أدب

قراءة في القصيدة الرائية للشاعر المغربي حمزة الحداد

بقلم: عمر اليدري أفيلال

برز في هذا الجيل شعراء مجيدون، لا تكاد تنظر في حاضرة من الحواضر العربية والإسلامية، إلا ويطالعك في الأفق شاعر، يجري في شعره مجرى الشعر المتألق المستند إلى عمود الشعر العربي دون تكلف، مجددا فيه ما أمكنه التجديد؛ لأنه يخاطب به قوما غير قوم، وبيئة غير بيئة، ولغة غير لغة، ومن هؤلاء الشعراء الشاعر المغربي حمزة الحداد، الذي سنحاول أن نتناول في هذه المقالة قصيدة رائية من قصائده الكثيرة، في ثلاثة عشر بيتا؛ لنرى ما انطوت عليه من مكامن الإبداع، وهي مع غيرها من القصائد قد أذاعها كذلك على صفحته الشخصية، في العالم الأزرق، وقد جاءت أبيات قصيدتنا طي الدراسة كالتالي:

شَــآبِـيـبُ الـهَــوَى مَــطَــرٌ وَنَــارُ

كَــأَنَّ صَــبَـابَــتِــي بِــدَمِــي أُوَارُ

أَعِـيـذُكَ عَـاذِلِـي مِنْ حَـرِّ وَجْـدِي

وَجُــبٍّ لَــيْــسَ يَــسْــبِــرُهُ قَــرَارُ

هَـوِيـتُ بِـهِ كَـيُـوسُفَ فِـي فَـلَاةٍ

وَلَا رَكْــبٌ هُــنَــاكَ وَلَا مَــسَــارُ

تُرَى هَلْ سَوْفَ تَسْحَقُنِي صُخُورٌ

تُرَى هَلْ سَوْفَ تُـغْـرِقُـنِـي البِحَارُ

تُرَى هَلْ سَوْفَ تَخْطِفُنِي طُـيُـورٌ

تُرَى هَلْ سَوْفَ يَـخْـنُـقُـنِـي الغُبَارُ

تُرَى هَلْ سَوْفَ يُـدْرِكُنِي حَـبِـيـبٌ

تُرَى كَـمْ سَـوْفَ يَـلْـزَمُ الِانْـتِـظَـارُ

كَـأَنَّ عَــقَــارِبَ الأَشْــوَاقِ أَفْـعَــى

وَسَـاعَـاتُ الـهَـوَى زُغْـبٌ صِـغَـارُ

وَلَــيْــلُ الــبَــيْــنِ آهَــاتٌ وَمَـــدٌّ

وَلَـيْـلُ الـوَصْـلِ يُـدْغِـمُــهُ الـنَّـهَـارُ

أَلَا لَــيْــتَ الــنَّــوَى سَـفَـرٌ قَـرِيـبٌ

وَلَـيْـتَ الأَرْضَ أَقْـصَـاهَـا الـجِـوَارُ

وَلَــيْــتَ الــرَّبْـعَ مُـزْدَهِـرًا رَبِـيـعًـا

وَلَــيْـتَ الـحِـبَّ مَـهْـمَـا جَـدَّ جَـارُ

فَقَدْتُ إِذَا افْتَقَدْتُكَ شَـطْـرَ رُوحِي

وَحَـلَّ بِـيَ الــتَّـحَـلُّــلُ وَالــدَّمَــارُ

وَبِتُّ وَذِي الـطُّـلُـولُ كَرَسْمِ حَرْفٍ

عَـلَـى وَرَقٍ يُــسَــفِّــعُــهُ الـسُّـعَـارُ

إِذَا هَـبَّ الــنَــسِــيــمُ بِـهِ تَـلَاشَـى

وَفَاضَ الـحَـرْفُ وَانْـقَـضَّ الجِدَارُ

استهل الشاعر قصيدته التي نظمها على إيقاع بحر الوافر، وأذاعها في ٢٤ من فبراير ٢٠١٩ ؛ قائلا:

شَــآبِـيـبُ الـهَــوَى مَــطَــرٌ وَنَــارُ

كَــأَنَّ صَــبَـابَــتِــي بِــدَمِــي أُوَارُ

وهو استهلال -كما هو بين- جرى فيه على منوال الأقدمين في الإتيان بأبياتهم مصرعة، وقد اختار لقصيدته رويا رائيا وقافية متواترة، وهي المحددة في كلمة “وارو” من هذا البيت السالف ، مقطعة تقطيعا عروضيا؛ حيث يشكو في هذا البيت الطللي النسيبي، ما يعتريه من شدة الهوى، التي يشبه كثافتها وتسعرها، بكثافة المطر وانتعاشه ، وتسعر النار ولوعتها، ويبالغ في التشبيه فيرى أن شوقه وصبابته تجري في دمه جريان النار المتقدة ؛ فالأوار هي من وارى النار إذا أوقدها؛ وإن كان قد يعني بها فوران اللهب داخله، فالجامع بينهما هو الإحراق والاحتراق؛ إحراق الصبابة للشاعر المحترق بها، كإحراق النار المتقدة لغيرها.
سيتبين للمتلقي بوضوح، أن الشاعر في هاته القصيدة، قد ألف بين أبياتها تأليفا عضويا؛ يمسك بعضها بحجز بعض، جريا على عادة كثير من شعرائنا الأفذاذ، أمثال عمر بن أبي ربيعة وغيره؛ إذ يعرب فيها عن مدى اشتياقه للمحبوب الذي يشكو بعده وهجره، وأحواله مع هذا الشوق، ما يمكننا أن نصنف معه هذه القصيدة في الشوق والشكوى، وقد أتبع هذا البيت بيتا آخر يخالف فيه ما استقر عادة عند الشعراء، في حديثهم عن العذال واللائمين؛ حديثا غالبا ما تشوبه حدة وتذمر؛ إذ يدعو لعاذله، ويعيذه مما ألم به، وذاقه من حر الوجد؛ فلن يكون له مطيقا، وفي ذاك نصح له، وتوبيخ جراء لومه واستخفافه بألمه في آن واحد؛ كي لا يقع له ما أصابه، ثم يصور -والحالة هذه- وضعه في فلاة بوضع من هوى في قعر بئر، ليس له قرار، كيوسف عليه السلام؛ حيث لا خلان و لا مسار كذلك.
يحتار الشاعر في أبيات ثلاثة أخرى عن مآله ومصيره في هذه الفلاة، هل سَيُسْحَقُ تحت الصخور، أم تُغرقه البحار، أم سيتخطفه الطير، أم سيختنق بالغبار، أم أن مصيره سيكون بأن يُنقذ على يد حبيب، ويتساءل عن المدة التي سيقضيها منتظرا متشوقا، إلى أن يأنس بأوبة المحبوب، ومما أضفى على هاته الأبيات جمالا ونغمة موسيقية تنسجم وحالته النفسية، تلك التجانسات الصرفية التركيبية التي عبر بها عنها، وخذ مثالا على ذلك هذا البيت:

تُرَى هَلْ سَوْفَ تَخْطِفُنِي طُـيُـورٌ

تُرَى هَلْ سَوْفَ يَـخْـنُـقُـنِـي الغُبَارُ

وليس تلك التجانسات فحسب ما ميز هذه الأبيات، وإنما توظيفه أسلوبا من الأساليب الإنشائية، وهو الاستفهام، فبعد أن أكثر من الأسلوب الخبري في الأبيات الأول ما ناسب رغبته في البوح عن مكنوناته، ومشاعره، من شوق وشكوى، ينتقل إلى الأساليب الإنشائية، ليمتح منها ما يؤهله عن التعبير عن حالة الحيرة التي تعتريه من عاقبته في تلك الفلاة؛ ولأن الشاعر غالبا ما يلجأ إلى الصور الشعرية حينما تتملكه الحيرة، والاندهاش، ويعوزه الوصف الدقيق، أمام ما يعتريه أو يجد نفسه إزاءه قال:

كَـأَنَّ عَــقَــارِبَ الأَشْــوَاقِ أَفْـعَــى

وَسَـاعَـاتُ الـهَـوَى زُغْـبٌ صِـغَـارُ

إذ عمد الشاعر في هذا البيت، وهو في فلاته التي تضاهي في عمقها عمق الجب إلى وصف الزمان؛ حيث قارن بين طول زمن الهجر، وقصر زمن الوصل؛ وذلك بعقده مقابلة استعارية بين ساعات الفراق، وساعات الوصل، مستغلا اسم عقارب الساعة، التي رأى أنها عقارب حقيقية ؛ فاستعارها لساعات الفراق؛ التي شبهها كذلك بالحيات لطولها ؛ ولأنها تلتهم وتفترس الفراخ الصغيرة مثلما تلتهم ساعات الفراق ساعات الوصل التي هي من قصرها ؛كأنها تلك الفراخ الصغيرة التي ما زالت زغب الحواصل.
راح شاعرنا يوظف بعد ذلك في أبيات ثلاثة أسلوب التمني الإنشائي؛ ليعبر عن انتفاء قدرته أمام هذا البعد والشوق، الذي يصطلي بناره، حيث يتمنى والتمني لا يكون إلا لمستحيل، انتهاء البعد، وأن يكون نهايته الوصال والجوار، وازدهار الربع ربيعا، كما يتمنى أن يؤوب حِبُّه ليصبح جارا له مجددا مهما جَدَّ في البعد، ورغبة منه في استمالته إليه، وحثه على العودة؛ لإنهاء هذا الشوق، كي لا يصبح الهجر فقدا، صور له مفترضا ما سيؤول إليه حاله بعده، من فقده شطرا من روحه، وحلول التحلل والدمار به؛ قائلا:

فَقَدْتُ إِذَا افْتَقَدْتُكَ شَـطْـرَ رُوحِي

وَحَـلَّ بِـيَ الــتَّـحَـلُّــلُ وَالــدَّمَــارُ

لذلك همَّ في البيتين الأخيرين يشبه جسد العاشق بورق محروق “يُسَفّعُه السُّعارُ”، وروحه بالحرف المكتوب عليه، الذي سرعان ما يتبخر حبره ويفيض إذا ما احترق، ليصبح الورق المحروق ؛أي الشاعر المتوله، في مهب الريح يفتك به أدنى نسيم؛ ويعني بالنسيم الذكرى؛ أي ذكرياته معه، وفي ظل هاته الصورة المركبة، يقارن نفسه بالطلل الذي قاس من معاناته نفسها “فبت وذي الطلول” ؛ إذ ما قاله عن نفسه يصدق على الأطلال كذلك؛ فإذا كانت الأطلال تسقطها الرياح، “وانقض الجدار” فإن الشاعر يسقطه نسيم الذكريات، وغرض الشاعر من هاته النهاية المأساوية أن يهفو قلب المحبوب إليه، ويشفق على حاله، ليدركه قبل تحقق الشرط ؛ إذ يقول:

وَبِتُّ وَذِي الـطُّـلُـولُ كَرَسْمِ حَرْفٍ

عَـلَـى وَرَقٍ يُــسَــفِّــعُــهُ الـسُّـعَـارُ

إِذَا هَـبَّ الــنَــسِــيــمُ بِـهِ تَـلَاشَـى

وَفَاضَ الـحَـرْفُ وَانْـقَـضَّ الجِدَارُ

نستشف من خلال هاته اللمحة السريعة، في أبيات هاته القصيدة الرائية، ما انطوت عليه من إبداع تسمو بها في مصاف الشعر الجيد؛ إيقاعا، وتصويرا، ومضمونا، وخيالا، وإن كان الحكم على جودة الشعر يختلف عن الحكم على جودة الشعراء؛ إذ قد تسمو القصيدة وإن كانت يتيمة، أما الشاعر فلا يسمو إلا بالنظر إلى مجموع إنتاجاته الشعرية، فإنه لا نغالي إذا ما قلنا أن هذا الشاعر بإمكانه إذا ما عُنِيَ النقاد بقصائده الجياد أن يُصَنَّفَ في جمهرة الشعراء المجيدين، وحسبي بهاته القراءة أن أستحث همم النقاد وأثيرهم إلى الدراسة الجادة لاكتشاف الأسرار البيانية التي تنطوي عليها قصائده.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى