لا تحمّلوا “عرين الأسود” فوق طاقتها

هاني المصري
منذ الإعلان عن قيام مجموعة “عرين الأسود” وخلال أسابيع فقط، حُمّلت أكثر مما تحتمل وفوق طاقتها؛ إذ وضع الشعب أحلامه وأهدافه المجهضة على عاتقها، وأصبح مطلوبًا منها تجاوز المأزق العميق الذي تمر فيه القضية الفلسطينية والنظام السياسي والحركة الوطنية، بعد وصول الوضع الفلسطيني إلى حالة كارثية جراء وصول الإستراتيجيات المعتمدة إلى طريق مسدود، خصوصًا إستراتيجية أوسلو والمفاوضات، والانخراط في عملية سياسية من دون أن تملك أي إمكانية للنجاح، والاستمرار فيها نحو ثلاثين عامًا، على الرغم من اتضاح عقمها وأضرارها.

توفير مقومات الاستمرار والانتصار بدلًا من الاحتضان حتى الموت

أكثرت الفصائل والقيادات والنخبة من حبها ومدحها “لعرين الأسود”، وسعت لاستثمارها بسرعة كل لصالحه، وتحميلها أكثر مما تحتمل؛ للتغطية على غيابها وقصورها، لدرجة اعتبرتها انتفاضة جديدة، والبعض ذهب بعيدًا واعتبرها قيادة جديدة، بدلًا من البحث عن سبب عدم قيام الأطر والفصائل القائمة بدورها المفترض بقيادة شعبها، وكيف يمكن أن تنخرط بكل ثقلها وتقود ولا تكتفي بالدعم والمشاركة إذا كانت لا تزال هناك إمكانية ورغبة لديها لذلك؛ لأن عدم قيامها بهذا الدور هو الذي أحدث فراغًا يحاول الاحتلال أن يملأه، كما تحاول “عرين الأسود” وغيرها من الكتائب والحراكات المنتشرة في مختلف أماكن تواجد الشعب الفلسطيني مَلْأه.

من المبكر توقع انتفاضة شاملة، وكل ما يجري مراحل على طريقها

من المبكر الحديث عن انتفاضة شاملة وتحوّل ما يجري إلى سيل جارف وقيادة جديدة، مع أن ما يجري منذ انتهاء الانتفاضة الثانية وحتى الآن هبات وموجات انتفاضية، ما أن تنحسر واحدة إلا وتصعد أخرى، من مقاومة شعبية متنقلة من منطقة إلى أخرى، إلى عمليات تأخذ شكل الدهس والسكاكين والمولوتوف أحيانًا، وتأخذ شكل العمليات العسكرية أحيانًا أخرى بالترافق مع طابع شعبي، كما تميزت الموجة الحالية.

إن كل أشكال المقاومة التي تأخذ شكل الموجات والهبات المحلية في غالب الأحيان، والتي تتركز في الأقصى والقدس، أو تحت عنوان الأسرى أو غزة، أو في المواقع المحاذية للجدار والاستيطان، أو في جنين ونابلس كما يحدث مؤخرًا، يمكن أن نسميها بمجموعها انتفاضة؛ أي إن الانتفاضة الثالثة أخذت، وربما، بل على الأرجح، ستأخذ شكل الموجات، إلى حين اندلاع الانتفاضة الشاملة التي بحاجة إلى هدف كبير تحققه وقيادة تقودها وجبهة وطنية عريضة تستند إليها.

كما أن عدم اندلاع الانتفاضة نتيجة طبيعية للوضع الجديد الناشئ بعد اغتيال ياسر عرفات، ووقوع الانقسام وفصل الضفة عن غزة، والإمعان من قبل الاحتلال في تمزيق أوصال الضفة الغربية، ضمن ضم القدس، وتقسيم المناطق الأخرى إلى (أ) و(ب) و(ج)، ومصادرة الأرض وتهويدها واستيطانها، لدرجة بلغ عدد المستوطنين حوالي مليون مستوطن، أصبحوا أشبه بدولة داخل الدولة، وكذلك تشرذم الفلسطينيين داخل جدار الفصل وخارجه، وفي ظل عدم تواجد قوات الاحتلال بشكل دائم داخل المدن الفلسطينية، إضافة إلى وقوف السلطة في مواجهة أي أشكال واسعة أو مسلحة للمقاومة، فضلًا عن تجنب حركة حماس لقيادة المواجهة، أو تبني عمليات مقاومة مسلحة في الضفة لتجنب عقاب السلطة التي لا تتهاون مع أعضاء “حماس” من جهة، ولتجنب شن عدوان عسكري إسرائيلي على قطاع غزة من جهة أخرى، وفوق كل ذلك إهمال شعبنا في أراضي 48 والشتات، وإضعاف منظمة التحرير، المؤسسة الوطنية الجامعة، إلى حد الشلل .

فكما نذكر، شنت قوات الاحتلال عدوانها على القطاع في العام 2014، إثر اختطاف وقتل خلية من كتائب القسام لثلاثة مستوطنين في الخليل؛ ما أوجد معادلة وحدة الساحات من الاحتلال. أما حركة الجهاد فعلى الرغم من رميها لكل ثقلها في المواجهة، فإنها لا تملك البنية ولا القدرة الكافية، فكريًا وسياسيًا وتنظيميا وجماهيريًا ومؤسسيًا، لقيادتها.

لا حرب من دون “حماس” ولا انتفاضة من دون “فتح”

يقال لا حرب من دون “حماس”، ولا انتفاضة من دون “فتح”، ولا قيادة جديدة قبل أن تتوفر مقوماتها (الرؤية، والأهداف، والخطة، والقرار، والإرادة، والعمق الشعبي والإقليمي والدولي، والظرف المناسب)؛ أي لا انتفاضة شاملة قبل أن تحفر وتنضج مقوماتها، وأبرزها قيادة جديدة، وهي ستتبلور في غمار المعارك، ومرحلة وراء مرحلة، وتحتاج إلى وقت إلا إذا خرجت “فتح” و”حماس” أو إحداهما من مصيدة السلطتين.

ما المطلوب من “فتح” و”حماس”

لن تحصل الانتفاضة الشاملة إلا إذا خرجت “فتح” من قيود والتزامات أوسلو المجحفة والغليظة، وعملت على تغيير السلطة، والتخلي عن الأوهام بإمكانية استئناف المفاوضات لتحقيق حل الدولتين، وخرجت من حالة الانتظار التي جعلت سلطة الرئيس محمود عباس تتعايش مع الأمر الواقع الذي يخلقه الاحتلال، ويبعد أي إمكانية لإنهاء الاحتلال وتجسيد استقلال دولة فلسطين المعلنة.

ولن تندلع الانتفاضة قبل أن تغادر “حماس” مصيدة السلطة، وجعلها الأولوية، وتستكمل تحولها إلى حركة وطنية لها بعد فكري ديني، وقطع الصلة نهائيًا بما كانت عليه بوصفها فرعًا لمشروع عالمي تقوده جماعة الإخوان المسلمين، وتبلور وحدها أو تساهم في بلورة رؤية شاملة جديدة تنبثق منها إستراتيجيات جديدة وجبهة وطنية عريضة تتجاوز حالة الرهان، أو انتظار استجابة القيادة الفلسطينية لما تطلبه، أو نهوض المارد الإسلامي، أو نهضة جماعة الإخوان المسلمين مجددًا بعد سقوطها الكبير، أو خوض إيران وحلفائها الحرب الشاملة من كل الساحات لإزالة إسرائيل، أو زوال إسرائيل تحقيقًا لنبوءات ناجمة عن الإعجاز العددي للقرآن أو لعنة الأجيال.

الحراكات الجديدة وظاهرة “عرين الأسود” والكتائب في بدايتها

من الصعب أن تستطيع “عرين الأسود” والكتائب والحراكات المتنوعة داخل فلسطين وخارجها أن تحدث أو تقود عملية التغيير المطلوبة لإصلاح الخراب الكبير بسرعة؛ لأنها لم تبلور رؤية جديدة وقيادة وبرنامج، ولا تزال طرية العود، وأعضاؤها إما صغار سن وقليلو خبرة، أو يعيدون إنتاج الممارسات السابقة (المقصود هنا الحراكات الفكرية والشعبية الجديدة)، وهي غير منسجمة؛ إذ يركز بعضها على الانتخابات بوصفها مدخلًا للنهوض، وبعضها الآخر على الحقوق والحريات، والبعض الثالث على المقاومة، والبعض الرابع على ضرورة بلورة البديل وقطع الصلة كليًا مع الوضع الراهن والقيادة التي تخلت عن دورها، والبعض الخامس يفضل المحاصصة أو التغيير الممكن على قاعدة الشراكة ما بين القديم الذي لم يرحل تمامًا والجديد الذي لم يولد تمامًا بعد.

ولا تزال الفكرة القائدة غائبة والقيادة بمعناها العميق والواسع غائبة كذلك، في ظل أن عشرات السنين من الاحتلال، وأكثر من 15 عامًا من الانقسام؛ أوجدت بنية كاملة، اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية وأمنية، مناهضة للمقاومة، وليس مجرد فرد أو أفراد منحرفين إذا ماتوا أو سَقَطوا أو أسْقِطوا ينتهي الأمر.

بعث الأمل هو طريق التغيير

التغيير بحاجة إلى بعث الأمل في صفوف الفلسطينيين، بإمكانية الانتصار، ومن دونه لا يمكن زج الشعب بقضّه وقضيضه بالمعركة، وهذا لا يمكن من دون أفكار ملهمة وممارسات وأنماط عمل مختلفة ومبدعة وجديدة، كما نشهد أحيانًا فيما يحدث حاليًا، والإجابة بشكل صحيح عن سؤال: لماذا لم تحقق البطولات العظيمة والتضحيات الغالية التي قدمها الشعب الفلسطيني إنجازات تناسبها؟

خلاصة ما سبق: التغيير بحاجة إلى قوة كبيرة، والقوة الكبيرة لا تتوفر من دون قيادة جديدة وفكر جديد منفتح على ما يجري في العالم وقادر على التفاعل معه، وسياسة جديدة وظرف عربي وإقليمي ودولي مناسب. قيادة تنقذ أطر منظمة التحرير من الضياع وحالة الموت السريري، من خلال إعادة بناء مؤسساتها على أساس الرؤية الشاملة، وتحديد أهداف ملموسة لكل مرحلة قابلة للتحقيق، على طريق تحقيق الأحلام والأهداف الكبيرة، فلا يكفي تبني نهج المقاومة واعتبارها جوابًا عن كل شيء. فالمقاومة أداة وليست هدفًا، وهي أداة عمياء إذا لم يحركها فكر وقيادة واعية مخلصة، فالمقاومة المتجسدة حاليًا على أهميتها وضرورتها لا تدل على وجود إستراتيجية تحرير، وإنما هي حالة دفاعية مطلوبة، ودليل على صمود الشعب وإصراره على إبقاء قضيته حية.

لماذا قادت حركة فتح الثورة الفلسطينية؟

لمزيد من التوضيح لما أقصده، فإن ما جعل حركة فتح قائدة للشعب الفلسطيني ليس تبنيها للكفاح المسلحطا فغيرها تبناه قبلهاطا وإنما أنها ولدت في مرحلة النهوض العربي بعد الثورة المصرية، وانقسام العالم إلى معسكرين اشتراكي ورأسمالي، ونهوض حركات التحرر العالمية والطبقة العاملة والقوى التقدمية في الغرب، وطرحت فكرة جوهرية صائبة، وهي مركزية الدور الفلسطيني في معركة التحرير والعودة، وأنه سيؤدي دور رأس الحربة إلى أن يلتحق الآخرون، خصوصًا العرب، بينما كان القوميون يعتقدون أن الأولوية للوحدة العربية، والإسلاميون يعتقدون أن الأولوية لدولة الخلافة الإسلامية أو نهوض المارد الإسلامي، واليساريون ربطوا مصير بلادهم بالأممية الشيوعية، وعندما وقعت هزيمة 1967، كانت الانطلاقة الثانية والأكبر لحركة فتح والثورة الفلسطينية، خصوصًا بعد خوضها معركة الكرامة، لتوفّر الظرف العربي والإقليمي والدولي المناسب.

“عرين الأسود” حالةُ تحدٍ ومرحلةٌ على طريق القيادة الجديدة

“عرين الأسود” وشقيقاتها من الكتائب والحراكات الفكرية والسياسية والشعبية دليل على حيوية الشعب وإصراره على الصمود والمقاومة، ولكنها أقرب إلى حالة تحدٍ مما هي قيادة جديدة، تضع بذور وعلامات على طريق بلورة القيادة الجديدة. حالةٌ تطلب الشهادة ويقاتل أعضاؤها حتى الاستشهاد بعيدًا عن مقولة حرب العصابات وحرب التحرير الشعبية المتعارف عليها “اضرب واهرب” لكي تضرب مجددًا، ولا تطرح نفسها بديلًا؛ بدليل أنها بعد اغتيال تامر الكيلاني، أحد قادتها، قالت في بيان نعيه إن مسألة الإضراب تقررها الجهات المعنية بعد أن كانت سابقًا قد دعت إلى إضراب ناجح؛ ما يدل على أنها لا تزال تبحث عن هويتها، وهي محكومة في ردود الأفعال أكثر منها إلى الفعل، وهي محلية أكثر ما هي وطنية عامة، على الرغم من تمددها إلى مناطق عدة، وحصولها على الحاضنة الشعبية. ولكنها تفتقر إلى الحاضنة الفكرية والقيادية والتنظيمية والبرامجية والإمكانات، وبحاجة إلى توفر ظرف مناسب.

هذه الظاهرة بحاجة إلى بلورة واستكمال التشكيل، أو أن تكون جزءًا من قيادة وطنية موحدة تتولى قيادة المقاومة ضمن أداة واحدة، وهي يمكن ويجب أن تقوم بمشاركة الفصائل إذا أبدت الاستعداد، أو من دون من لا يوافق منها على المشاركة. وهنا، لا يمكن اتخاذ موقف استبعاد مشاركة الفصائل؛ لأنها ستشارك في كل الأحوال، إما على طريقة “يا لعيب يا خريب”، أو تسعى لاستثمار ما يجري لخدمة الإستراتيجيات المعتمدة، أو تشارك ضمن أنماط من التفكير والعمل الجديدة التي تفرضها حاجات المقاومة.

محاولات مستمرة للقضاء على “عرين الأسود” واحتوائها

تتعرض “عرين الأسود” لمحاولات مستمرة للقضاء عليها من قوات الاحتلال، ولاحتوائها من قبل السلطة، والاستثمار من قبل الفصائل، في حين أن المطلوب دعمها وتوفير مقومات استمرارها، وتطوير أدائها، وسد النواقص لديها، والنظر إليها بوصفها مرحلة على طريق نهضة الشعب الفلسطيني، وهي بحاجة إلى توفير المقومات لتصبح قيادة جديدة أو جزءًا من قيادة جديدة تسعى إلى تنظيم انتفاضة شاملة قادرة على الانتصار.

التغيير الممكن على طريق التغيير الضروري

إن التغيير الشامل حاجة ملحة لإنقاذ القضية والهوية الوطنية والأرض والشعب، ولكنه لن يحدث بسرعة، ولا مرة واحدة، بسبب كل الأسباب المشار إليها وغير المشار إليها في هذا المقال، بل هي عملية تدريجية؛ بسبب واقع الاحتلال ودوره لمنع انتصار أي ثورة للتغيير والانقسام الذي يستنزف طاقات الشعب الفلسطيني، بل ستحدث على دفعات وموجات ضمن عملية تاريخية ستسرعها أحداث كبيرة إقليمية ودولية يبدو أن العالم مقبل عليها، وعلى الشعب الفلسطيني أن يستعد لالتقاطها، من دون مغامرات ولا حرق للمراحل، وبلا تخاذل واستسلام ويأس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى