فكر

التعددية وإشكالية الهوية العراقية.. قراءة أنثروبولوجية

د. محمد الواضح
باحث وأكاديمي من العراق

mohalwadh1981@gmail.com

أنثروبولوجية القراءة “الدلالة ومناطق الاشتغال”
بحث موضوع تتصّل جذوره وطبيعة فهمه في مجتمع تحكمه مجموعة من أنساق دينية وثقافية وسلوكيات مجتمعية مختلفة، تنطلق نقطة الشروع في قراءته وتحليله من الأسس والمناهج المعرفية التي رسمت مداخله، وأطَّرت لقوانينه وأنظمته، وبحثت في بنية المجتمعات البشرية، ولعلَّ أبرز المناهجوأقربها مدخلا في فهم موضوع الهوية وإشكاليتها فهما من منظور علم الإنسان أو ما يعرف بـ(علم الأنثروبولوجيا)، هذا العلم الذي لايزال فيه ميدان البحث بكرا، لم يأخذ مداه الإجرائي الواسع في مجالات الحياة والعلوم والمعارف الإنسانية فضلا عن انسجام المنظور والإجراء في القراءة؛ لذا تقتضي طبيعة القراءة والتحليل الوقوف عند دلالته وأصالته بما يسمح فيه فضاء المقال؛ إذ:(إنّ لفظة أنثروبولوجيا Anthropology، هي كلمة إنكليزية مشتقّة من الأصل اليوناني المكوّن من مقطعين : أنثروبوسAnthropos ، ومعناه ” الإنسان ” و لوجوس Locos، ومعناه ” علم “. وبذلك يصبح معنى الأنثروبولوجيا من حيث اللفظ ” علم الإنسان ” أي العلم الذي يدرس الإنسان) .(Nicholson, 1968, P.1)
ومايهمنا في هذا الموضوع، السؤال البدهي الذي يمكن أن يُطرح: من أية زاوية تتناول الانثروبورجيا دراسة الإنسان؟
تذهب بعض الانظار الانثروبولوجية إلى أن هذا العلم” يدرس الإنسان من حيث هو كائن عضوي حيّ، يعيش في مجتمع تسوده نظم وأنساق اجتماعية في ظلّ ثقافة معيّنة.. “(مقدّمة في الأنثروبولوجيا التربوية، أحمد أبو هلال، 1974، ص 9)
بمعنى أنه ” علم دراسة الإنسان طبيعياً واجتماعياً وحضارياً ” (قاموس الأنثروبولوجيا سليم شاكر، 1981، ص 56) أي إنّ الأنثروبولوجيا لا تدرس الإنسان كائنا وحيدا بذاته، أو منعزل عن أبناء جنسه، إنّما تدرسه بوصفه كائناً اجتماعياً بطبعه، يحيا في مجتمع معيّن لـه ميزاته الخاصة في مكان وزمان معينين.؛ إذ تحاول الكشف عن العلاقة بين المظاهر البيولوجية الموروثة للإنسان، وما يتلقاه من تعليم وتنشئة اجتماعية. وبهذا المعنى، تتناول الأنثروبولوجيا موضوعات مختلفة من العلوم والتخصّصات التي تتعلّق بالإنسان. ولأن المقام لايستع للخوض في تفاصيل دلالة علم الأنثروبولوجيا آثارنا الاكتفاء بهذه الوجازة
التعددية ” في الدلالة اللغوية” :
التقليبات الدلالية لمفهوم (التعددية) واسعة وتحمل أوجهًا وتفسيراتٍ مختلفة؛ تبعا للاشتغال العلمي الذي تستعمل فيه، لكنَّ النظر في الجذر اللغوي (ع د د) في المعجمات التراثية يكشف لنا أن ” العين والدال أصلٌ صحيح واحد لا يخلو من العَدّ الذي هو الإحصاء، ومن الإعداد الذي هو تهيئة الشَّيء” مقاييس اللغة.ابن فارس. في حين تبيّن القواميس المعاصرة أنها”اسم مؤنَّث منسوب إلى تعدُّد، مصدر صناعيّ من تعدُّد : التَّعدُّديَّة الثقافيَّة ” معجم عربي عربي.

التعددية وإشكالية الهوية في المنظور الأنثروبولوجي
يفهم من الكشف اللغوي المعاصر للفظة أنها جاءت من التعددية الثقافية، مما يحيلنا إلى فهم يشير إلى أن هذه الدلالة تحلُّ في مجموعة من الأنساق الثقافية المتنوعة والمختلفة، منها التعددية: الدينية، أو القومية، أو السياسية، أوالاجتماعية وغيرها ممّا هو قابل لجعل التعددية تنوُّعًا مستمرا، تبعا لما تنتجه آلة الفكر من أفهام ودلالات متنوعة.
ولا شك في أن هذه الأشكال وتنوعاتها تمت من قريب أو بعيد صلة لمفهوم التعددية، فالناظر إلى المجتمع العراقي وطبيعة مكوناته وألوانه وأطيافه، يلحظ أن جملة قواسم ووشائج مشتركة تكشف عن ملامح هويته، فمن هذا المشترك ماهو ديني، وهو الرابط الأسمى والأكثر وثاقة وتحديدا لأصالته؛ إذ يشكل الدين الأسلامي نسبة مايقارب 80% من انتمائات أبنائه (اشكالية الهوية الوطنية العراقية،د.هيفاء أحمد،ص1)،
مما يجعل هذه السمة تفوق باقي التعدديات الاخرى: كالقومية أو العرقية أو السياسية ونحوها، وحتى الإقليات الأخرى تعود في أصل نشأتها الى خلفيات دينية محترمة، عاشت وترعرت منذ مئات السنين على تراب العراق، غير أن هذه التنوُّعات وفق الفهم الانثربولوجي تؤسس لقيمة حضارية سامية ترسخ وحدة الهوية العراقية أكثر مما تُفرِّقها ومن هنا ” كانت أهميّة الدراسات الأنثروبولوجية في تحديد صفات الكائنات البشرية، وإيجاد القواسم المشتركة فيما بينها، بعيداً عن التعصّب والأحكام المسبقة التي لا تستند إلى أية أصول علمية ” ؛ لكن السؤال هنا: ما بواعث الإشكالية التي تثار بشأن تشظي الهوية العراقية وتأزمها ؟

التعددية و بواعث الإشكالية
لعل الناظر في بناء الدولة العراقية المعاصرة التي قامت سنة 1921 يلحظ أن فشل القائمين على توحيد الهوية الوطنية العراقية حال دون ترسيخها، بعد أن أرخي العنان لرفع شعار القومية التي كانت عقبة أمام إنشائها، وان التغيير بعد ٢٠٠٣ واعتماد نظام المحاصصة الطائفية، قد عقّد الإشكالية اكثر، الامر الذي جعل افتقاد الهوية الوطنية الجامعة تلقي بظلالها على الاستقرار السياسي والاجتماعي للبلاد (ينظر:اشكالية الهوية الوطنية العراقية،د.هيفاء أحمد،ص2 ).
يفهم من هذا أن الصراع القومي أو الإثني أبرز بواعث خلق إشكالية الهويةـولاشك في أن التباين القومي العرقي نابع من الطبيعة البيولوجية الحياتية للانسان، ويرى لينتون ” أنّ التطرّف في تمجيد فكرة العرق، أدّى إلى فرض عدد محدود من التصنيفات الصارمة على بني البشر الذين يمتازون بتنوّع لا حدّ له، وأدّى بالتالي إلى زج الأفراد في هذه التصنيفات، بصورة تطمس صفاتهم الأصلية الخاصة”. (دراسة الإنسان رالف لينتون، ترجمة : عبد الملك الناشف (1964)، ص 46)
ولم يكن التطرف القومي أو العرقي سببا كافيا في محاولات تشظية الهوية العراقية، بل زادت سطوة السلطة السياسية واهتمامها بمصالحها في سعة هُوّة الخلاف بين أبناء الشعب الواحد، وجعلت الإشكالية قائمة وتأخذ مديات أوسع، وصار من الصعب تفنيدها أو دفع غائلتها عن المجتمع العراقي، جرَّاء ماتعرض له من ظلم الاحتلال، وتسويق حركات التطرف داخل البلاد عبر الضغط باتجاه دوران آلة العنف الطائفي المقيت؛ مما جذَّر لنا واقعا مجتمعيا خطيرا قائما على التشظية المناطقية، وفتحت الباب أما تنامي الهوية الطائفية بدل الوطنية، وصار دأب السلطات رفع شعارات تتوسل بالوحدة والمواطنة، دونما ترسيخ جدي وحقيقي، مما جعل بعض المناطق تؤسس لفكرة الانقسام وإنشاء الأقلمة. وهذا الأمر بدوره طمس الأسس والقواسم المشتركة التي تربط مختلف التعدييات بدل أن تكون منطلقا للتعايش السلمي والإنساني تحت خيمة الوطن الواحد الذي تشيع فيه روح المواطنة الحقة.

المواطنة.. مبادئ أولية لحل الإشكالية
لاخيار لدرء هذه الإشكالية غير العمل والإيمان بمبادئ المواطنة الحقة، وهذا ما دعا إليه كل المتنورين والعقلاء ولعل من بينهم المفكر الكبير العلامة هاني فحص(رحمه الله) إذ يقول: “المواطنة هي أن تتحوّل الأرض التي نقيم عليها إلى وطن، والإنسان الذي يعيش فيها ويشارك في صوغ حياتها إلى مواطن، ويوثّق هذا الواقع في دستور، تلك هي المواطنة، أي مشاركة المواطن الأصيل في صنع القرارات، ما يتيح له تكوين نظرة متوازنة إلى ذاته وبلده وشركائه في صفة المواطنة، على أساس المساواة في الحقوق والواجبات” (الدولة المدنيّة على أساس المواطنة، مقال على موقع:مؤمنون بلا حدود،24-9- 2003) فمتى ما عمل الجميع على وفق الأسس والمبادئ التي ترسمها المواطنة التي تؤمن بالعيش الجمعي الكريم والتفكير المشترك استطاع حلحلة الإشكاليات التي تثار بشأن الهوية، عبر ادراكنا العميق لفهم المقولة السائدة : إن الدين لله، والوطن للجميع، مع الاحتفاظ بكل الخصوصيات الفرعية دون فرض أو إكراه، حينها يمكن أن نساير الراهن ونحول الخلفيات الثقافية المتنوعة في العراق إلى عناصر قوة؛ لترسيخ هويتنا الواحدة والوقوف بوجه كل من يسعى إلى التشكيك فيها أو محاولة تمزيقها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى