فكر

هل أصبح تحقيق المخطوطات مهنة البطالين؟

بقلم: طاهر العلواني | مصر

أكثرتُ الصمت وآثرتُ اعتزال الأمر؛ إذ كانت عادتي أن أرُدّ عِلمًا بعلمٍ وحُجّةً بحُجّة، أمّا أن أرُدّ جهلًا بعلمٍ فليس شيئًا مما يجري في عنان العقل؛ من حيث كان الأخصّ للأخصّ والأخسّ للأخسّ، على أنّ ههنا بيانًا عمّا غَبِيَ على هذا المحقق أن يقف عليه، وتوجيهًا لما ظنّه خطأ، وهو في جميع ما ذكره لا يريد إلا أن يُخرج نفسه من قليب الاتهام بعد أن بيّنّا له خطأه، ولله دَرُّ سفيان الثوري إذ قال: نظرنا في أصل كل عداوة فوجدناها: اصطناع المعروف إلى اللئام!
فأوّل ذلك أني يوم قرأت تحقيقه واستبان لي ضعفه وقلة علمه قلت لبعض أصدقائي: أليس كان يكفيه أن يُعطي هذه النسخة لمحققٍ يجيد هذه المهنة، فيكون حاز بهذا نشر العلم ولم يتعرّض لسخط الناس عليه؟ أم أن داء الشهرة قتله فلا يبتغي وجه الله بهذا الصنيع؟
ولا ينقضي العجب من هذا الرجل إذْ يحاول بكل طوقه أن يهوِّن من أمر أخطائه الفادحة، ويجعل ذلك من طبيعة عمل البشر!! متجاهلًا أن تحقيقَ المخطوطات هو عملٌ علميّ، والعمل العلمي دقيقٌ وأمانة عظيمة، فكيف إذا كان يتعلق بالشريعة الغرّاء وعلومها وروافدها؟! التحقيق كعمل الصائغ، يُقاسُ بمقياس الذهب دقةً، أما صاحبنا فالتحقيق عنده كطَرْقِ الحدّادين وحفر الحرّاثين!! فلا يضير ـ في نظره الكليل ـ المئة والمئتان من الأخطاء في كتاب!! هذا كلام مَن يُواري سوأته بلا شيء، ويستخفّ بعقول الناس!!
ولأجل ذلك تراه أسقط جميع ما ذكرناه في نسخته من أمراض عالجناها أشد المعالجة حتى خرجت في أبهى ما يكون، وأنصع ما يمكن، ثم يصف عملنا بالتحريف!!
وقد استبان للناظر أنه لا يحقّق علمَ العربية؛ وهذا بيِّنٌ جليٌّ مما أبديته في المقال الأول، وأنه أيضًا ليست له دراية بعلم الحديث أو طبقات الرواة، وهذا واضح لمن اطلع على تحريفاته لأسماء الرجال وتعاليقه التي ليست من العلم ولا العلم منها.
ثم إن هذا المحقق لم يكتفِ بهذا حتى طعن على طبعتي الثالثة للكتاب، وهذا بيانٌ لما لم يفهمه من صنيعي:
أما قوله: إني لم أقابل المخطوط فلم أجبه، بل لا أقول له إلا: ارجع إلى المقالة الأولى، لعلك تنظر أنه ما من خطأ في قراءة النص إلا والذي يليه معه في اللوحة نفسها أو بعدها بقليل.

فأما قول ابن حبان: «وأشهد ألا إله إلا اللهُ فاطرُ السماوات العلا». فقد قال هذا المحقق: إن في نسخة باريس: الذي هو فاطر.
نقول: إنما اعتمدنا هذا على ما في الأصول الخطية الأخرى؛ لقوله تعالى: {الحمد لله فاطر السموات والأرض}.
فإن قال لنا قائل: فاطر اسم فاعل، فالإضافة منفكة، فكيف صحّ أن يقع نعتًا لاسم الله وهو أعرف المعارف؟
قلت: اسم الفاعل لا يخلو من أن يكون للماضي أو للحال والاستقبال، فإن كان للماضي فهو معرفة بلا إشكال. وإن كان للحال أو الاستقبال فلا يخلو من أن يكون قُصد به لعادة مستمرّة أو لا، فإن كان مقصودًا به لعادةٌ مستمرة فهذا معرفة أيضًا، كما تقول: جاء زيد مقري الضيف؛ أي: الذي تلك عادته، وقال تعالى: {مالك يوم الدين}.
وأما قول الشاعر:
وَلَم يَمضِ في وَجهٍ من الأرضِ واسِعٍ
فقد ذكر هذا المحقق أن الصواب: ولا يمض؛ ذاهبًا إلى ما في نسخة باريس!
فيقال له: أين جازم يمض على أن الصواب: ولا يمض؟ كتاب له كل هذه النسخ وهو يريد أن يحتكم إلى مخطوط واحد!! أعرفتَ يا هذا المحقق أنّا قابلناه فأخرجنا أغاليطك؟!
ومن الفضائح والفضائح جمة أنه في قول الشاعر:
إذا ما أتاك الضيف فابدأ بحقه
قال: الصواب: وإذا أتاك! على أنه قال: إنه من الطويل! فهذا طويل من أي اتجاه؟! لا أدري.
ثم أردف ذلك بالطعن على نشرة أخينا عمر السنوي لكتاب أفانين البلاغة للراغب، أيضًا بتعقبات على النسخة المخطوطة، والحمد لله ليس في تعليقات الأستاذ السنوي شيء، بل كلها جار على طريق العلم.
والكتاب كما يعلم الجميع = وتوضيح الواضحات من الفاضحات، لكن اضطُرِرنا لهذا مع هذا المحقق = يكون له غير أصل مخطوط، فربما عمد الناسخ إلى استحسان كلمة دون كلمة، وقد صوَّبنا لهذا المحقق أشياء من هذا القبيل، نسخ أشياء من باريس وفي غيرها من النسخ ما هو أصح، فعدّلناه على الصحيح والحمد لله.
إذا عرفت هذا فأقول: أخونا الفاضل على دراية بما في المخطوط، يعلم ما يجب نشره مما يمتنع، فلا يقع في وهمك يا هذا المحقق أنك أفحمته! أو أن لك سبيلًا إلى أن تسمي ما فعلناه في الروضة «قراءة جديدة»، بل أخرجنا فضائحك إلى الملأ لينظروا، وليعلموا أن ما بذلته من جهد لتصحيح ما وقع لك يحتاج إلى مزيد علم.
والسؤال الآن: هل وقفت على فضيحة لأخينا الفاضل في تحقيقه كالذي وقفتُ عليه في تحقيقك؟ كلا ولن تقدر، أما ما في المخطوط فجوابه على ما ذكرتُ لك.
ثم إن هذا المحقق عالج أمره بأن قال: أبى الله إلا أن يتم كتابه. كذا!
وليس من أهل العلم ليعلم أن الصواب: أبى الله أن يتم إلا كتابه، أما عبارته فعلى العكس مما قصد.
ثم إنه قال لأخينا: (كل من تعامل معي يعلم تواضعي بحمد الله)!! وناهيك بهذا كبرًا ومرضًا؛ فإن هذا مما يعترف به الناس للمرء، وليس للمرء أن يعترف لنفسه به.
ثم إن من التواضع إذا بان للمرء غلطه أن يعترف به ويشكر لمن أدّاه إليه، وقد قال لنا بعد تبيين هذا الغلط المحض والفضائح العلمية: (أنا أكبر منك علمًا وعمرًا)!!
أما العمر فلا أعلم كم عمره ولا يعنيني، والظاهر من صورته التي نشرها لنفسه أنه أمردُ صغير السنّ، والله أعلم بحقيقة الحال. وأما العلم فما أدراه بعلمي ليحكمَ أن علمَه أكبر؟! هل بعد هذا من افتئاتٍ وخفة؟! ثم لا أدري عن أي علم يتحدث، وإلى أي نوع من العلوم يقصد؛ فإنّا قد بيّنّا أنه لا يحقق العربية ولا تراجمَ الرجال ولا ضبط أسمائهم. على أني لم أذكر لك أنه يقول: ما هي كذا؟ وهذا تركيب ما جاء عن العرب من وجه، ويضبط التِّسآل والتِّفآل بكسر التاء، وهذا مذهب العامة.
على أنّ ما أبدَيناه له في «روضة العقلاء» ليست أولى سقطاته وهفواته؛ فإن وراء الأكمة ما وراءها! والله المستعان..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى