زمن العنبر

د. عبير السيد | فلورنسا – إيطاليا

مقامات الزمان والمكان، تبدأ بمجرد أن يعطي القارىء روحه داخل مقامات زمن العنبر وربما يتساءل لماذا المقامات ولماذا العمر بالتحديد؟


هذا الزمن الذى يتدفق و بمهارة شديدة على لسان طفل فتأتي اللغة بمهارة الطفولة والشباب والرجولة والنضج، عميقة، سهلة بسيطة..تنم عن دراية كبيرة وتمكن من تقنيات السرد و تكنيكات الحكي الموصول بحبال التشويق التي تمسك بالقارئ فلا تتركه إلا عند عتبة المقام الأخير فيعود محملاً بعنبر الذكريات ….
قريبا ترى النور متوالية “مقامات زمن العنبر ” للأديب محمد عبد الوارث لتضع سجلاً جديداً ليس فقط بين سجلات إبداع الكاتب والذى صدرت له كتابات عديدة أخرها المجموعة القصصية
“خمس ملاعق صغيرة للغيب” العام الماضى . ولكن أيضا بين سجلات الأدب الحامل للزمان وعبق المكان .. وكعادة الأديب يأخذنا بين الزمان والمكان أو الزمكانية حيث روح الزمن ومتغيرات الواقع فيأخذنا بين ملامح الإسكندرية القديمة التي غير الزمان ملامحها فلم يبقى منها إلا مقامات من العنبر الساكن بين دروب الروح..[الأهم من هذا وذاك تلك الروح التي توشم الجو وتشعرنا بأننا في طقس غير بشري “…]


الزمان والمكان: كما بدا لي من قراءة المتوالية أن الكاتب قد أدرك التمكن من صناعة الزمان والمكان فأتت السجلات الزمنية كخرائط ذهنية لما كانت عليه الإسكندرية وبخاصة مكان النشأة الأولى التي مازال الأديب يحتفظ بها.
المتوالية ملونة بالتنوع الثقافي والتعدد الديني والثراء الذى تفردت به مدينة الإسكندرية العريقة وليس ذلك فقط، بل حملها أيضا بسجل سياسي عن واقع مصر مروراً بفترات تاريخية هامة منذ تولي الرئيس جمال عبد الناصر ثم السادات حيث كان الحكي في بعض المقامات بلسان الطفل “لذلك أصبح أغلبنا من صبيان الحى بارعين في عبور السكة الحمراء مع قليل من الحذر، وعندما تواتر الخبر بأن الرئيس جمال عبد الناصر سيمر من محطة قطار “سيدي جابر ” التي مازالت محتفظة بطابعها القديم تزدان باللافتات والأعلام، كنا نهرع إلى السكة الحمراء فنرى الناس قد تجمهرت على الجانبين ” …
ثم يتباري في وصف الشارع والنوافذ و الحشود والهتافات..ولحظات عبوره السكة الحمراء مع أصدقائه “ميمي جروبي” و “حوده “.
يأخذنا الكاتب بعد ذلك في مغامرات المراهقة والشباب ولمسات العيون والأسرار الصغيرة الكبيرة وأسرار البنات التي لم يكن يعرف منها إلا بعض النظرات الخاطفة بينه وبين ” كيتي” إبنه الجيران المسيحية، ذلك الكائن الجميل والتي بقت في وجدانه كأنها لحظات نورانية
إلا أن عجلة الحياة لا تتوقف ويأخذ نا الكاتب إلي مقامات أخرى مروراً من طفولته إلي صباه وحبه. تاريخية أخرى بعد وفاة الرئيس ناصر وتولى السادات الحكم ..يتعمق الكاتب في تفاصيل فتح الأبواب للجماعات الدينية وبدأ ظهور الجلباب الأبيض واللحية. تلك الفترة الهامة من التغير الأيديولوجي لمصر وكيف أن صديقة “ميمي جروبي” رفيق الطفولة هو أول من أطلق لحيته ولوّن كلماته بالعبارات الدينية والآيات القرآنية وتنكر لأسم ميمي وبدأ يطارد “حمادة” في حبه للفتاة المسيحية التي ملئت قلبه ..
أما في قصة “صفير الزمن” وهي القصة الثانية عشر من المتوالية يرسم الكاتب أواخر الستينيات، وكبري القبة، حيث شذى المكان والزمان وروعة السرد المحمل بعبير العنبر ..
يقول ..[سجادة الليل موشاة بخرز متواتر الضوء والكروان يبث دعاءه عل من يسمع يلهج بالثناء، بين الحين والحين يسطع في الأفق مذنب يحترق لا أعلم في أي مكان يسقط، تاركا النفس مشدوهة لعل لحظة إبصار خاطفة تذكر الرائي بمن خلق …] حيث يعيدنا الي مصر الحبيبة وعالم السينما ، زمن فيلم دعاء الكروان ،فاتن حمامة و صفير ذلك الزمن البعيد الذي بدأ يتلاشى إصلا من القلوب العالقة في زمن العنبر .

________
متوالية”مقامات زمن العنبر”
الأديب محمد عبد الوارث
دار ديوان العرب للنشر والتوزيع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى