حوار: الكاتب العراقي خضير فليح الزيدي والكاتب الصحفي علي جبار عطية
عالم الثقافة | بغداد
- وهبتُ حياتي للكتابة الروائية
- لا توجد أمانة في الكتابة الإبداعية!
- أنا كاتبٌ ساخرٌ في الكتابة وجادٌ صارمٌ في الحياة
- أراهن على قوة الاشتغال المغاير للسائد في السرد الروائي
- علاقتنا مع الطعام في ظل الحصار أكبر رواية تاريخية ضد العالم كله وبؤسه
- ثمة نهضة روائية ولكن تعاني من تقليد تجارب غربية أو عربية أو عراقية أخرى وهذا يضر بها
حين التقيت الكاتب والروائي خضير فليح الزيدي تذكرتُ الصعاليك والمهمَّشين والمنسيّين الذين كتب عنهم في المحلات المعدمة التي عاش فيها بين أهلها.. هو كاتبٌ ماهرٌ، وساردٌ متميزٌ يلعب على المتناقضات، اتخذ من الهامش محوراً لكتاباته العابرة للتجنيس لكنَّ الهامش يتحول في يد الكاتب خضير فليح الزيدي إلى متن، والحبة يمكن أن تصبح قبة!.. ولد الكاتب خضير فليح الزيدي في مدينة الناصرية عام ١٩٥٨م . وأتمّ دراسته الابتدائية والثانوية فيها، ثم دخل كلية الفنون الجميلة في عام ١٩٧٦. وتخرج فيها عام ١٩٨١. ومن ثَمَّ تعيّن مدرساً للتربية الفنية في المدارس الثانوية ثمَّ عمل رئيساً لشعبة الفنون الأدبية في مديرية النشاط المدرسي في الناصرية.
هاجر إلى بغداد في عام ٢٠٠٩ لا سعياً للعيش اللائق في هذه المدينة الواسعة بل ليكون قريباً من حياة الناس في الأزقة الضيقة، والشوارع الخلفية للمدن البائسة وليعايش الذين لفظتهم الحياة فيكتب عن أحلامهم وتطلعاتهم وتكون حكاياتهم محوراً لحكاياته الشائقة التي لا تنتهي، وقد أصدر أولى رواياته (شرنقة الجسد) عام ١٩٨٤ثم أتبعها بروايات (ذيل النجمة)/ ٢٠٠٧، و(خريطة كاسترو)/٢٠٠٩، و(أطلس عزران البغدادي)/٢٠١٥، و(الباب الشرقي) /٢٠١٣ و(فندق كويستيان)/٢٠١٤ و( فاليوم عشرة)/٢٠١٦، و(الملك في بيجامته)/٢٠١٨، و(المدعو صدام حسين فرحان)/٢٠١٩، و(دع القنفذ ينقلب على ظهره)/٢٠٢٠، و(يوتيوب)/٢٠٢٢، و(صديقي المترجم)/٢٠٢٢ و(بنات غائب طعمة فرمان)/٢٠٢٣،كما له كتب سردية منها: (تاريخ أول لسلة المهملات عن رسائل الجند في الجبهات )/٢٠٠٩،و(تمر ولبن عن الحياة العراقية وتمثلاتها)/٢٠١١، و(سيد أسود باذنجان.. وقائع حياة الأخرس في كتاب الحصار)/٢٠١٣، و(ابن شارع.. عن الحياة خارج قفص البيت) /٢٠١٤،و(شاي وخبز.. حكايات البيت والأزياء والطعام في العراق /٢٠١٧ و(مملكة الضحك.. رحلة من باب المعظم إلى مستودع الهههاي)/ ٢٠٢١، و(رحلة الساعي)/٢٠٢١، و(فلان وفلتان)/ ٢٠٢٢ وغيرها.
وبرغم غزارة إنتاجه وتنوعه إلا أنَّ النقد لم يواكب هذا النتاج إلا قليلاً ومن ذلك رسالة الماجستير الموسومة بـ(أسلوبية السرد في روايات خضير فليح الزيدي) للباحث حسين علي مشحوت في جامعة بغداد – كلية التربية ابن رشد للعلوم الإنسانية – قسم اللغة العربية سنة ٢٠١٩، وكذلك دراسة بعنوان[اليهود في الرواية العراقية.. رواية (أطلس عزران البغدادي) لخضير فليح الزيدي أُنْمُوذَجاً (دراسة نقديّة)] للدكتورة إيمان أحمد إسماعيل التهامي (دکتوراه في الدراسات الأدبية النقدية) في کلية الآداب / جامعة الإسكندرية. أن تحاور كاتباً مثل خضير فليح الزيدي فهذا يعني أن تكون بمستوى لغته المدهشة، وهذا غير ممكن إلا إذا ضحّى هو بشيء من البلاغة، وأترك للقارىء تقدير ما حصل !
ألا ترى أن صدور روايتكم الأخيرة (بنات غائب طعمة فرمان) مناسبة تستحق الاحتفاء خاصة وهي تتزامن مع ذكرى رحيل الروائي الفذ في شهر آب؟
ربما هي المصادفة السعيدة التي جعلت أن يتزامن صدور روايتي الجديدة (بنات غائب طعمة فرمان) مع الذكرى الثالثة والثلاثين لرحيل هذا القامة العظيمة في السردية العراقية، الفقيد الكبير غائب طعمة فرمان. فالرواية تأخرت كثيراً في دار النشر العربية التي تبنّت نشر وتوزيع الرواية. ولكن لا بأس من هذه المصادفة ما دامت تعيد مجده التاريخي. أنا على المستوى الشخصي ككاتب أكنُّ أهميةً عظيمةً لهذا الرجل، أجده الأب الروحي للرواية العراقية بلا منازع. لم يأخذ استحقاقه من الانتشار أو حتى الاحتفاء به لا في العراق ولا في بقية البلدان كبقية أقرانه كنجيب محفوظ مثلاً. وعموما فالرواية تدخل في تفاصيل غائب طعمة فرمان لتعيد إليه استحقاقه الإبداعي.
لنبدأ من روايتك الأخيرة التي راهنت فيها على قوة الفن والمعنى. لماذا اخترت هذا الروائي الفذ بالذات لتستدعيه في الزمن الحاضر دون غيره، وإلى أي مدىً نجحتَ في رهانك؟
لا أعرف إلى أي مدى ستنجح التجربة وهذا الرهان في زمن انحسار القراءات والتجارب الجادة، والعلم أن الروايةَ صدرت حديثاً ، ولكن المراهنة كلها على قوة الاشتغال المغاير للسائد في السرد الروائي. الفن الحقيقي والمعنى هو استنباط جاء في وصف الرواية من كلمة الغلاف الخلفي لأحد القصاصين العرب عيسى جابلي يجد أنَّ هذه الرواية هي اشتغال فنّي دقيق والمعاني هي من حصة إدراك القارئ. فالأخير يجب أن ينال مكانته في استنتاج المعنى من هذه الرواية ويشترك مع الكاتب في الإنتاج الفكري. على المستوى الشخصي أجد أن هذه الرواية هي تتويج أخير لتجربتي الروائية. حاليا لا أفكر بكتابة رواية أخرى ربما كتبت الكثير من الروايات وعليّ أن ألتقط أنفاسي وأتأمل منجزي الشخصي قبل تقرير مصير الكتابة مجدداً. لقد اخترت غائب طعمة فرمان بعد تفكير ومناقشة ذاتية لاستعادته من جديد. الأمر الذي تطلّب مني البحث الدؤوب عما كل يخص حياته الشخصية والإبداعية. وصلت إلى بيته وصورته ونشرته قبل الشروع بالكتابة. بحثت حتى عن مكان نخلته والجيران وعن سليمة الخبازة. بنك معلوماتي هائل حصلت عليه في زيارتي إلى مكان الرواية “المربعة” وهي بالأساس منطقة سكن الكاتب ذاته.
ما سر اهتمامك بالمسحوقين والناس الهامشيين والمعدمين؟
أنا أنتمي لشريحتي الاجتماعية، فأنا ابن بار ووفي لهؤلاء من المسحوقين والهامشيين والمعدمين. أجدهم يمنحون الحياة طبيعتها من دون تكلّف. هم الواقع في الأدب الواقعي الذي اشتغل عليه غائب طعمة فرمان. هذه الشريحة هم نسغ الحياة التي تمنحه دينامية الدراما التي نبحث عنها في الفن الروائي. لك – يا عزيزي – أن تتخيل شكل الحياة العراقية من دون حمّالي الشورجة البسطاء والعفويين وباعة قناني الماء المُبّرد في التقاطعات المرورية والآخرين من هامش الحياة اليومية. هذا هو الواقع الأعم والأغلب وغيره ومن خلف الزجاج الأنيق حياة أخرى لا أعرفها وغير منتمٍ إليها قط.
وثَّقّتَ الأماكنَ المنسيةَ في بغداد فإلى أي مدىً كنتَ أميناً في ذلك؟
إنَّ الأمكنة الجغرافية هي انعكاس لمكان فنّي في الروايات. وهذا الأخير هو ما يلزم السرد في بنائه وتقنياته. أما كيف يتفاعل الكاتب مع المكان فتلك هي القضية التي يجب أن يخبرها قبيل الشروع في تحديد جغرافية المكان من الواقعي إلى الأسطوري. لا توجد أمانة في الكتابة الإبداعية. الأمانة ستجعل من العمل الروائي يعمل على فوتوغرافية ساذجة في تصوير الأمكنة بطريقة (الكوبي / بوست) وتلك عملية فاشلة، الأجدر من كل هذا أن يعمل الكاتب على أسطرة الأمكنة أي أنه يمنح المكان الدفق الحيوي لتصورات القارىء عنه حتى وإنْ لم يزره. الزمان والمكان والحدث وحدات بؤرية في البنية السردية وأي خلل في واحدة من هذه سيتقوض البناء ككل. في رواية (بنات غائب طعمة فرمان) تعاملت مع الأمكنة باشتغال جديد هو محاولة في الاقتراب من فنية المكان الأدبي لدى غائب طعمة فرمان واشتغالاتي الفنية السابقة وعسى أن نوفق في هذا.
أيّ من رواياتك الأقرب إلى نفسك (شرنقة الجسد)، (خريطة كاسترو)، (المدعو صدام حسين فرحان)، (ذيل النجمة)،(عمّتي زهاوي)،(أطلس عزران البغدادي)،(فندق كويستيان)، (فاليوم عشرة)، (يوتيوب)،(الملك في بجامته)، (دعْ القنفذ ينقلب على ظهره) أم (بنات غائب طعمة فرمان) ؟
وهل تسع نفسي للاختيار؟ أرى أن كل أعمالي تقف على خط واحد في (جامخانة العرض) وعلى استقامة واحدة. لا يمكن للكاتب أن يقيم تلك المفاضلة. أرى من وجهة نظر أكثر واقعية أن الأخيرة هي التي أخذت الوقت الأوسع من التجارب الأخرى. أربع سنين من العمل في رواية ليست بالمهمة السهلة.
فزتَ لأكثر من مرة بجائزة الإبداع العراقي، الجائزة الرفيعة، وهي حالة نادرة، فما الذي أعطتك الجائزة، وما الذي أعطيته لها؟
فزتُ بجائزة الإبداع لوزارة الثقافة العراقية لثلاث مرات غير متتالية. الأولى في عام ٢٠١١ عن رواية (خريطة كاسترو) ، والثانية في ٢٠١٧ عن رواية (فاليوم عشرة) ، والثالثة هي في ٢٠٢١ عن رواية (عمّتي زهاوي) . من الجميل أن تثبت قدرتك في بلدك وتعترف بك كاتباً في أهم جائزة في البلد ولثلاث مرات. بعض الكتّاب لا يهتمون للجوائز أو هكذا يتظاهرون، آخرون يتقاتلون على جوائز خارجية أكثر من جائزة وطنية بهذا المستوى. لكل كاتب رأيه المحترم ولكني أرى أن الجائزة الوطنية هي الأهم المطلق ولأسباب ذاتية ونفسية. لقد وهبت حياتي للكتابة الروائية وهذا سيجعلني مرتاح الضمير في (لحظة الحساب) .
في كتابك المذهل (سيد أسود باذنجان) سخرية مريرة من واقع الناس سنوات الحصار في التسعينيات فهل ترى أنَّ العراقيين بعد سنة ٢٠٠٣ ما زالوا يعيشون أجواء (الباذنجان) برغم بعض مظاهر الوفرة؟
نعم بالضبط ما زال الباذنجان حاضراً بقوة إنْ كان غائباً في دهاليز السياسة، وتحت قبة البرلمان فهو حاضرٌ بقوة في المدن العشوائية والحواسمية والتجاوزية. الباذنجان يا سيدي فكرة مريرة عن تاريخ الجوع والفاقة والعوز. ثمة رمزية عالية في كتابي هذا عمّا يعني أن تجوع لمدة سنين طويلة تحت طائلة عقوبات ليس لك ذنب بها. إلى غاية اليوم ثمة تأثيرات سيكولوجية للحصار الاقتصادي على بعض الشرائح ولولا مخافة الله لقدّسنا الموز والدجاج المشوي. علاقتنا مع الطعام في ظل الحصار أكبر رواية تاريخية ضد العالم كله وبؤسه.
هل وجدتَ في الضحك معادلاً موضوعياً لحالة البؤس والقتامة لتعبر عن ذلك بكتابك (مملكة الضحك)؟
أنا كاتب ساخر في الكتابة، وجاد صارم في الحياة. أن تسخر ذلك يعني أن تحتج. هذا هو أسلوبي الشخصي الذي وجدته مناسباً لأحتج على شكل الحياة من حولي. كل الصراعات التاريخية لا ذنب لنا فيها. لكننا كمواطنين سيقع اللوم والبؤس والموت لنا. الضحك من قهر الحياة وليس السخرية، فالأخيرة فيها من تهذيب لا ينسجم مع المأساة العراقية المزمنة. من أجل السخرية إن ضيعتني تجدني في منطقة “الهههاي” البغدادية أقصد طبعا الباب الشرقي معقل النكات العراقية الطازجة على الرغم من أنه فقد المزيد من مقومات السخرية، مات رعيل “السخرجية” الأول والأجيال الأخرى تقل موهبة عن الأولى ولكنها تمتاز بفكرة التحشيش الوافدة حديثا.
تقول في أحد منشوراتك :(لا طعمَ لمدن قط ليس فيها مجانين، يجوبون ميادينها كل صباح ومساء.. لا طعم لمدن مصنّعة بتقانة الحداثة والعمارة السامقة وهي من غير مشردين ومتسولين لحوحين وعابري سبيل غرباء) … أليس في هذا الرأي ثمة تعريض وانتقاص من الجهود المبذولة من أجل رفاه الإنسان؟
ـ بالنسبة لي لا أحبُّ المدنَ التي ليس فيها مجانين. ليس فيها متسولون ظرفاء لهم أساليب مبتكرة في التسوّل الحداثي. لا أعدُّ المدينة مدينةً من دون مخمورين أو غرباء ومقاهٍ شعبيةٍ، وتخوت وطقطقة استكانات الشاي والكذب المنهجي والمبالغات اليومية عن التاريخ في جلسات المتقاعدين. تلك مدن وهذه مدن فأي المدن تحب، ذلك رأيك وعليّ أن احترمه.
لكَ أسلوبٌ خاصٌ بك في جميع كتاباتك السردية والنقدية فهل نطمعُ في كشف سر ذلك؟
يجب أن يكون لي أسلوبي الخاص. فالكتّاب العراقيون كثر، ولابدَّ للكاتب أن يقف على رابية متفرداً بصوته السردي وعليه أيضاً أن يمرن نفسه على نقد الظواهر بطريقته الشخصية. هل تعلم أني احترم مهنة اللباخ والسمكري كثيراً؟ والسبب أنَّهما يبحثان عن الجمال بطريقتهما. اللبّاخ يساوي السطوح كما السمكري.
كيف ترى المشهد الروائي العراقي في العشرين سنة الأخيرة مقارنةً بما قبلها، وهل يمكن القول: إنَّ الصدارة تبقى عراقية؟
ـ المشهد الروائي والقصصي بخير. ثمة نهضة روائية ولكن تعاني من تقليد تجارب غربية أو عربية أو عراقية أخرى وهذا يضر بها. أقرُّ هنا بأنّ الرواية العراقية تطورت كثيرا، ولكنها من دون ملامح واضح البيان إلى غاية اليوم. أراهن على المستقبل القريب وعلى الحقل النقدي العراقي ليحدد ملامح الجمال والقبح في التجارب العراقية.