مخيم جنين.. مخيم البطولة
نهاد ابوغوش-فلسطين
لا تزيد مساحة مخيم جنين عن كيلو متر مربع واحد، بينما يربو عدد سكانه على سبعة عشر ألفا من اللاجئين الذين هُجروا من منطقة حيفا وقرى جنين المحتلة عام 1948، مثل قرى زرعين والمنسي والمزار ونورس والنغنغية وإجزم، وعين حوض والخضيرة وصبارين. وعلى الرغم من صغر مساحته، إلا أن رمزية المخيم تجاوزت حدود المكان والزمان والأرقام الإحصائية، واستقرت عميقا في وجدان الشعب الفلسطيني وسجلّ نضالاته المجيد. بل إنها تجاوزت حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة، فبات المخيم نموذجا عالميا وإنسانيا لقدرة الكف على مناطحة المخرز، وانتصار الدم على السيف.
أتاحت لنا جولة نظمها مجلس منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية التعرف عن كثب على الناس، وعلى تفاصيل المجزرة المروعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال صباح 26/1/2023 فأوقعت عشرة شهداء وعددا كبيرا من الجرحى. استمعنا إلى شهادات ذوي الضحايا والأطباء وطواقم الإسعاف وممثلي المؤسسات، وقصص الألم والقهر والبطولة. هنا ينطبق القول الشائع ” الرؤية ليست مثل السمع”، فمن يسمع الأخبار من بعيد ومن اعتاد على إحصاء المذابح والانتهاكات والنظر إليها كأرقام ليس كمن يعاين الواقع على الأرض ويستمع لممثلي المؤسسات ولابنة الشهيدة، والطبيب الذي أشرف على استقبال الشهداء ومعالجة الجرحى، والطفل الذي ما يزال مسكونا بالرعب الذي شاهده بأم عينه.
تضافرت عوامل عديدة لتنسج قصة البطولة الحية والمستمرة، من بينها التاريخ المباشر لمحافظة جنين في الثورة الفلسطينية الكبرى، وخصوصا حركة الشيخ الشهيد عز الدين القسام الذي خاص معركته الأخيرة واستشهد في أحراش يعبد، والمعارك الضارية التي خاضها الجيشان الأردني والعراقي لحماية جنين وإنقاذها من الاحتلال عام 1948 حيث ما زالت قبور الشهداء شاهدة على ذلك. ثم حجم القهر والألم الذي حمله الناجون من القرى المهجرة ومذابح النكبة معهم وأورثوه إلى أبنائهم الذين ما زالوا يحفظون تفاصيل قراهم السليبة، الباقية أراضيها وأطلاها على مرمى النظر. ومن العوامل الحديثة مناخ الوحدة الوطنية الراسخة التي تجسدت في أبهى صورها خلال معركة مخيم جنين البطولية في الانتفاضة الثانية في نيسان 2002، فذكريات هذه المعركة ودلالاتها قدمت دليلا عمليا حاسما على أهمية الوحدة الوطنية، التي أثبتت المعركة والمعارك الكثيرة التالية، أنها ليست مجرد شعار، بل قوة مادية ومعنوية هائلة. كما كان مخيم جنين، ومحافظة جنين حاضرين بقوة مميزة في الملحمة الأسطورية لعملية التحرر الذاتي لأسرى سجن جلبوع، ثم في تشكّل أنوية الموجة الجديدة لعمليات المقاومة خلال العام الماضي والتي بدأت في جنين وانتشرت إلى نابلس وباقي محافظات الضفة، وكانت وما زالت تؤرّق الاحتلال وتقض مضاجع قادته الذي يصرون على النظر إليها كظاهرة أمنية يمكن استئصالها بالاغتيالات والاعتقالات، ولا يستطيعون رؤية الجانب الوطني في هذه الظاهرة، من حيث كونها تعبيرا عن توق شعب رازح تحت الاحتلال للحرية.
وبسبب رمزيته التي تمثل تحديا استراتيجيا للمحتل الساعي إلى إخضاع الفلسطينيين، واجتثاث أي حالة مقاومة أو اعتراض على سياساته ومخططاته، كان مخيم جنين هدفا دائما لعشرات عمليات الاجتياح والإعدامات الميدانية.
في كل عائلة شهيد، وفي كل زاوية معركة، وفي كل زقاق قصة بطولة يرويها الكبار ويتفتح وعي الصغار عليها. هنا استشهدت ماجدة عبيد، وعلى مدخل الحارة أعدم وسام أبو جعص وداست المركبة العسكرية جثمانه، وهذه أنقاض منزل الصايغ الذي قُصف بقذائف الأنيرجا “الحارقة” فدُمّر واستشهد كل من كانوا فيه، وهناك ودعت أم العبد الشهيد عز الدين صلاحات صديق ابنها الشهيد جمال، وغطته بالكوفية وغنت له ما تغنيه الأمهات لأبنائهن الشهداء. وعلى الجدران تزدحم صور الشهداء: شبابا في عمر الورد، أمهات وأطفالا، معلمين وأطباء وعمالا وطلبة، بين هؤلاء ثمة مكان مميز للشهيدة شيرين أبو عاقلة التي يعتبرها أهل المخيم منهم، وبسرعة احتلت صورة خيري علقم مكانتها بين شهداء المخيم إلى جانب صورة عدي التميمي، وعند مدخل المخيم صنع فنانون محلّيّون من بقايا القذائف والقنابل مجسما لحصان في مشهد ينطق بالمفارقات المأساوية، كيف يُنتج الضحايا من أدوات الموت عملا جماليا؟ وحتى لا يذهب الناظر بعيدا في خياله تُذكّره صور الشهداء التي تزنر دوار الحصان بالحقيقة التي ما زالت ترعف دما.
أكثر من 300 جندي شاركوا في تنفيذ المجزرة الأخيرة، خلافا لغرف الرقابة والسيطرة المركزية التي أشرف عليها قادة دولة الاحتلال وجنرالاتها، تحكُّم مطلق بالاتصالات والطرق والمُسيرات والمروحيات، وقوات إضافية كانت في حالة تأهب حول المخيم وفي المعسكرات القريبة.
التدمير شبه الكامل للمخيم خلال معركة 2002 لم يفلح في مسحه عن خريطة المقاومة. وألم الفقدان الذي يتقاسمه أهل المخيم ويتشاركونه زاد من تماسكهم وتلاحمهم، بل زاد من تمسكهم بحقوقهم. تُلخِّص الناشطة فرحة أبو الهيجا عضو اللجنة الشعبية للمخيم المعادلة بالقول “لقد سلبونا أرضنا وممتلكاتنا، ودمروا بيوتنا، لكنهم لم يسلبوا إرادتنا”.
البطولة ليست مجرد حالة عاطفية ومشاعر متأججة في الصدور، فالمخيم بحاجة إلى عوامل صمود مادية، وإلى خدمات طبابة وتعليم وبنية تحتية، وعناية بالأطفال والشيوخ والأشخاص ذوي الإعاقة، وسائر الخدمات الاجتماعية، إلى جانب ترميم وإصلاح ما دمره الاحتلال. وفي ضوء التقليصات المستمرة للخدمات التي تقدمها وكالة الغوث (الأونروا) وتطال الخدمات الأساسية، وعدم شمول بعض خدمات السلطة للمخيمات، ثمة حاجة مُلحّة لإسناد المخيم وتوفير مقومات الصمود عبر حملة وطنية محلية وخارجية تتعاون فيها المؤسسات الرسمية مع مؤسسات المجتمع المدني وروابط الجاليات ولجان التضامن مع فلسطين.
مخيم جنين، بشهدائه وجرحاه وأسراه وأطفاله وعموم سكانه هو المخيم الذي صوّب البوصلة، فرفع روحنا المعنوية، وانتشلها من وهدة اليأس إلى آفاق الأمل والتفاؤل بالحرية والاستقلال طالما أن لدينا شعبا لا يلين كما هم أهل مخيم جنين.