التوهيم و التأريخ برواية “ميدان التحرير – دنفر” للأديب: طارق حنفي
بقلم الناقد المغربي: حسن أجبوه
استهلال
رواية الأستاذ: طارق حنفي من نوع الروايات التأريخية – الاستباقية، مما يجعلها حدثا رمزيا منساقا لازدواجية سردية تمازجية ( ما هو كائن / ما الذي يجب أن يكون) وهي بذلك تنحو منحى التقريرية العليمة التي تبغي إماطة اللثام عن أحداث متوارية ومخفية بشكل استنباطي ممزوج بالميثا- مؤامراتية.
وهي بذلك تشكل نمطا متجددا باعتماد مقاربات وإحصائيات تاريخية مطعمة بحكايات و قصص من إبداع الكاتب.. في تجربة فريدة سواء اتفقنا أو رفضنا شكلها تبقى نتاج مخيلة الكاتب ومن صميم إبداعه.
بنية الرواية:
الرواية من الحجم المتوسط (٢٠٦ صفحة) تتكون من ٣١ فصلا، صادرة عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى ٢٠٢٢.
سيميائية العنوان والغلاف:
ينقسم العنوان إلى فرعين:
– أساسي (كبير): “ميدان التحرير-دنفر”
هو عبارة عن جمع فارقي بين فضائين، متباعدين غير متكاملين، بين حمولتين أيديولوجيتين متنافرتين شكلا ومضمونا: ميدان التحرير كمكان وسط القاهرة العاصمة المصرية، وهو ملتقى مروري وسط البلد، وقد ذاع صيته وارتبط ارتباطا وثيقا بالثورة..
وفضاء مدينة دنفر بولاية كولورادو الأمريكية، أكثرالفضاءات اكتضاضا من حيث السكان، وأعلاها عن سطح البحر..
فلماذا يا ترى تعمد الكاتب الجمع بين النقيضين؟
وما دلالات التركيب التعسفي الذي يجعل من نقطة تجمع صغيرة وسط مدينة ترتبط إجحافا باسم عاصمة ولاية كبيرة بالولايات المتحدة الأمريكية؟
هل هناك تشابه أو تكامل مخفي؟ أم مجرد توهيم مقصود أو لا إرادي عمد الكاتب إاثارته بقصد تشويقنا لما هو آت؟
– عنوان فرعي: “الفطرة البديلة”
الفِطرة لغةً: الخِلْقةُ..
الفِطرةُ اصطلاحًا: هي الطَّبع السَّويُّ، والجِبلَّة المُستقيمةُ التي خُلِقَ النَّاسُ عليها..
وقيل: هي سُنَنُ الأنبياءِ..
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ).
إذن ما المقصود بالفطرة البديلة أهي خلق بشري يبتغي تغيير الأساس الإنساني؟ أما هي بديل أو قناع يتجدد بتمظهرات الواقع؟
– الغلاف:
لوحة مقسمة لجزئين عموديا يغلب عليها اللون الأسود كناية عن اليل.. الجزء العلوي صورة تظهر على ما يبدو مقبرة بأفق ليلي، وجزء سفلي لصورة الميدان.. مع عنوان الرواية واسم الكاتب بلون أحمر إيحاء عن التوتر وسخونة الأحداث.
– الشخصيات والأحداث:
يمكن تقسيم الرواية لجزئين تبعا للأحداث والوقائع التي أرخت لها.
أ- قبل السفر:
في هذه المرحلة يكشف لنا الراوي عن بطله وهو شخصية مصرية (ابن بلد) أستاذ للتاريخ، تقاعد من التدريس الحكومي، لكنه ثابر وتمكن من الحصول على شهادات جامعية في اللغة الإنجليزية، مما أتاح له العمل بإحدى المؤسسات الخاصة لتدريس لبنات الفئات الميسورة.
البطل اسمه “عارف” وهي دلالة على الشخص المتمكن الملم بالأشياء، وبطلنا أستاذ للتاريخ، متمكن من أدواته المعرفية، متأصل في سيرورته، بل حتى أنه فاعل في مجرياته الراهنة ( بدليل تواجده رفقة شباب الثورة بميدان التحرير)
[استيقظت يوما لأجد الصندوق الخاص بي قد سرق.. في بداية الأمر، فكرت كثيرا في كيفية الحصول على صندوق جديد، لربما أستطيع أن أفكر خارجه مرة أخرى.. أما الآن، وقد فقدت الأمل في استعادته أو الحصول على واحد آخر، أجدني أنتهج أمرا جديدا، أنتهج الآن مبدأ التفكير دون صندوق، ربما يفاجئني القدر بشيء يدخل البهجة على نفسي ( ص ١٥).. تلك الثورة التي يعترف البطل أنها سرقت [.. ومرت الأيام، وسرقت الثورة، لا أحد يعلم كيف سرقت، كما لا أعلم كيف سرق مني صندوق أفكاري وأحلامي.. غادرت ميدان التحرير، وتوقفت الهتافات على طرف لساني وإن بقيت تتردد في عقلي.. ص ٢٤].
إن الإحساس بالغبن والإحباط، يترجمه البطل بالحنين المستمر إلى طفولته الحالمة، عندما دأب على صعود جبل “يشكر” ومعانقة أفق المنايا والأحلام بغد أفضل.
علاقة “عارف” بزوجته وأولاده علاقة تتسم بالروتين والكلاسيكية، فهو رجل ارتبط ارتباطا وثيقا بالأمكنة (الحاراتية) التاريخية، ووثق في توهجها رغم قسوتها، تعلق ببيت العائلة الذي نشأ فيه وربى ذريته على الاستمرار في عشقه ومحاورته.
إلا أن وقع حدث غرائبي متمثل في استدعائه لتحكيم مسابقة في القصة القصيرة بأمريكا! لكن ذهوله الناتج عن المفاجأة جعله يشك بادئ الأمر ليقرر استشارة صديقة “أمين” الذي اعتاد الاقتراض منه ليفصح له عن جدية القضية.
تتوالى الاحداث بالاستعداد للرحلة والمغامرة، في نصائح معلنة وانتظارات من الأبناء والزوجة لأنها أول مرة في حياته يسافر خارج البلد.
ب. أثناء السفر:
يتساءل وهو مستقل للطائرة عن الأسباب الخفية التي دفعت به للمشاركة بثورة يناير هل هي فعلا ما يظهر: فساد، رشوة، بلطجة، ادمان.. أم هو شيء داخلي يؤرق نفسية البطل: الخوف على مستقبل الأبناء (إنه الخوف على أولادي من أن يصبحوا ويمسوا على لا أدري ولا أهتم.. (ص ٥١)
ذكريات مشاهد ميدان التحرير، أظهرت الألفة والمحبة والإخاء بين المتظاهرين، وتجلت بوضوح معاني “الفطرة السليمة”.. (ص ٥٣)
لكن ورغم ذلك شيء ما، جعل “عارف” يشعر بوجود غلاف حول الميدان، كأنه أصبح مسرحا لتجربة ما، والمتظاهرون هم عيناتها، وأنهم مراقبون ويتم التحكم بهم عبر أوامر يبثونها إليهم عبر هذا الغلاف.. (ص ٥٤)
فتتحول بعض الوجوه الى غرباء، نظراتهم تحمل الكره.. (ص ٦١)
ج. بعد السفر:
فور الوصول لأرض دنفر، يلاحظ البطل أشياء غريبة (نصب موستانج أزرق مخيف..)
ومما زاد من ريبته موقع المكان الذي حدد له للإقامة فيه، قلعة محروسة بأسوار عالية، أكملها المستر جون المكلف باستقبالهم، والذي بمجرد وصوله طلب منه هاتفه المحمول بغية تفعيل شبكة محدودة.. ( ص ٧٣)
د. أثناء فترة التحكيم:
وبقاعة الاجتماعات يقوم السيد لوك بعملية التعارف بين المشاركين:
– البروفيسور جيمس أمريكي من أصل أفريقي، مسيحي كاثوليكي.
– سلطانة روائية مغربية مسلمة سنية المذهب.
– حسن قاص وروائي أذربيذجاني مسلم شيعي المذهب.
– رافا شاب أمريكي الجنسية، صحفي..
– ليليان شابة فرنسية، كاتبة وصحفية مسيحية بروتستانية.
وفي أثناء تواجدهم بالمكان تحدث انزياحات.. كأن يحاول جيمس معاكسة سلطانة، وتحاول ليليان استمالة ود السيد عارف..
سيقوم لوك بطرح عرض مغر أثناء حديثه للسيد عارف، حيث سيشرح له وبطريقة مريبة الغرض من تواجده معهم، وبأنهم مؤسسة دولية تسعى للتقريب بين الاديان والمذاهب.. وبأنه في حالة قبوله للصفقة سيضحي كاتبا مشهورا، وسيستفيد من الجنسية الأمريكية له ولعائلته، وبأجر شهري مقابل الترويج لأفكار السلم والسلام والتعايش بين الشعوب.. (ص ١٠٥)
وأثناء تقييم مواضيع القصص، اهتدى الحكام إلى أن بعض القصص تتحدث عن جرائم ومذابح قامت على أسس مذهبية، مؤلفوها ليسوا من نفس المذهب..
قصة بعنوان: مذبحة بارتوميليو (ص ١١٦) (من تأليف أ: طارق حنفي)
وأخرى بعنوان: مذبحة بغداد (ص ١٢٣) (من تأليف أ: طارق حنفي)
مما أجج نار الغضب والكراهية بين المحكمين الذين استماتوا في الدفاع عن عقائدهم..
وبعد نقاش مستفيض سيهتدي الجمع الى أن القتل والكراهية تحدث بين البشر بعضهم وبعض، بغض النظر عن المعتقدات..
وبعد أخذ ورد سيتضح أن رافا، اسمه الحقيقي رأفت مصري الجنسية، من شباب الثورة الذين فقدوا الثقة في الجميع، فأصبح ملحدا ضدا في تحكم رجال الدين..
بعدها سيستفيض الأستاذ عارف بحكم أنه أستاذ تاريخ في سرد وقائع وأحداث تاريخية تظهر بالملموس الجوانب المظلمة للحاكمين باسم الأديان واستبدادهم بالآخرين ممن يخالفونهم…
وسيتم بعد ذلك الاتفاق على القصص الفائزة.
وقبيل انتهاء العشرة أيام المخصصة لهم، سيبوح رأفت للأستاذ عارف بأسراره في حديث ثنائي، حيث سيكشف له بأن المسابقة ليست سوى واجهة لمنظمة مجهولة تسعى للتغلغل بين الشعوب للسيطرة عليهم (ص ١٧٠) عملوا على غسيل مخه، واستبدال أفكاره، وجعلوا منه كاتبا ذائع الصيت، وقد أصبح جاهزا لنشر الأفكار الجديدة بعد عودته لمصر..
و. قبل العودة لمصر:
طلب من الجميع، الاسترخاء واستكمال مدة العشرة أيام بعد نهايتهم من عملية التحكيم، وكان رأفت قد أسر لعارف بأنه بمجاورته استطاع أن يعيده لصوابه، ويتحقق من أنه قد تم استبدال أفكاره، وأنه جيء به خصيصا لإقناعه هو وسلطانة في حالة ما رفضوا عرضهم المغري..
كما اتضح لهم أنهم يستغلون فترة نومهم فيقومون بتخديرهم والتشويش على أفكارهم، ويعدلون ذاكراتهم، لذلك افترح رأفت على الأستاذ عارف النوم بوضع قطعة قماش على فمه وأنفه..
فاتضح أن ما أسره لهم رأفت كان حقيقيا حيث سيكتشف السيد عارف وهو يتصنع النوم، بأن المستر جون مرفوقا بعالم بوزة بيضاء، قد دأبا على وضع خوذة ما، بغية تعديل ذكرياته وهو الوحيد الذي استعصى عليهم إقحامه ضمن مشروعهم “مونارك” (ص ١٧٦)
عندها وبعد مقاومة الأستاذ عارف لهم، ومشاركته للسر مع سلطانة ورأفت وحسن، لم يكن بدا من انتقالهم للخطوة الثالثة، حيث تم وضعه افتراضيا بقاعة مظلمة مغلقة، معصوب العينين، و أجبروه للرضوخ للأمر، أو قتل سلطانة في حالة الرفض..
وهكذا ساير مخططاتهم لإنقاذها، وطالب الآخرين بمسايرتهم.
وهكذا تم إطلاق سراحهم، وتم التأشير على مغادرتهم دنفر، وفي المطار تصل الأستاذ عارف رسالة من ابنه عماد تكشف تفاصيل وألغاز عن إعادة بناء المطار ودور الجمعية الماسونية في ذلك.
وقبل الصعودة للطائرة جرت مشادات بين لوك والسيد عارف أفصح فيها عن بغضه وتمرده لما فعلوه له !
– خاتمة:
الرواية جاءت بأسلوب حكائي جميل، ممتعة التقنية بالاعتماد على معلومات دقيقة، وأخرى تخيلية، وفق سيناريوهات مشهدية سينمائية، وفق الكاتب في تناولها.
يبقى أن نتساءل كقراء للرواية عن مدى تأثير نظرية المؤامرة على الكاتب، ونتماهى معه ونطرح أسئلة لم يجب عنها:
– ما اسم وفحوى الكتاب الذي ألفه الاستاذ عارف والذي بموجبه تم اختياره ليكون ضمن المشروع؟
– كيف يعقل أن يسمح لهم بالمغادرة، وهم على يقين من مقاومتهم لمشروعهم؟
– وجود شخصين من نفس المذهب (عارف، سلطانة) غير موفق، كما كان بالإمكان أن يكون حسن عربيا وليس أذربيجانيا (من جنسية بحرينية أو عراقية أو لبنانية..).
– المجادلة التي وقعت بالمطار بين لوك وعارف غير مجدية وزائدة، فلا يعقل أن يتم كشف نفسه لهم ومع ذلك يتركونه يغادر؟ فالمفروض أنهم يتمتعون بسلطة مطلقة..
على العموم رواية شيقة وممتعة، تزكي غلبة الفطرة السليمة للإنسان على مختلف التوهيمات الذكية.
بالتوفيق والسداد.
️ حسن أجبوه
ابن أحمد، المغرب 07/06/2023