنس الأدبي على غلاف العمل، علما أن الكتابات الإبداعية المعاصرة، سواء في الثقافة الغربية أم الثقافة العربية  تجتهد في خلخلة الجنس الأدبي وتحطيم معاييره النوعية .

    جنّس سعيد الصقلاوي  دواوينه الشعرية  بشكل غير تقليدي حين أهمل العلامة في بعض الدواوين فجاءت مجموعته الموسومة  ترنيمة الأمل مجنسة من خلال تنبيه ورد آخر الديوان حين قال” تنبيه  جميع قصائد هذا الديوان  نشرت في كل من مجلة “البيان” الكويتية و”النهضة ” الكويتية و”جريدة عمان” بالإضافة إلى مجلة “الثقافة الأسبوعية” المصرية  ماعدا قصيدتين “ظلال” و “تحية إلى عمان”[xii]، فحين يستعمل عبارة جميع هذه القصائد يقرّ أن عمله هذا شعر دون أن يشير إلى ذلك في واجهة الغلاف  ربما لأنها التجربة الأولى للشاعر الذي لم يملك الجرأة الكافية لتجنيس العمل بشكل معلن .

   وجنّس ديوانه أنت لي قدر من خلال تقديم  محمد بن أحمد  حين قال ” تعجبني  مثابرة شاعرنا الناشئ سعيد الصقلاوي على مواصلة أشعاره واستحسن استعماله المصطلحات والمسميات العمانية “[xiii]، وترك عملية التجنيس لتكون  شهادة  من أحمد بن محمد  التي أوردها مصورة بخط يد الشاهد، فجاء التجنيس شهادة من أحد الكبار في سلطنة عمان على أن هذا الناشئ شاعر ينطلق من الموروث  العماني في كتاباته ليرسم قصائدا ودواوينا.

     إن عملية التجنيس في ديوانه الأخير وصايا قيد الأرض  لم تختلف عن سابقه، إذ نلتقي  بعد الاهداء مباشرة بدراسة  من صفحة 7 إلى الصفحة 22 للدكتور محمد حسن عبد الله الناقد المصري موسومة الملاح العماني يسترد صوته دراسة في شعر سعيد الصقلاوي[xiv] ، يجنس من خلالها النّص الذي بين أيدينا، فيزول الغموض وتتقلص المسافات بين القارئ والنصوص، ويستعدّ القارئ لقراءة العمل وفق التجنيس الذي وضعه الناقد للعمل، ويتفاعل معه على هذا الأساس في خطوة أولى للولوج  إلى نص لا يعرف منه إلا عنوانه.

 

  • لوحات أغلفة الدواوين الصقلاوية عتبة بصرية تنتقل من البسيط إلى المربك:

        قد تعكس  صفحة الغلاف  العديد من الدلالات المدركة من النّاظر له، ولكن الأكيد أن هذه اللّوحة لم توضع عبثا ،وإنما لتكون مؤشرا دالا على مضامين النّص فتحاكيها ،ولذلك نرى أن اختيار الشاعر لأغلفة الدواوين ليس اعتباطيا ،وإنّما جاء هذا المكون العتباتي إلا أداة لتمرير رسائل ترتبط بالمضمون ارتباطا قويا .

    يقوم الغلاف الخارجي  بوظيفتين أساسيتين وظيفة اشهارية تتعلق بالناشر، تنتهي بمجرد اقتناء الكتاب، ووظيفة تأويلية تتعلق بالمتلقي الذي قد يكشف على علاقات التماثل بين صورة الغلاف ومضمون المجاميع الشعرية .

       إن المتفحص للوحة الغلاف في ديوان سعيد الصقلاوي  ترنيمة الأمل سيجد أن الغلاف ضم صورة  لعصفور على غصن شجرة  تقابله قيتارة بعلامات موسيقية وواجهة زرقاء، وكقراءة لهذه اللوحة سأقول إن سعيد الصقلاوي يريد للإنسان عموما أن ينشد ترنيمته في محاكاة أرسطية  للطبيعة،  ولأننا لا يمكن أن نقرأ الأجزاء  على حدى بل من ” المؤكد  أنه لا يمكن أن يكون أي شيء جميل  بدون وحدة ، ولا يكمن  أن تكون هناك وحدة بدون تبعية ، قد يبدو هذا القول متناقضا ، ولكنه ليس كذلك .لا شك أن وحدة الكل تنشأ من تبعية الأجزاء، ومن هذه التبعية ينشأ التناغم الذي يفترض التنوع، هناك بين الوحدة والتماثل اختلاف النغم الجميل لصوت متواصل “[xv]، فالعصفور و القيتارة والعلامات الموسيقية والواجهة الزرقاء أجزاء التحمت لتشكّل وحدة متناغمة، نشير هنا إلى أن الطير احتل مكانة في الموروث الميثولوجي لدى الشعوب على اختلافها ،في رمزيته ودلالاته المتنوعة ، ،والعصفور هنا في هذا الغلاف ماهو إلا رمز للتعالي والتّوق للحرية والانطلاق نحو غد جميل مفعم بالأمل ،فعصفور الصقلاوي في ترنيمة الأمل رمز للانعتاق ، وتحضرني قوله  للفيلسوف جوزيف كامبل ” الطائر رمز تخلص الروح من عبودية الأرض”، وشاعرنا يدعو إلى التخلص من هذه العبودية والسمو بالنفس والتحليق بها عاليا في كل دواوينه لا في ترنيمة الأمل فقط.

 

     أما ديوانه الموسوم اجنحة النهار الذي لم يرفق بلوحة أو صورة فقد اكتفي الشاعر بتأطير اسمه  والعنوان والمؤشر الاجناسي في مستطيل، ويعتبر المستطيل الشكل الأكثر حضورا في حياتنا على اختلافنا ،فالمستطيل شكل يؤطر الأبواب والطاولات والبيوت والكتب ،ويرجع اقبال الناس على هذا الشكل لعدم تناسب  قياس خطوطه وكمال وحدته يتجلى في تنوعه، الذي يبعد النفور قيقول لنا إن أجنحة النهار أجنحة لا تطير، هي اجنحة لا تشبه أجنحة الطير،أجنحة ذات خصوصيات وسيمات لا يمكن الوقوف عليها إلا بالتمعن في قراءة نصوصه التي تظهر لنا بعض الصور للإنسان المقهور المكبل ، إنسان لا يستطيع التغيير فتتشابه أيامه وتغدو ساكنة بمعنى الثبات على الحالة .

 

    هذه القراءة محتملة بين قراءة عديدة قد تكون أخرى مختلفة تماما عنها فيستحيل الايطار الذي وضع فيه الصقلاوي  أجنحة النهار تبئيرا للصور الإنسانية المختلفة،  إن الشاعر وهو يكتب شعره مسكون بالآخر يحاوره ويناوره ويصارعه ينفصل عنه ويتصل به يتحد به حينا وينسلخ منه . الشاعر مسكون بأصوات متعددة تتزاحم على عتبات بابه وتتسرب إلى الحلم والنص . فما من قصيدة تخلو من ضمائر يحاول  الشاعر أن يعبر من خلالها عن زوايا نظر مختلفة يرى العالم من خلالها ، إنه الأنا والآخر والأنتم والنحن. إنه يحمل المجتمع بين جنبيه ويمضي إلى الشعر . لقد صدق أبو ماضي حين قال :

 خلت أني أصبحت في القفر وحدي *  فإذا الناس كلهم في ثيابي 

 

النص الشعري ليس صوتا واحدا بل هو أصوات تخلقها العلاقة ويزرعها التعدد والاختلاف. والشاعر يحمل الشيء ونقيضه الشيء وما يقابله، والشيء ذاته ينقسم على نفسه ويتعدد. كل شيء يتكاثر ويتناسل في نصوصه. إنها حوارية الفطرة فالإنسان يحاور ذاته أو يخلق من نفسه من يخاطبه.

      إن النّاظر لصورة  غلاف ديوان  أنت لي قدر  التي اختار الشاعر أن تكون برتقالية، يتوسّطها جذع شجرة لا يورق أوراقا، وإنما يورق وجه امرأة، يكتب على جانب الغلاف الأيمن العنوان :أنت لي قدر، يجعلنا نؤول صورة هذه الشجرة المختلفة الأغصان الخالية من الأوراق والثمر والتي تنتهي بوجه امرأة قائلين إنها خلاصة تجارب الشاعر، خصوصا وأن لفظة قدر الواردة  في العنوان تعني الترتيب والحد الذي ينتهي إليه الشيء، وبالتمعن في الصورة نعرف أن هذه المرأة القدر هي الحد الذي وصل له الشاعر.

 

  جاءت الصورة في ديوان  نشيد الأرض مركبة مقارنة بسابقاتها، ويبدو أن الوعي بأهمية العتبات أصبح أكثر نضجا عند الشاعر، الذي اختار لوحة فنية من ريشة للفنان الدكتور العراقي صبيح كلش والتي نجدها مستوحاة لا من العنوان فقط بل من كل النّصوص الشعرية في الديوان، فإن كان الماء أو بالأحرى البحر هو الطاغي على اللوحة، في تقاطع مع الماء الذي يشكل جزء من العنوان ، نرى أن نشيدة هو الموج بشكل علني، وأمواج العاطفة التي يعيشها الشاعر المثقل بهموم أمته في مختلف نصوصه بشكل مضمر، ويؤكد هذا ضمّ اللوحة لكل الألوان تقريبا ،الأبيض والأحمر والأسود والأزرق والأخضر والأصفر والبرتقالي، وتجدر الإشارة أنها ضمت الألوان الأساسية وهي الألوان الأولية الموجودة بين ألوان الطيف بحيث لا تكون من مزيجا من الألوان الأخرى، وهي الأحمر والأزرق والأصفر ، وما كثرة الألوان ألا تعبير عن الحالات التي  يحملها كل نص شعري في الديوان ، الذي اختار ان يكتب عنوانه بأحد الألوان الأساسية وهو الأصفر، فجاء نشيد الماء رغم صخب الموج دافئا دفء النشيد الذي يغنيه الصقلاوي في قصيده.

 

    نعتبر اللّوحة التي ضمّها غلاف ديوان الشاعر سعيد الصقلاوي الأخير الأكثر تعقيدا من سابقاتها بل الأكثر إرباكا لأنها مرتبطة في محتواها بنص هام في ديوان الشاعر السابق نشيد الماء، وبنص آخر في وصايا قيد الأرض، وكأني بهذه العتبة تؤكد على أن المشروع  الصقلاوي واحد ونواة الكتابة واحدة تتناسل في كل ديوان جديد.

 

   إن لوحة غلاف وصايا قيد الأرض للفنان العراقي صبيح كلش، شأنها شأن الديوان السابق نشد الماء، وهي عتبة بصرية هامة جدا، تحيلنا على العديد من النّصوص في المجموعة الشعرية، إذ ضمت بيتا شعربا لسعيد الصقلاوي وصقرا وطائرا مشرعا جناحيه ومزيجا من الألوان الزاهية في نصف الأيمن من اللوحة ، والألوان الترابية في الجهة اليسرى، ويتبادر لذهن الخائض في التجربة الشعرية الصقلاوية على وجه التحديد، نصه  إلى عبد الرحمن الداخل: محاصرون في ديوان نشيد الماء ، وخيل وجناح في وصايا قيد الأرض، والقاسم المشترك بينهما هو عبد الرحمن  الداخل ” شخصية فريدة قديرة مستنيرة هذا جماع ما يمكن أن يطلق على فتى أمية “[xvi]، هذا الفتى الذي يسكن الصقلاوي  ويتتبعه وتتناسل النصوص الشعرية عند ذكره، بل نقرأ حضورة البارز من خلال لوحة الغلاف، نموذج للرجل الوفي لأهله من بني أمية أراده الشاعر أن يكون نموذجا يحتذى به ، “إذ كان عبد الرحمن أمويا، وهذا معناه الولاء لعشيرته وبني أبيه، وهاهو قد أتاه بني مروان  من أصقاع الأرض يخطبون  عنده الملجأ  والملاذ. وكان أمير بني أمية وفيا لأهله، وقد أثر عنه  أنه قال :أعظم ما أنعم الله تعالى به علي بعد تمكيني من هذا الأمر ، القدرة على إيواء من يصل  إلى من أقاربي والتوسع في الاحسان إليهم ..”[xvii]، فأول وصايا قيد الأرض  للقارئ هي الوفاء للأهل وللعشيرة ، فلا ملك يستقر ولا هناءة تستتب إذا انعدم الوفاء للأهل.

 

  • عتبة العنوان في مجاميع سعيد الصقلاوي الشعرية المرايا العاكسة للمعنى :

     يعتبر العنوان من العناصر المهمة التي تساهم في فك شفرة النصوص الإبداعية، إذ له سلطة كبيرة في تنظيم عملية القراءة والتأويل، ف”العنوان ليس خادما للنص وتابعا له، قد نخسر رهانات كثيرة في قراءتنا ونحن نعبر سريعين نحو ما نعتبره  قصيدة  مخلفين  العنوان في الآثار المتلاشية للقراءة “[xviii]“يختبئ تحت كلماته المباشرة طبقات متعددة من المعاني والدلالات  التي تحتاج إلى قراءة أخرى غير القراءة المباشرة ، فالبعد التكثيفي داخل صوغ العنوان ،إذن له وظيفة الكشفية لفتح أفق القراءة بشكل أكثر اتساعا”[xix]، والعنوان الأساسي  هو العنوان الأصلي الذي اختاره الكاتب ليسم به عمله  فيشتهر بذلك العنوان في المكتبات والدراسات، ويكون الكاتب بذلك قد ميّزه عن نصوص أخرى “إن طبيعة هذا العنوان  تؤشر إلى هوية الجنس الأدبي”[xx]،ولكننا إن قرأنا عناوينا بمعزل عن العلامة الأجناسية لن نصل -إلى هوية الجنس الأدبي بالضرورة .

 

        جاءت عناوين  مجاميع سعيد الصقلاوي الشعرية مركبة: (ترنيمة الأملأنت لي قدرأجنحة النهارنشيد الماءوصايا قيد الأرض(، في حين تحتلّ العناوين المفردة في الشّعر العربي عامة مكانة بارزة ، لم للعناوين المفردة من حمولة دلالية  تنفتح على مختلف التأويلات ، ورغم أن عناوين الدواوين جاءت مركبة إلا أن  الدواوين زاوجت بين عناوين القصائد المفردة والمركبة التي سنقف لا حقا على  بعض منها بالتحليل.

 

     أول ما ينتبه إليه القارئ في  ديوان  الصقلاوي  الموسوم “ترنيمة الأمل ” هو دال  ترنيمة  لما يحمله الحد المعجمي للفظة ، فالترنيمة هي أغنية صغيرة خفيفة اللحن ، ونشيد  يُتغى به في الكنائس المسيحية أثناء القداس ، وموضوعه الابتهال إلى الله وحده وشكره على نعمه وقد  يصاحب  بالموسيقى على آلات خاصة ، أما في الموسيقى فهي لازمة من أربعة مقاطع  أو أكثر أو ينضم الجمهور الأصلي للمغني أو تكون تكرار لجملة الافتتاح[xxi]،  العنوان الرئيس لهذه المجموعة الشعرية هو نص بحد ذاته ” فالنص هو العنوان ،والعنوان هو النص ،وبينهما علاقة جدلية وانعكاسية ، أو علاقة كلية أو جزئية”[xxii] وسنقف على العلاقات القائمة بين عنوان الديوان وعناوين قصائده على اعتبارها عناوينا فرعية لهذا العمل، وسنختار بعض النصوص الشعرية لذلك فالمقام لا يسمح بتناولها جميعا لكثرتها.

 

    ضم هذا الديوان احدى عشرة قصيدة هي: أهواك/الفدائي/ظلال/ فتى الفداء/ لاتلمني/بقايا/زوبعة /صدى الذكريات/ الدموع الحائرة / شهر العطاء، ولم نجد قصيدة بعنوان الديوان اذ اختار الشاعر لمجموعته عنوان آخر اشتغل عليه فأعطى القارئ شحنة ايجابية قبل أن يلج النّص، غير أن بعض العناوين مثل: بقايا، وزوبعة ، والفدائي، وفتى الفداء تكسر الجسر الذي بناه القارئ مع هذا النص من خلال عنوانه الذي يعد نصا في حد ذاته ،إلا أن نصه الأول الموسوم أهواك  ترنيمة حقيقية  يحدث فيها الشاعر من يهوى بل كيف يريد أن تكون فيقول :

أهواك أغنية  قدسية النغم*** رفافة بالمنى ،علوية الكلم

أهواك شاعرة ،تبدين خاطرة **** تحيين ذاكرة من أمس منصرم

أهواك فاتنة في الحسن قاتله*** في اللحظ ساهمة كالزهر منسجم [xxiii]

     يرجعنا الصقلاوي  إلى الحقل الدلالي للعنوان الرئيس لا بلفظة أغنية  ،وإنما بالقصيدة التي جاءت كترنيمة يطرب القارئ عند قراءتها ويشعر بغنائيتها، فالقصيدة الحديثة لا تكتفي بأن تقول فقط ،أو تصور  فقط، وإنما تسعى إلى توظيف ذلك كلّه،لتجعل منه احتمالا نصوصيا لعالم جديد ليس انعكاسا  لأي عالم قائم سواء في الداخل أوالخارج”[xxiv]،ونقصد هنا أنه كما للعنوان وظيفه التبليغ قد يمارس وظيفة الامتناع فتكون الدلالات أبلغ أو على الأقل أكثر تنوعا قراءة ،تفتح النّص على احتمالات متنوعة ومختلفة ، هاهي الترنيمة تختفي في نص وتظهر في اخر، ففي نصه  ظلال يقول:

إذا المرء لم يسق كأس الهوى ***فأولى له أن يوارى التراب

وأولى له أن يعيش كئيبا** كسير الفؤاد طريح الجناب

فبادر إلى الكأس واستاقها *** ففيها الحياة ،وزهر الشباب

وغرد مع الطير في كل فجر ***فلا وقت للحزن  أو للمتاب[xxv]

    

مازال جدر الترنيمة يتكرر في هذا الديوان، فمن أغنية في قصيدة أهواك إلى  التغريد في نصه  ظلال ،جعلنا نتساءل عن أي ظلال يتحدث ؟ هل هي ظلال العشق على اعتبار الشاعر افتتح نصه قائلا إن المرء الذي لم يسق كأس الهوى فأولى له أن يوارى التراب، وها نحن نتتبع جذر الترنيمة في ديوانه ونجده  في قصيدته لا تلمني يقول في موطن منها :

 يتثنى كغصين،والشذى يسكر فاه***كم على تلك الرمال كان يسقيني هواه

وعلى عزف النسيم  وترانيم المياه*** كم رقصنا  نحن والحب وأطياف الحياة

وقطفنا من زهور الخلد ما فاح شذاه***وأصخنا لغناء الطير في عذب غناه[xxvi]

 

(عزف النسيم /ترانيم المياه/كم رقصنا/ وأصخنا لغناء الطير) رغم أن القصيدة  جاءت بكائية في الحبيب الذي ليس يدري أين ولى إلا أنّ الشّاعر يستعير من الحقل الدّلالي نفسه ليكتب حتى ترنيمته الحزن .

     تظهر  ترنيمة الأمل وتختفي في هذا الديوان إذ  يقول في قصيدته الموسومة  قسم :

لينبت الربيع يشذو*** لحنه الهزار [xxvii]

 

  رغم أن النص حماسي ثوري يتوعد فيه الشّاعر بعودة الثوار، إلا أن الجذر المتكرر راسخ في لا وعي الشاعر، فنجده يستعيره في الأمل والحزن والثورة أيضا ف( يشذو/لحنه) من نفس حقل الترنيمة، وهاهو يربط البحر بالغناء  حين يقول في نصه  الشعري الموسوم صدى الذّكريات

يا بحر كم في رملك الفضي ***لوحات حب قدر سمناه

كم كنت للعشاق أغنية ***في الحب أحلى ما سمعناه[xxviii]

ويقول في قصيدته لا تسأليني مخاطبا الحبيبية :

سلي الطير إن شئت تمرح في***كل واد تشذو بعذب الأغاني

سلي النيل بين أعطافه**ترف دلالا ظلال الأماني[xxix]

  يعتبر الحديث عن البنى الدلالية  للجذر المتكرر في ترنية الأمل من ” صميم الحديث عن التواصل الذي يتحقق في الشعر بطرق تتجاوز حدود الاخبار والافهام إلى تحقيق أكبر قدر من الاثارة الجمالية  للغة الشعر ،التي تسعى في استمرار إلى تكثيف  دوالها اللسانية ، مادامت معانيها لا توجد على خط كلماتها ، الأمر الذي يجعل من الدال الشعري  ممثلا للمدلول أكثر مما يدل عليه”[xxx]، فالدلالة في ديوان ترنيمة الأمل شأنها شأن المجاميع الشعرية الصقلاوية  لا تتحقق بالتقرير المباشر وإنما رمزا وايحاء.

 

      أما ديوانه الثاني الموسوم ” أنت لي قدر ” فقد جعل سعيد الصقلاوي عناوين قصائده في هذا الديوان تنساب خلف العنوان الرئيس  وكأنها جزء منه تحمل القارئ وتضعه على حافة النص فيطل من هذا العنوان النافذة على معانيه ومغاليقه إذ “يتحرك العنوان بين التبليغ والامتناع، بين الاظهاروالحجب، وبذلك يقتنص العنوان قارئه،ويضعه على تخوم النص”[xxxi]،فإذا كان العنوان أحد أهم العناصر المحيطة بالنص ،فإن موقعه الاستراتيجي  خوله لأن يكون ” عنصرا رئيسا ومهما  إذ لا يمكن تجاهله واغفاله ، فقد يحمل في طياته وثناياه دلالات إضافية  من الممكن أن تنير لنا عتمة النص وتكشف لنا عن دلالاته،فهو جزء رئيسي من البناء الكلي للقصيدة ويعطينا إضاءات لا غنى عنها  في الولوج إلى مغاليق النص ،فالعناوين تواجه المعنى وتكشف بعض ملامح الغموض في العمل الشعري”[xxxii]

    

 الشاعر سعيد الصقلاوي  بقصيدة وسمها إهداء حين نقرؤها نفهم كيف تكون هي  له قدرا  ففي مقطع منها يقول :

ولأجلك أقتحم البحرا

ولأجلك أفترش الصخرا

ولأجلك ألتهم الجمرا

ولأجلك أستحلي المرا[xxxiii]

صور تتنامي  وتتناسل ، ولأنها هي قدر كيما الشعر قدر بالنسبة للشاعر قال في نفس القصيدة :

ولأجلك قد صنعت الشعرا

وعشقت على الشفق التبرا

من طيبيك طيبت العطرا

وبحسنك قدّست السحرا[xxxiv]

    يكلّم الشاعر هنا الحبيبة القدر، ويجعلها محورا لعالمه بل لكونه، فلأجلها يصنع الشّعر ويعشق على الشفق التبر، ومن طيبتها استعار الطيب ريحه ولسحر جمالها قدس الشاعر السحر، هذه المرأة التي اجتمع الجمال فيها واجتمعت أسباب الحياة عندها، لم يكتبها الصقلاوي في نص واحد فقط ،إنّما كامنه في الذّاكرة العميقة للشاعر، إذ تعالقت في دلالات متطابقة في مواطن عديدة من الديوان مع سياقات لغوية وجمالية مختلفة تبتعد عن التسطيح والمباشرة، تبعث المتلقي على البحث لاكتشاف أوجه هذه المرأة القدر في ديوانه ، فيصطدم  المتلقي بدلالات ولغة عليه أن يحفر فيها على بساطتها في كثير من الأحيان، لتنبعث الصورة الشعرية لهذه المرأة القدر.

     يقول سعيد الصقلاوي في نصه  الموسوم توقيع باللون الأحمر التي يقول في أحد مقاطعها

كوني حجرا صلداً…

كوني لهبا…كوني وقدا

كوني شيئا ذريا يحرق أحشائي

ويقد فؤادي من لهف قدا

كوني طوفانا ،عاصفة ،حبلة بالأمطار

إعصارا، زلزالا ،لا يبقي في رحم الدنيا من آثار

كوني ليلا، كوني قمرا

كوني شوكا، كوني زهرا

كوني ماشئت بهذا الكون الرحب الطامي

إني  أنا أهواك…

 أنا اهواك…[xxxv]

   فالعنوان العام للديوان رغم بساطته يحمل داخله  كثافة المعنى ، إذ ينفخ فيه الشاعر روح ديوان كامل ، فيستحيل إلى نواه تتفرع عنها كل البنى والدلالات ،فمتلقي  النص الثاني يشعر أنه من نفس نسيج الأول ، ولا يسمح لنا المقام بتناول النّصوص الشعرية كاملة ولكننا سنقف عند نصه الموسوم حبيبتي ،إذ يقول في أحد مقاطعه:

قيل لي ما الذي تهواه فيها

كان ردي حسنها ذاك البهيا

ودلالا زادها حسنا وتيها

وحديثا ساحر الوقع شجيا

وجلالا قد حباها منه سحرا

ثم وجها ساهم الطرف نديا[xxxvi]

    تُظهر قصيدة صقلاوية أخرى من ديوان أنت لي قدر تعالقا جاء يحاكي فيه مضمونها العنوان العام للديوان ، وما ورد في هذه القصيدة وفي قصائد أخرى  بشكل مفصل  اختزله العنوان معنا ومبنا، والملاحظ أيضا أن الصقلاوي لا يتكلّف في وضع العناوين الفرعية ، بل يجعلها  تستجيب لرغبة المتن الشعري من دون اللجوء الى الافتعال والصّنعة والتكلف ، قد تُبعد النّص عن معانية السّامية في بساطتها ، وكثيرا ما تأتي هذه العناوين في هذا الديوان بالذات كجزء لا يتجزء من المتن الشعري، يستجيب فيه بناء القصيدة لدلالة  العنوان الحامل لرسالة واضحة أنت لي قدر سواء أكانت امراة أم استحالت إلى وطن.

 

   يُشكّل ديوان سعيد الصقلاوي  أجنحة النهار حالة  استثنائية، إذ تتجلى علامات الانزياح فيه انطلاقا من العنوان. انزاح فيه الشاعر بتركيب للفظتين وإخرجهما عن المعنى المتعارف عليه فكيف يكون للنهار أجنحة ؟هنا  نلاحظ أن الشاعر فصل في استعماله للغة بين اللغة العادية واللغة الشعرية،فكسر مجموعة القواعد المتعارف عليها في التخاطب ،وخرقها  ليولّد لغة جديدة منسجمة ومتوازنة ،رغم الخرق تحتكم إلى قواعد الشّعرية لا إلى قواعد اللغة، وهنا نشير إلى قولة جون كوهين في حديثه عن الفرق بين لغة الشعر ولغة النثر ” الفروق لغوية أي شكلية ، لا تكمن في المادة  الصوتية ولا  في المادة الأيديولوجية ، بل في نمط خاص من  العلاقات  يقيمها الشعر بين الدال والمدلول من جهة  وبين المدلولات  من جهة أخرى “[xxxvii] فهي كما يسميه تودوروف باللحن المبرر[xxxviii]، فصقلاوي حين جعل للنهار أجنحة له مبرراته التي حملته على ذلك ،فالشعر حسب كوهين  يستخدم نفس الكلمات التي يستعملها النثر ، ولكن وجه الاختلاف ببينهما هو طريقة تناول الشعر لهذه الالفاظ، والانزياح هو الفيصل بين الكلام العادي والكلام الفني ،وهذا ما جعل لأجنحة النهار خصوصية جمالية  تنطلق من العنوان كنواة إلى حدود النّصوص بل جوهرها ، فكَمُ التّساؤلات التي ضمّتها قصيدة توجس أولى قصائد المجموعة الشعرية، تضعنا في سياق نعرف من خلاله أن النّهار الذي يملك أجنحة ليس نهارا يعقبه ليل، وإنما النّهار بمعنى الأمل في الغد الذي يحلّق به وبأحلامه عاليا،”فالعنوان لا يأتي إلى المستهلك صافيا ومفصولا عن غطائه القيمي، فالقيمة التي يشير إليها هي الأساس واستنادا إلى هذا الغطاء تبنى استراتيجية التواصل[xxxix] من خلالها تعبد الطرق لما هو آت من قصائد وتوجس أحد هذه القصائد التي يقول فيها:

متى يا أيها المطر

متى تنهل في الشريان ،تنهمر

كشلال من السبحات والبركات والأنوار ينحدر

متى الصحراء في الوجدان تزدهر

متى الظلماء في الأحداق

يهزم جيشها القمر

متى الحب الذي قد صار يحتضر

سينبت زهرة الأزمان

والأبعاد يختصر[xl]

    فكأني بالشاعر يلبس أجنحة لكل أمنية،  فتنزاح اللّغة وتحقق القصيدة شعريتها في وعي القارئ ، وبعد أن تكون الدلالة مفقودة يتم العثور عليها عن طريق التأويل كما يقول جون  كوهين.

   لعل الرجوع إلى عناوين الصقلاوي الشعرية  يبين خرقه للغة المتواضع عليها وفقا للعديد من المظاهر نوجزها فيما يلي :

*تراسل الحواس: “وهي وصف مدركات كل حاسة من الحواس بصفات مدركات الحاسة الأخرى ، فتعطي المسموعات ألوانا، وتصير المشمومات أنغاما، وتصبح المرئيات عطرة “[xli]،وها هو النهار يصبح بأجنحة عن الصقلاوي ، فيكسر كل الحواس معا وان لم تتغير المرئيات لتصبع عطرا ولكنها ألبست الجناح الذي يختص بالطير بنهار لا يصبح نهارا إن لم يحمّل بالأماني الذي تجعله مختلفا عن النهارات الأخرى. فبواسطة خاصية التشخيص والتجسيد اقتربت الصورة  في هذا العنوان  النهار والأجنحة وتمكن القارئ أن يؤول هذا التضاد الافتراضي.

 

*تشخيص الموجودات وتجسيد المجردات : وهو تشخيص الأشياء الجامدة ، وبث الحيوية والحياة في الجمادات، واصباغ الصفات وإسناد الأفعال الإنسانية إلى ماهر غير انساني ، بمعنى الخلط بين الكائنات والموجودات في الصفة والفعل، وكذلك نقل  علم المجردات من التجريد المعنوي الى التجسيد المادي، كيما فعل الشاعر في ديواني نشيد الماء وأجنحة النهار اللذان امتازا بلامنطقية التركيب، ففي نشيد الماء أصبغ على الماء صفة إنسانية وهي النشيد، على  أساس أن نشيد الماء مركب إضافي شبه فيه الماء بالإنسان ، فحذف المشبه به وأبقى على لازمة من لوازمه هي النشيد في استعارة مكنية انزاح بها عن اللغة العادية ، شأنها شأن أجنحة النهار ان شبة النهار بالطير وأشار له بأحد لوازمه وهي الأجنحة .

      شكّل عنوان ديوان الشاعر سعيد الصقلاوي الأخير الموسوم وصايا قيدالأرض حالة إرباك لنا كقراء، لأننا لم نجد نصا شعريا في الديوان يحمل هذا العنوان لنسقط عليه تحليلاتنا وتأويلاتنا، فجاء العنوان مرسلة مستقلة مثلها مثل العمل الذي يعنونه[xlii]، ونقول هنا مرسلة مستقلة لأننا لن نتمكن من تأويله إلا عندما وقفنا عند قيد الأرض، فالربط بين العنوان والقصائد لم يكون بالسهولة التي يمكن أن يتصورها القارئ أو بالآلية المنطقية ،وإنما بالحفر في المركب اللفظي لهذا العنوان المربك ( قيد الأرض)، خصوصا وإن علمنا أن قيد الأرض هو أحد أئمة الدولة اليعربية، وهو سيف بن سلطان اليعربي رابع الأئمة اليعاربة عاش في النصف الثاني من القرن الحادي عشر وبداية القرن الثاني عشر  الهجري ساهم في بناء العديد من القلاع والحصون في عمان[xliii]، ولولا إغراء العنوان  لما وصلنا لسيف  بن سلطان اليعربي ، الذي لقب بقيد الأرض” لضبطه  الممالك وتقييده البلاد بعدله، ولم يعب عليه شيء من سيرته إلا ما كان منه في أول أمره خروجه على أخيه  الإمام العادل”[xliv]، فهل أشعار الصقلاوي هي وصايا سيف بن سلطان اليعربي؟ هذا العنوان يمدنا بزاد ثمين لتفكيك النص ودراسته[xlv].

     

    قام الصقلاوي باستدعاء سيف بن سلطان اليعربي بشكلين يُتمم أولهما الثاني، الأول كرمز كلّي في النّص والثاني كقناع محوري مهيمن في النص، رغم أن الشاعر لن يورده إلا كعنوان عام  للديوان ،ولن نجد له أثرا كشخصية من الشخصيات التاريخية  على ثراءها حيث تناص معها الشاعر في مواطن مختلفة من هذه المجموعة الشعرية ، فانفتاح الشاعر على التاريخ يشكل خاصية من خصائص شعره الفنية، إذ تناص الشاعر مع الشخصيات التاريخية  لها قيمتها وحمولتها الأيديولوجية  ليقارن بين الماضي والحاضر في تعرية  للواقع  وكشف للزيف فجعل قيد الأرض رمزا كليا والشخصيات التاريخية الأخرى الواردة في المتن الشعري  رمزا جزئيا .

  • الشخصية التّاريخية رمز كلي في وصايا قيد الأرض:

مثلت  شخصية قيد الأرض في هذا الديوان اطارا كليا  للعمل ، بل معادلا موضوعيا لتجربة الشاعر التي نراها تنضج ديوانا بعد آخر،ولقد وردت في هذا النص الشعري  كعنوان عام  يظهر من خلاله صوت الشاعر المُذَكر بعظمة هذه الشخصية التاريخية العمانية ،إذ لم يجد شخصية أخرى بثقلها التاريخي والأيديولوجي يمكنه أن يحمّلها وصايا شاعر معاصر مثقل بهموم عصره ،وصايا قالها رمزا لا تلقينا عزّز من خلالها موقع القارئ ، فالمعادلة الموضوعية تسعى إلى إيجاد حلقة ربط موازية  تصنع هذا القارئ لا تعزز موقعه فحسب، واستدراج القارئ يتطلب من المبدع  ذكاء يجعل الأول في حالة تأمل لانفعالات الشاعر الناجمة عن التفاعل مع المعنى ، إذ يسعى المبدع على  اضعاف البعد الشخصي في النص ليعبد الطريق لقارئ متأمل للفكر لا قارء له فقط ، وهنا تكمن براعة الصقلاوي  وقدرته  حيث أنه وجد بديلا  عن وجدانياته واختار ان يعيش التجربة مع قرائه من خلال اختيار نموذج أعاد صناعته للقارئ العماني والعربي حين أضاف لقيد الأرض وصايا سعيد الصقلاوي.

  • الشخصية التاريخية قناع محوري في النص: يعد القناع  من ” أحدى أدوات الشاعر المعاصر التي  يستعين بها ، أحيانا في تشكيل نصه الشعري، ويقوم  على النظر إلى التراث من استحضار شخصية تاريخية ، قادرة بما ارتبط بها من دلالات ومواقف على ان تضيء التجربة المعاصرة وانطاقها نيابة عن الشعر المعاصر ، لتعبر عن الموقف الذي يقدمه للمتلقي”[xlvi] ، استعمل الصقلاوي شخصية  قيد الأرض قناعا  أراد من خلاله  إيصال وصاياه إلى القارئ على لسان  قيد الأرض .

5-وظائف العنوان في مجاميع سعيد الصقلاوي الشعرية  :

    تتنوع وظائف العنوان في الدواوين الصقلاوية بين التعينية والوصفية والايحائية والاغرائية

  أ-الوظيفة التعينية:

    تتجلى هذه الوظيفة في عناوين بعض القصائد، ولكنها تنعدم في عناوين الدواوين التي تسيطر عليهما وظائف أخرى سنتناولها لاحقا ،ويعتمد الشاعر على الوظيفة التعيينية في بعض القصائد دون ان يستعين بوظيفة غيرها حين يتطلب موضوع القصيدة ذلك ، ونشير هنا إلى قصيدته الموسومة شهر العطاء73، الذي لم يكن الشاعر ليحتاج إلى عنصر الاغراء لجلب القارئ، فلهذا الشهر قدسية  تجعل التعيين فقط يغني  عن كل العناصر الأخرى، وهنا لا ننفي ما للنّص من جاذبية تعدت العنوان إلى متنه ، ونذكر أيضا في الجدول الآتي عناوين من دواوين متعددة وهي:

عنوان القصيدة

الديوان

الصفحة

إليك يا أمي

ترنيمة أمل

79

إلى ضمير العالم

ترنيمة أمل

127

الفدائي

ترنيمة أمل

17

تحية إلى عمان

ترنيمة أمل

141

ثلاث قصائد في الانتفاضة

اجنحة النهار

13

الخليج

اجنحة النهار

79

هولو عماني

اجنحة النهار

117

بني وطني

نشيد الماء

93

الى عبد الرحمن الداخل

نشيد الماء

103

غرناطة

نشيد الماء

111

سلام على الرافدين

وصايا قيد الأرض

71

عراقي

وصايا قيد الأرض

89

إن كل عنوان من هذه القصائد يضع القارئ في سياق النّص الذي لا يمكن أن يخطئه فلا يمكن أن يسم الشاعر  نصه إلى عبد الرحمن الداخل  ليتحدث عن شخصية  تاريخية أخرى ، أو يعنون نصه بالخليج  وهو يقصد منطقة أخرى ، وإن  كانت ميزة  العناوين التعيينية عكس مضامين النص فأننها بالمقابل تحجم عملية  التأويل وتؤثر على شبكة القراءة،  في حين ان على النص كما يقول امبرتو ايكو ان يشوش الأفكار لا ان يثبتها، والعناوين التي تحصر عملية القراءة والتاويل في  دواوين الصقلاوي   قليلة جدا حصرناه في الجدول أعلاه.

ب-الوظيفة الوصفية :

هي الوظيفة التّي يقول العنوان عن طريقها شيئا عن النّص وصفا وشرحا وتفسيرا وتأويلا وتوضيحا، و هذه الوظيفة لا منأى عنها لهذا عدّها  إمبرتو إيكو كمفتاح تأويلي للعنوان”[1]. وعلى مستوى الوظيفة الوصفية تتم الإشارة إلى العناوين الموضوعاتية والخبرية والمختلطة، ونجدها تتجلى بشكل كبير في ديوانه الموسوم أنت لي قدر، الذي تناولت كل القصائد فيه تقريبا وصف الأنا والآخر ونأخذ  قصيدته الموسومة لوكنتَ معي  التي يقول فيها :

لو كنت معي يا فتنةُ من زمن

لتحول  كل الأصفر أخضر

ولصارت خارطة الأيام لها معنى أكبر

ولأضحى الشوك  بقلبي  زهرا  فواحا

والليل  بدا حلما عبقا

والصبح غدا أنضر 13

ج-الوظيفة الايحائية:

     “هي الأشّد ارتباطا بالوظيفة الوصفية حيث لا يستطيع الكاتب التخلي عنها فهي ككل ملفوظ لها طريقتها في الوجود و لنقل أسلوبها الخاص، إلاّ أنّها ليست دائما قصدية لهذا يمكننا الحديث لا عن وظيفة إيحائية ،و لكن عن قيمة إيحائية لهذا دمجها جنيت في بادئ الأمر مع الوظيفة الوصفية ثم فصلها عنها لارتباكها الوظيفي”[2]، إذ تعتبر هذه الوظيفة قيمة في العنوان أكثر منها وظيفة

تلعب  عنوان سعيد الصقلاوي  أهمية كبيرة على مستوى انتاج الدلالة وخلق افق الانتظار وتوليد عمليات التأويل بتقاطعاته واستدعاءاته وتنوعاته التي تعطي النص القدرة على تحقيق المقصدية  فالى حانب وظيفتي التعيين والوصف  تتجلى وظيفة أخرى  من وظائف العنونة وهي الإيحاء من خلال مجموعته الشعرية وصايا قيد الأرض  التي اعطى بهذا العنوان قيمة للنض أكثر من كونه وضيفة اذ اشتغل الشاعر على الذاكرة الجماعية للقارئ العماني والعربي والعالمي فبالتساؤل عن قيد الأرض نعرف ان الصقلاوي تماهى في التاريخ ليولد بالايحاء دلالات جديدة تختلف قراءاتها من متلق الى اخر.

د-الوظيفة الاغرائية :

   غلبت الوظيفة الاغرائية على عناوين سعيد الصقلاوي  إذ تثير هذه العناوين القارئ وتجعله يغوص في قراءة النصوص التي ساهمت العنونة في توجيهه اليها ، ويكمن الاغراء في عناوين الصقلاوي في جعل القارئ في تساؤل مستمر من التي جعلها الشاعر قدرا له ؟ وكيف هو نشيد الماء وأجنحة النار؟ وما الوصايا التي تحمل فعل قولها قيد الأرض ؟ وبم يأمل  سعيد الصقلاوي؟

   فالعناوين المختارة بدقة والملبسة ثوب الاغراء القرائي  تجعلنا نؤكد أن العناوين الصقلاوية طُعم مغر للقارئ، تشده إليها ويزداد تمعنا فيها، لما تحمله العناوين الفرعية من عمق في الدلالة وشدّ لانتباه القارئ وشحذ لتفكيره فيفك مغاليق هذه النصوص الشعرية، الجامعة عناوينها بين الوظائف الأربعة ،التعيين والوصف والايحاء والاغراء حسب تصنيف جيرار جنيت.

6-عتبة الاهداء عتبة للميثاق العائلي والأخوي:

   يقصد بالإهداء ما يرسله الكاتب أو المبدع إلى الصديق، أو الحبيب، أو القريب، أو الزميل، أو المبدع، أو الناقد، أو إلى شخصية هامة، أو مؤسسة خاصة أو عامة، في شكل هدية، أو منحة، أو عطية رمزية أو مادية. والهدف من ذلك هو تأكيد علاقات الأخوة، وخلق صلات المودة، وتقوية عرى المحبة، وتمتين وشائج القربى، وعقد روابط الصداقة، ونسج خيوط التعارف، مع تبادل الهدايا الرمزية والمشاعر الرقيقة، سواء أكان المهدى إليه شخصية أم جماعة، واقعية أم متخيلة[3]،ويرى جيرار جنيت(G. Genette ) أن جذور الإهداء تعود، على الأقل، إلى الإمبراطورية الرومانية القديمة. فقد عثر الباحثون على نصوص وأعمال شعرية مقترنة بإهداءات خاصة وعامة، ولاسيما إذا تحدثنا عن إهداء النسخة[4]

     لايقل الاهداء أهمية عن العنوان  لما له من دور في إنارة النّص في الحدود التي يسمح بها صانعه،إذ أصبح جزءا من النصوص الإبداعية  ولم يعد مجرد شكل إخراجي أو تقليد متتبع أو تكريم للمهدى إليه ، بل هو  رسائل ضمنيه  ذات دلالة أشبه بعقد ضمني  مع القارئ يعمل على كشف الاتجاه الثقافي والسياسي  للذات الشاعرة ، وتتمثل وظائف الاهداء في الوظيفة الدلالية التي تبحث في دلالات الاهداء والمعاني الكامنة خلفه والعلاقات القائمة بينه وبين النص  والكشف عنها ، والوظيفة التداولية تنشط الحركة التواصلية بين الكاتب وجمهوره الخاص والعام محقّقة قيمتها الاجتماعية وقصديتها النّفعية في تفاعل كل من المهدى والمهدى اليه[5]

   ومن ثم، فللإهداء – كما قلنا سابقا- وظيفة تقديمية، يحل محل المقدمة أو التصدير، ويقوم بالوظائف نفسها التي يقوم بها التصدير أو المقدمة الافتتاحية. علاوة على ذلك، يمكن أن يتحول الإهداء إلى رسالة مهداة إلى شخص معين أو غير معين، وقد يتخذ هذا الإهداء مقطعا نصيا سرديا أو شعريا أو دراميا، أو يتحول إلى مقدمة مستفيضة، تشرح دواعي العمل وظروفه وحيثياته الذاتية والموضوعية[6]،وإذا انتقلنا إلى صيغة الإهداء عند سعيد الصقلاوي ، نجدها  صيغة ذاتية في شكل كتابة شعرية ذاتية في ثلاثة دواوين هي ترنيمة الأمل ونشيد الماء وأجنحة النهار ، و كتابة عاطفية رقيقة في ديوانه الاخير  وصايا قيد الارض ولكنها جميعا جاءت ووجدانية وانفعالية.

   الاهداء عتبة نصية لاتخلو من قصدية، سواء في اختيار المهدى إليه( إليهم)، أم في اختيار عبارات الإهداء…وفي هذا السياق، يمكن التمييز بين نوعين من المهدى إليهم: الخاصين والعامين، ويقصد بالمهدى إليه الخاص  شخصية إما معروفة، وإما غير معروفة لدى العموم. ويهدى إليها العمل باسم علاقة شخصية: ودية أو قرابة أو غيرهما، وهكذا جاءت اهداءات الصقلاوي  ففي ديوانه  ترنيمة الأمل يقول:

إليك يانبع الحنان الدافق

ويا عطاء بلاحدود

إليك ياأمي

أهدي هذه الترنيمة[7]

لهذا الاهداء وظيفة اجتماعه فهو تواصل حميم بين الشاعر ووالدته التي أهدى لها ترنيمته المشحونة بالدلالات الرمزية والتأثيرية، فالمهدي الشاعر سعيد الصقلاوي والمهدى إليها والدته التي وصفها بالعطاء اللامحدود، ورد الاهداء في صيغة جملة اسمية مرتكزها  الاهدائي حرف الجر إلى، يشير إلى المهدى اليها وهي الأم، مثلما هو الأمر في اهدائه في ديوان  نشيد الماء أين خص أبناءه جمان ومناف ومعان  بأبيات شعرية بث فيه أملا بدأت بلعل الحرف المشبه بالفعل الذي يفيد الترجي

 نشيد الماء

إلى ابنتي جمان

وإلى ولدي مناف ومعان

لعلي أراكم شموسا تضيئون أفق الحياة

بفكر منير ،وقلب يقدس حب الإله

وغيثا يداوم سقي الرمان  بحلو نداه

وعزما يشيد فوق النجوم بناه

فلا منتهى للطموح،ولكن له مبتداه

  ولم يخرج الصقلاوي عن اطار الميثاق الأمومي حين أهدى العمل لأمّه، فالعائلي حين تعلق الأمر بالأبناء أين كان الاهداء نصا شعريا حمله رجاءه وأمنياته،فتمنى أن يراهم شموسا تضيئ أفق الحياة،على اعتبار أن أبناء الشاعرهم بداية الطموح الذي لا منتهى له، مدام التواصل موجود بهم وفيهم، وانتقل من الميثاق العائلي إلى الميثاق الاخوي في ديوانهأجنحة النهار أين  أهدى العمل إلى أخوته قائلا:

إلى إخوتي

راشد وحمد و حمود وعبد الله ،أبناء  محمد بن سالم بن راشد الصقلاوي المخيني الجنيبي

منذ أن كنت صغيرا ،كنتم القلب الكبيرا

كم غمرتم وحشة العمر نعيما وسرورا

وزرعتم مرج أيامي  وأحلامي زهورا

فلكم أهدي حروفي تنفح الدنيا العبيرا

ولكم من ذوب روحي أمطر الحب النضيرا[8]

    نعود لنربط هذه الاهداءات بقراءتنا للوحة الفنية للشاعر صبيح كلش، في مجموعته الشعرية وصايا قيد الأرض ، إنه تأكيد من أن الشاعر على الوصية  قيد الأرض الأولى ، الاحسان للأهل والعشيرة ، سر النجاح ودوامه.

7- عتبة الهوامش: الهامش المركز في دواوين سعيد الصقلاوي:

      يستحيل الهامش في دواوين سعيد الصقلاوي إلى مركز ينطلق منه المتلقي إلى  مضمون النص، إذ يسهل عليه قراءة  الشاعر ثقافيا وجغرافيا ، فالشاعر مسكون بخصوصيته العمانية تاريخا ولفاظا، ولم يأت التهميش عبثيا او مجرد إضافة  في العديد من القصائد، وفي مختلف الدواوين الشعرية انطلاقا من أول ديوان ترنيمة الأمل وصولا على وصايا قيد الأرض ، وإنما جاء مطلبا جوهريا حقق من خلاله تواشج التلقي بين ركني العملية التواصلية ( الشاعر /المتلقي) ، وإضاءة بعض الغموض الذي قد يصيب القارئ البعيد عن البيئة العمانية، هذا التوضيح ليس تعطيلا لعملية التأويل  وانما تحفيز لها ،فكيف للقارئ أن يعرف أن الهولو وهو غناء بحري في عمان والخليج ينشد وقت الإبحار ؟ لولا الهامش الموضوع في قصيدته رجولة الكلام [9] وكيف لنا كقراء  من خارج السلطنة  أن نعرف أن  الغنجة  هي أحد أنواع السفن العمانية التي كانت تبحر للبصرة ، فالهامش هنا يصبح مركزا ينطلق من المتلقي لفهم النص

  • الهامش في دواوين الصقلاوي فضاء للتاريخ والتفسير :

   استعمل سعيد الصقلاوي الهامش في العديد من القصائد كفضاء  للتاريخ والتفسير ،وسنورد هنا  مثلا عن  نصه الموسوم سلا م على الرافدين ، الذي وقف في هوامشه  ليفسر بعض الإشارات  للمهلب بن أبي صفرة ، والخليل بن أحمد الفراهيدي العماني البصري ،وأبي الأسود الدؤلي وسيبويه وجابر بن زيد الازدي العماني، وغيرهم أضمت القصيدة  ثلاثة عشرة هامشا رغم أنها من القطع المتوسط.

      نخلص في نهاية هذه المقاربة إلى أن العتبات النصية في مجاميع سعيد الصقلاوي الشعرية  ساهمت في فهمنا للنص وفك بعض مغاليقه  وجاءت كالآتي:

  • عتبات مدروسة سخرها الشاعر لفهم النص وفك بعض مغاليقه إن أحسن المتلقي القراءة والتأويل.
  • عتبة الصورة زاوجت بين البساطة في الدواوين الأولى والتركيب في الديوانين الأخيرين، ولكنها رغم المزاوجة بين البساطة والتركيب تبقى مضمنة بعلامات سيميولوجية خاصة بها، رغم فكها للكثير من الغموض.
  • عتبة العنوان أدت كل الوظائف المنوطة بها حسب جيرار جنيت  وهي الاغراء والايحاء والدلالة والتعيين.
  • مكنتنا العتبات النصية عند الصقلاوي من الوقوف عند استراتيجيات الكتابة عنده
  • الخطاب المقدماتي خطاب مدروس  ساهم في إضاءة النص.
  • عتبة الهامش عتبة تستحيل من هامش إلى مركز عند الصقلاوي.

الهوامش والمصادر:

[i] Gérard Genette: Seuils, collection poétique, éd Seuil, 1987p10, p 11.

* ترجم هذا المصطلح  إلى اللغة العربية  بالنص الموازي  من طرف كل من محمد بنيس وشعيب حليفي،الموازي النصي ومحمد الهادي المطوي ، وترجمه الطاهر رواينية بالمناصصة ، وسعيد يقطين بالمناص ،  وإلى مابين النصية من طرف أنور المرتجي، والمحيط الخارجي عند فريد الزاهي، والموازيات عند عبد الرحيم العلام.

 

،ص10.www.alukah.netجميل حمداوي: شعرية النص الموازي (عتبات النص الأدبي)،نسخة رقمية ،الألوكة [ii]

[iii] – محمد الهادي المطوي: في التعالي النصي والمتعاليات النصية، المجلة العربية للثقافة ،تونس،ع32، 1997،ص 195.

[iv] جميل حمداوي: شعرية النص الموازي (عتبات النص الأدبي)،ص12.

[v]  جميل حمداوي: شعرية النص الموازي (عتبات النص الأدبي)،نسخة رقمية ،الألوكة www.alukah.net،ص17.

[vi] حسن محمد حماد : تداخل النصوص في الرواية العربية ، بحث في نماذج مختارة ، الهيئة المصرية للكتاب، مصر، 1997،ص94.

[vii] جعفر العلاق : الدلالة المرئية ، دار الشروق للنشر والتوزيع،ط1، 2002،ص59.

[viii] عبد الفتاح كيليطو : الأدب والغرابة ،دار الطليعة ،بيروت ،لبنان،الطبعة الثانية ،1983،ص15.

[ix] Philippe le jeune:  le pacte autobiographique ,  Paris seuil  1957 ;p23

ص31عن جميل حمداوي،ص31. 

[x] جميل حمداوي: شعرية النص الموازي (عتبات النص الأدبي)، ص32

[xi] Maurice Blanchot: le livre  à venir , Gallimard , Paris 1959,p243.

[xii] سعيد الصقلاوي: ترنيمة الأمل ، منشورات  وزارة الاعلام  والثقافة ، مسقط سلطنة عمان ، الطبعة الأولى ، 1975،ص153.

[xiii] سعيد الصقلاوي: أنت لي قدر ،خقوق الطبع والنشر محفوظة للمؤلف، الطبعة الأولى ،1985،ص3.

[xiv] سعيد الصقلاوي: وصايا قيد الأرض،المركز الدولي للخدمات الثقافية ، لبنان،الطبعة الثانية،،2016،ص7.

[xv] كمال بومنير:الفلافسفة والألوان مقاربات فلسفية في فن الرسم ،دار كنوز المعرفة  للنشر والتوزيع،ط1،2016،ص19

[xvi] عبادة عبد الرحمن كحيلة :صقر قريش عبد الرحمن الداخل،دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، فرع مصر ،مارس1968،ص7

[xvii] عبادة عبد الرحمن كحيلة :صقر قريش عبد الرحمن الداخل، ص116.

[xviii] رشيد يحياوي: الشعر العربي الحديث دراسة ، في المنجز النّصي،إفريقيا الشرق،1998،ص107.

[xix] جميل حمداوي:السيميوطيقا والعنونة ،مجلة عالم الفكر، وزارة الثقافة ،الكويت،العدد3،المجلد25،1997،ص97.

[xx] شعيب حليفي: (النص الموازي للرواية- استراتيجية العنوان)، مجلة الكرمل، قبرص، العدد46 /1992 ،ص21.

[xxi] معجم المعاني الجامع: www.almaany.com/

[xxii] جميل حمداوي:السيميوطيقا والعنونة ص79،ص112.

[xxiii]  سعيد الصقلاوي:ترنيمة الأمل،ص15

[xxiv]  عبد الله الغذامي :تشريح النص،ص58

[xxv]  سعيد الصقلاوي:ترنيمة الأمل،ص29

[xxvi]  سعيد الصقلاوي: ترنيمة الامل،ص39.

[xxvii]  سعيد الصقلاوي:ترنيمة الأمل،ص61

[xxviii]  سعيد الصقلاوي: ترنيمة الأمل،ص72

[xxix] سعيد الصقلاوي ترنيمة،ص 105

[xxx] كنوني محمد العياشي: شعرية القصيدة العربية المعاصرة دراسة أسلوبية ،هالم الكتاب الحديث،الأردن، الطبعة الأولى ،2010،ص197

[xxxi] سيمياء العنوان القوة والدلالة ،ص355

[xxxii] عاصم أمين بني عامر: لغة التضاد في شعر أمل دنقل، دار الصفاء للنشر والتوزيع، عمان ،ط1،2005،ص134

[xxxiii] سعيد الصقلاوي :أنت لي قدر،ص8.

[xxxiv] سعيد الصقلاوي:أنت لي قدر،ص7.

[xxxv]  سعيد الصقلاوي: أنت لي قدر،ص19

[xxxvi] سعيد الصقلاوي: أنت لي قدر،ص57

[xxxvii] جون كوهين: بنية اللغة الشعرية ، ص191

[xxxviii] عبد السلام المسدي الأسلوب والاسلوبية ، ص82

[xxxix] سعيد بن كراد : تمثلات البارد والساخن ،مجلة علامات ، العدد20،2003،ص20.

[xl]   سعيد الصقلاوي:أجنحة النهار،ص5،ص6

[xli] محمد غنيمي هلال: النقد الأدبي الحديث،دار  نهضة مصر ،جمهورية مصر العربية،1997،ص395.

[xlii] محمد فكري الجزار: العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب ،ص31

[xliii]  تيسير حمدي طبيشات: المجلة الأردنية للفنون:السفينتان جوهرة مسقط والسلطانة في أعمال جونسون واليعقوبي، مج6،ع4،2013،ص529.

[xliv] نو الدين بن عبد الله بن حميد: تحفة الأعيان في سيرة أهل عمان،الجزء2،ص97 نسخة الكترونية http://library.al-kawkab.com/read/96/97

[xlv] محمد فكري الجزار :العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي،

[xlvi] سامح الرواشدة : القناع في الشعر العربي الحديث،  الصايل للنشر والتوزيع ،الأردن، 1995،ص7.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى