أدب

قراءة في رواية ” بغداد وقد انتصف الليل فيها ” للروائية التونسية حياة الرايس

 نهى عاصم| ناقدة مصرية

تستهل الكاتبة روايتها والتي تعد رواية سيرة ذاتية لها، بكلمات جذابة ترسم الدفء في جنبات قلب القراء: في “لا أستطيع أن أدون جملة في أي نص إلا إذا شعرت أن روحي استقرت بها واتخذتها مسكنًا.. لأطمئن أن القاريء يمكن أن يطيب مقامه بها. النص لا يستطيع أن يتخلص من روح صاحبه أبدًا”. ثم تهدي روايتها لأرواح تدين لهم بالكثير، لوالدها الذي خالف تقاليد القبيلة وتركها لتسافر لتستكمل تعليمها في الخارج وغيره..

ولدت بطلة روايتنا في تونس وظلت فيها حتى انتهت من الدراسة الثانوية ثم ذهبت إلى بغداد كي تدرس بجامعتها كأول تونسية تدرس بقسم الفلسفة، وكي تصنع مصيرها بيدها كما تقول .. وصلت حياة الرّايس “بغداد” في سبتمبر عام ١٩٧٧ “وقد انتصف الليل فيها” قادمةً من تونس ..
وفي الرواية تضع لنا الكاتبة جملة: “بغداد وقد انتصف الليل فيها” وهي كلمة مذيع الراديو ، تضعها قبل كل فقرة من الفقرات التي كتبتها طوال الفصل الأول من روايتها .. وكأن الموعد والحدث يطغيان على مشاعر الشابة التي كانت تعتبرها لحظة فارقة في حياتها تتأرجح فيها بين تونس وبغداد .. كما أنها تصف لنا بغداد بعد منتصف الليل بصورة جميلة شاعرية عاشقة..

تقول الكتاب بمشاعر فياضة تصف بهجة الشابة التي وصلت بغداد للتو: “بغداد وقد انتصف الليل فيها” “كالعلامة التي تسبق ضوء المسافات، تفتح باللغة منارة وطريقا..أفترش حروفها حريرا وثيرا ورنة مموسقة في رخاء الليل.. وأستلقي رافلة، في أرض المتنبي والتوحيدي والجاحظ ببيانه وتبيينه فتتبدد غربتي. من قال أنني أهاجر من بلد إلى بلد؟ لست أقيم سوى في اللغة وأسكن بين الحرف والمفردة وأتوسد الجملة وأتبسط وسع الفواصل والنقط”.

تصف الكاتبة العلاقات الأسرية التونسية بصورة دافئة جميلة، كما تصف العادات والتقاليد والطقوس الدينية والولاء وحد التقديس للأولياء، والأكلات والأسواق والأماكن وتنقل الكاتبة من المدينة الإسلامية القديمة والمدينة الحديثة، والحياة عامة في تونس في تلك الفترة..
جعلتني الكاتبة من جمال وصفها لباب البحر أبحث عن صوره ومقالات عنه في جوجل .. ثم تنتقل إلى بغداد فنجدها تجيد فن التفاصيل الصغيرة في وصف الأماكن حيث بيت المغتربات مثلا الذي يغلق أبوابه عليهن في تمام السابعة مساء، والجامعة، وزي فتيات المدن العراقية المغتربات، والأعراق والديانات المتعددة، وحزب البعث، وتعقد مقارنات بين المشاعر الكلامية الدافئة الموجود في كلمات بنات بلاد الشام وبين الجفاء العاطفي في الكلام لدى أهل المغرب العربي..
كما تتحدث بصورة تجلب البسمة على وجه قارئها حينما تتحدث عن تعدد الألسنة واللهجات العربية التي كانت تجعل الحوار بينها وبين زميلاتها مضحكًا رغم التزامها بلغة عربية بسيطة كي تتمكن من التحدث إليهن..
وتقول الكاتبة عن هذا الأمر : “وليس صدفة أن تظهر شهر زاد في الشرق، وأن يكون هذا الشرق القديم مهد كل الأنبياء. حيث تجاوزت الكلمة السحر والسلطة وبلغت المقدس: وفي البدء كانت كلمة”.

تتنقل الكاتبة بين الأزمنة في انسيابية وهدوء يشعر القاريء باليسر في التنقل معها من زمن إلى آخر.. ومن أجمل الفصول التي قرأتها فصولها عن الأساتذة الذين درسوها وتدين لهم بالولاء، كما عقدت تحدي بين حزب البعث والعاطفة مع زميلها فارس البعثي ونجحت في هذا التحدي حينما قرأ لها أشعار الشابي وخاصة القصيدة التي أحببتها منذ عقود: “عذبة أنت كالطفولة كالأحلام”
كما أعجبني كثيرًا حديثها عن مجلة ألف باء التي تبنتها صحفية صغيرة وعن لقاءاتها الصحافية بكبار الأدباء في تونس وفي العراق مثل جبرا إبراهيم جبرا ود. عبد الرحمن المنيف، وضحكت كثيرًا على التباس الفهم الخاص باسمها حياة الرايس وحياة الرئيس صدام.. وكذلك أحببت وصفها لمشاعر الولاء الفياضة التي تعيدها للعراق في سنتها الجامعية الأخيرة، رغم مآسي الحرب العراقية الإيرانية وفي طريقها إلى العراق من الأردن، احتفى بها العراقيون في الحافلة، ووضعت رأسها على ركبتي امرأة عراقية كبيرة في السن وقالت:
“أحسست حينها أن “عشتار” الأم الكبرى، هي التي تتكلم.. وأنني أغفو على نهر دجلة.. تحتضنني بلاد الرافدين..
بروحي تلك الأرض..ما أعظم الذكرى”.

تقول الكاتبة :“أمي بية” التي دلقت ورائي إبريق ماء وهي تشيعني بدعواتها وإيمانها القوي بنجاحي وقدرتي على المغامرة” فترى هل هي عادة عن سفر الأهل كي يعودوا سالمين؟ أم ماذا؟ كنت أتمنى لو أدرجت الكاتبة في الهامش وصفًا لهذا الأمر ..ى وفي النهاية التي جاءت بادئة لرواية ثانية واستكمالًا لسيرة ذاتية شيقة استمتعت بها، وأتمنى لو كانت كتبتها الأديبة المبدعة حياة الرايس، خاصة أنها ستكون عن باريس..
شكرًا للأديبة مع خالص تمنياتي بمزيد من الإبداع..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى