عبر ودروس من محطّة الثّامن  مايو..

 الدّكتور  محمد بن قاسم  ناصر بوحجام | الجزائر

جرائم الاستعمار الفرنسي الغاشم في الجزائر كثيرة وعميقة الآثار، وشديدة الإيلام, تبقى وصمات عار في جبين من حـملت ثورتها على الإقطاع والاستبداد والظّلم شعار” العدل والمساواة والحريّة”، أم  أنّ هذا الشّعار يعني الشّعب الفرنسي ولا ينطبق على الشّعوب الأخرى، إلاّ بقدر ما يحقّق لها مصالحه الدّنيئة؟؟

استعملت فرنسا الدّيمقراطيّةُ والعدالة والنّاشرة للسّلام..  وجرّبت كلّ أنواع القمع والقهر  والقتل؛ لإهانة الشّعب الجزائري، وتذليله والقضاء عليه..: قتلت، شرّدت، نفت، نسفت، دمّرت، نهبت، زيّفت، شوّهت.. مدّة مائةٍ واثنتين وثلاثين سنة (132).     

من بين الجرائم والجرائر الفظيعة التي ارتكبتها في حقّ الجزائر ووطنِيِّيها الأحرار، الذين كانوا ينادون بالحريّة والاستقلال واسترجاع حقوقهم المسلوبة المغصوبة، (مجازر الثّامن من مايو 1945م)  التي قتلت فيها آلة التّدمير الفرنسيّة الجهنّميّة خمسة وأربعين ألف جزائري (45000)، الذين خرجوا مع بقيّة إخوانهم؛ مطالبين  فرنسا بتنفيذ وعدها لهم؛ بتمكينهم من حقوقهم على أرضهم، هذه الحادثة الرّهيبة المأسويّة، تركت النّفوس واجمة، والقلوب واجفة، والعقول حائرة.. كيف تصفها وكيف تفسّر حقيقة فرنسا الجائرة.  ممّن صوّروا تلك الفواجع بدقّة مصبوغة بألم وحسرة الشّاعرُ محمد العيد آل خليفة في قصيدة طويلة مطلعها:

أَأَكْتُمُ وُجْدِي أَمْ  أُهَدِّئُ  إِحْساسي

 

وثامنُ ماي،  جُرْحُهُ  ما   لـــــهُ آسي

   من جملة ما قال في القصيدة واصفًا بعض هذه الفظائع:

فَظائعُ  (ماي)    كَذَّبَتْ     كُلَّ     مَزْعَمٍ

 

لَهُمْ،    وَرَمَتْ   مَا       رَوَّجُوه      بإفلاسِ

دِيارٌ  من   السُّكّان      تُـخْلَى     نِكايَةً

 

وَعَسْفًا،   وأَحياءٌ    تُساقُ      لأَرْمـــــاسِ

وشِيبٌ  وَشُبّانٌ، ٍ  يُسامُــــــــونَ   ذِلَّةً 

 

بِأَنْواعِ   مَكْرٍ،  لا  يُـحَـــــــــــــدُّ   بِـمِقْياسِ

وَأَحْباسُ  شَرٍّ   أَجْــمـَـعَتْ     سُجَناؤُها

 

وَمُعْتَقَلُــــــــوهَا   أنّــــها   شرُّ  أَحْبـــــاسِ

وَغِيدٌ  منَ  البِيضِ  الـحِسانِ      أَوَانِسٌ

 

تُـهانُ   علَى  أيْدِي  أَراذلَ   أَنْــــــــــجاسِ

   يُـنْكَبْنَ   في   عِرْضٍ   لَـهُنَّ  مُطَهِّـــرٍ

 

مَصُونِ الحواشِي طَيِّبِ العُرْفِ  كالآسِي

فَيَا  لَكَ  مِنْ    خَطْبٍ،    تَعَذَّرَ     وَصْفُهُ

 

فَلَمْ  تَــــجرِ أَقْلَامٌ   بِهِ  فَوْقَ  أَطْــــــــرَاسِ

من جملة ما قاله الشّاعر في القصيدة:

وَمَا  وَعْدُهُمْ   إِلَّا  سَرَابٌ   بِقِيعَــــــةٍ

 

وَمَا    عَهْدُهُمْ   إِلَّا  مِدَادٌ  ِ بِــــــقِرْطَاسِ

(ديوان محمد العيد آل خليفة، ص: 325 –  327)

ماذا يبقى للقلب كي ينفطر؟ ماذا يبقى للعقل أن يفكّر؟ ماذا يبقى للجزائري من قوّة  فيصبر..؟ لذا نريد أن نتذكّر دومًا هده الجرائم الشّنيعة لنعرف علاقتنا بمن أذلّنا وقهرنا وأرهقنا وأكل منّا الشّحم زاللّحم والعظم.. كما أنّ من واجبنا تذكير أبنائنا وأحفادنا  وذريّاتنا بهذه الفظائع ليعرفوا كيف يتصرّفون مع من  غدر بآبائهم وعبث بأرضهم، ونهبَ خيراتهم،  وشوّه تاريخهم وداس على كرامتهم. فما هي العبر التي تأخذها من هذه  الـمحطّة التّاريخيّة المفصليّة في حياة جهاد الجزائريّين ضدّ الطّغيان الفرنسي:

1 ـــــ قيام الجزائريّين بالانتفاضة العارمة ضد ممارسات فرنسا وخداعها..بعد انتهاء الحرب العالميّة الثّانية بيوم واحد.. يعبّر عن تعلّق الوطنيّين الأباة  بأرضهم وحرّيتهم وكرامتهم، وتلقين درس كبير الـمَغْزَى للغازي الذي يخلف وعده ويتلاعب بمشاعر الأحرار..؛ علمًا أنّ فرنسا وعدت الجزائريّين بإعطائهم حقوقهم، إذا هم ساعدوها في حربها ضدّ دول المحور في الحرب العالميّة الثّانيّة.. فأخلفت الوعد،  إذ كان ( سرابًا بقيعة..)

2 ـــــ الاستجابة الجماعيّة لنداء الحقّ، والإسراع في تلبية صوت  الضّمير .. يكونان نتيجة تكوين سابق وإعداد قويّ للنّفوس، ويكون على رأسها الإيمان بالله  وبالوطن وبضرورة الجهاد في استرجاع الحقوق، وعدم إعطاء العدوّ الفرصة للتّمادي في غيّة وضلاله؛ بالتّنكيل والقهر والعسف  . وفعلا كانت حوادث مايو منطلقًا لإعادة النّظر في أسلوب المقاومة والمواجهة والجهاد ضدّ المستعمر الفرنسي.. ما دفع بالجزائريّين الذين ثاروا  في الثّامن من مايو، ومن سار في ركابهم وفي دربهم  بعد سنوات.. إلى تفجير  ثورة عارمة  كبيرة، نتج عنها استقلال الجزائر..

 هذا الإعداد النّفسي لهذا الجهاد وهذه الأعمال التي لقّنت المستعمر دروسًا لن ينساها.. كانت نتيجة التّكوين المسبق والتّهيئة الشّاملة التي تـمّت قبل اندلاع حوادث الثّامن مايو.. لذا يجب أنْ نفهم أنّ الإعداد النّفسي: دينيّا واجتماعيًّا ووطنيًّا، خلقًا وتربيةً وعلمًا.. يسبق كلّ عمل في الميدان وكلَّ جهاد ونضال. فاعتبروا يا أولي الأبصار..

3 ــــــ نحن مقصّرون كثيرًا في تعريف الأجيال المتعاقبة بتاريخهم الذي يعينهم على الارتباط بأصولهم، ومعرفة حقيقة نضال من سبقهم فأوجدوا لهم الظّروف الملائمة ليعيشوا عيشة هنيئة طيّبة.. هذه المعرفة تدفع بهم إلى تقدير النّعم التي يتمتّعون بها، ومعرفة واجبهم في الإضافة إلى ما قدّمه أسلافهم لتستمرّ الحياة على نهج العمل الجاد المثمر والإضافة الإيجابيّة، والوفاء بالعهود، والحرص على أداء  الأمانة..

4 ــــــ اطّلاع الأجيال التي لم تعش مأساة الجزائر مع فرنسا، يبعث فيهم الحميّة للدّفاع عن كلّ ما قامت فرنسا بمحاربته، ثمّ العمل على فكّ التّعلّق والارتباط بها.. لتكون لنا أجيال أصيلة في تفكيرها، بعيدة عن التّبعيّة لغيرها، مرتبطة في وحدة متماسكة مع بعضها، متحمّسة لخدمة دينها ووطنها، متطلّعة إلى مستقبل زاهر مشرق لوطنها.. الله وفّق وسدّد وأيّد وأرشدْ،  فأنت المعين والمؤيّد. ربّنا آتنا من لدنك رحمةً وهيّئْ لنا من أمرنا رشدًا..

                                       الجزائر  يوم الجمعة: 15  من  رمضان   1441ه

                                                             08   من  مايو      2020م

                                                     

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى