في تحقق التوحيد: لابد من نفي وإثبات

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مهتم بالشؤون الإسلامية

إذا تجاوزنا مرحلة جدلية القرآن لإثبات التوحيد الخالص لله رب العالمين، نجد تناولها لا ينفك أبدا عن فرضية إبطال دعاوى الشرك، قبل فرضية إثبات التوحيد.. وهذا ما يسمونه “التخلية قبل التحلية”، أو تطهير المحل(القلب) من الشرك، قبل إدخال التوحيد.. وتلك هي سنة الرسل من لدن نوح عليه السلام حتى محمد صلى الله عليه وسلم “لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)“، “وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)” (الأعراف).. “

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)” (مريم) ..  

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ” (الأعراف). وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا” (النساء) .. تلك كانت دعوة الرسل إلى قومهم يعرضها القرآن، ثم يبين في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم الرسالة الخاتمة، أن سنة الإخبار والدعوة إلى الله وتوحيده لا تكاد تختلف من شريعة إلى أخرى، ولا من رسول إلى غيره من الرسل .. فيقول في سورة البقرة “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)”؛ فلا بد من نبذ عبادة الطاغوت والكفر بكل ما يعبد من دون الله وتخلية القلب حتى يكون محله أهلا للتوحيد، ويصفو معينه فلا يكدره شرك، ولا يدنس قدسه ند ولا نظير.

قال الشيخ ابن عثيمين “والتوحيد لا يتم إلا بنفي وإثبات.. فالنفي المحض تعطيل محض، والإثبات المحض لا يمنع المشاركة.

ثم ينقسم الناس في الاستقبال عن الله في دعوة التوحيد كحالهم منذ بعثة الرسل إلى فريقين، أما الفريق الأول الذي أبى إلا أن يقيم على شرك آبائه، مستمسكين بما ألفوهم عليه من باطل، ولو كان أباؤهم كما عدهم القرآن “لا يعقلون شيئا ولا يهتدون”، ” لا يعلمون شيئا ولا يهتدون”، فقال ” بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)َ وكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)” (الزخرف).

ومن من آثر هواه على دعوة الحق وأبى إلا أن يجادل في الله، وبعضهم من يسمونه الدهريون الذي يؤمنون بأبدية الدهر، وتسلطه على الخلق بالفناء.. فيقول القرآن عنه “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)”( الجاثية) .. “أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)” (الفرقان).

هكذا رغم غياب العقل والعلم ؛ فالأول هو اهتداء الفطرة والاستئناس بما أودع في سواء النفس البشرية من عهد التوحيد الذي أخذ عليها في عالم الذر، وأما العلم فهو الوحي الذي جاءت به الرسل بلاغا عن الله بما يجب على العباد تجاه ربهم الذي خلقهم وأمدهم..  وإذا غاب العقل والعلم فقد غابت الهداية والرشد .. فماذا بعد الهدى إلا الضلال؟!

وأما الفريق الثاني الذي استجاب لله والرسول لما دعاهم لما يحييهم، وما فيه فلاح الدارين (حياة طيبة في الدنيا، ونعيما مقيما في الآخرة)، وهو نجاح الآخرة والأولى، فقد أرخى زمام نفسه لأمر ربه طوعا، وأسلم وجهه لله رب العالمين .. وبمقتضى هذا التسليم لله، فقد أدخل تحت مظلة السمع والطاعة والتخلص من هوى النفس إلى هدي الشرع، وإخلاص الانقياد لما جاء به الرسول وما بلغ عن ربه من شريعة (الأمر والنهي).

وهنا تأتي معضلة يطرحها أهل الجدل والإرجاف ،والتنطع عن إقحام العقل الذي أقر لله بالتوحيد (الألوهية والربوبية) في أمر الشرع، وهي قضية جدلية لا محل لها من الإعراب، إذ ينصبون العقل حكما على الشرع بدعوى أنهم مسلمون، وأن الشرع لا يأتي إلا بما يقر العقل ويستوي معه ..

وإذا طرحنا هذا الطرح خارج دائرة الشرع، وعلى مستوى منطق البشر في تصاريف الحياة (الحزبية أو الدستورية أو النظريات الاقتصادية والسياسية) فلا يسمح حزب من الاحزاب لعضو انضوى تحت مظلته أن يخالف مبادئه بحجة أن عقله يأباها، أو دولة من الدول لبعض رعاياها أن يخرج عن سلطتها الدستورية والقانونية بنفس الدعوى أن عقله لا يرضاها . . أو أصحاب معتقد سياسي أو اقتصادي أن يؤمن أتباعه ببعض مبادئه ويكفرون ببعض بحجة التفنيد العقلي ..

وإذا كان هذا غير مقبول على مستوى العرف البشري، لا يقرونه لبعضهم أن يخرجوا عن دائرة المبادئ العامة للحزب أو الدولة أو الجماعة، فكيف باجتراء الخلق على الخالق في هذا الأمر بعد الإذعان والتسليم أن يجعلوا من عقولهم حكما على شرع الله، فيقبلوا منه ما اتفق مع أهوائهم، وينبذوا ما رفضوه!!

ثم تأتي قضية أخرى في تحقيق التوحيد بعد تحقيق الشهادة لله بالوحدانية والكفر بما دونه من الطاغوت، هذا التوحيد الذي أقرت له النفوس وخضعت لأمره القلوب، لابد له من تحقيق يكون الإنسان في عبادته واستسلامه للشرع على بينة من أمره، لا يكون كمن ذكر الله في كتابه “وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون” (يوسف)..

قال الشيخ ابن عثيمين في “شرح كتاب التوحيد” .. “وتحقيق التوحيد: تخليصه من الشرك ولا يكون إلا بأمور ثلاثة:

الأول: العلم فلا يمكن أن تحقق شيئا قبل أن تعلمه، فلابد من تصوره بعلمه، قال تعالى(فاعلم أنه لا إله إلا الله) (محمد).

الثاني: الاعتقاد: فإذا علمت ولم تعتقد، واستكبرت لم تحقق التوحيد.. قال الله تعالى عن الكافرين: (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب). (ص) . فما اعتقدوا انفراد الله بالألوهية.

الثالث: الانقياد: فإذا علمت واعتقدت، ولم تنقد لم تحقق التوحيد، قال تعالى(إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون. ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) (الصافات).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى