أدب

قراءة في غرفة بعين واحدة للشاعر عبد الغني المخلافي: مغامرة الذّات الشّاعرة في ذاتها وفي العالم

تذويت العالم وعولمة الذّات

بقلم: سمير بيه 

شاعر وقاص وناقد تونسي 
المقدّمة:
إنّ شاعر الحداثة حين يجترح قصيدته سيذهب بها إلى أقصى درجات الجدّة والطّرافة مستندا إلى مخزونه الثّقافيّ واختلاجات الذّات الشّاعرة ورؤاها في علاقتها بذاتها وبالعالم. فما تفرضه عليْها هذه التّحوّلات الكبرى التي تعيشها الإنسانيّة على جميع المستويات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والمعرفيّة كلّها تجعلها تعيش حركيّة داخليّة مرتفعة النّسق في إطار التّفاعل الإيجابيّ مع العالم. لذلك يسعى الشّاعر إلى تحفيز مكتسباته وأساليبه الإبداعيّة وتطويرها وتنويعها. من بين تلك الأساليب التي يعمد إليْها الشّاعر الاستنجاد بالنثر وتطويعه ليكون قادراً على بناء قصيدة جديدة تتخلّص من قيود المفاهيم التقليديّة للشعر. وهو ما لمسناه في هذه المجموعة الشّعريّة للشاعر اليمني عبد الغني المخلافي التي عنونها ب”غرفة بعيْن واحدة” التي سنسعى إلى تتبّع صوت الذّات في علاقتها بذاتها وبالعالم في تفاعل تتشعّب مساراته وصوره وتجلّياته. وبذالك يكون الشّاعر قد أسّس آفاقا جديدة للشّعر في مستوى الشّكل والمضمون تحفظ للتجربة حيويّتها وديمومتها. لذلك فالتّجريبيّة هي “المحاولة الدّائمة للخروج من طرق التّعبير المستقرّة أو التي أصبحت قوالب وأنماطا وابتكار طرق جديدة وتعني هذه المحاولة إعطاء الواقع طابعا إبداعيّا حركيّا”.

تذويت اللّغة الشّعريّة:
1- حضور ضمير المتكلّم الأنا:
إنّ الضمائر في الشعر الحديث لها طاقة كامنة يسعى الشاعر إلى تفجيرها لبناء حركة المعنى داخل نصّه. ويعتبر ضمير المتكلّم خاصّة من أهمّ السّمات التي تنبني عليها القصيدة، فالشّاعر لم يعد ناطقا باسم القبيلة بل هو ينطلق من ذاته الشّاعرة فيجعلها محور العالم بل هي القطب الذي يشدّ إليه كلّ الأشياء في هذا العالم بتفاصيله وجزئياته. وهذا ما ينسحب على هذه المجموعة الشعريّة، فالأنا المتلفّظة تمثل من خلال ملفوظها اللّغويّ فنراها مهيمنة على الخطاب الشّعريّ في جلّ القصائد.
أ- حضور ضمير المتكلّم في الأفعال:
يقول الشاعر في مقطع من قصيدة عنوانها “جبٌّ”:
لا أجدُ من حولي
ابتسامة دون دمعة
في كلّ يوم ألتقط كثيرا
من المواجع
أجتذب الكلمات بطريقة مواتية
أقوم وأقعدُ
أتحسّس صلعة رأسي
في بحر التّأمّلات
أبسط خيالي في قلب المجاز
ألج الأسئلة دون أجوبة
أطرق الفكر بلا رعونة
أنبش الماضي بتريّث
إنّ حضور ضمير “الأنا” في هذا المقطع بدا مهيمنا على الأسطر الشّعريّة فالأفعال بما لها من قيمة وأهميّة في اللّغة العربيّة فالفعليّة هي ضدّ السّكون والجمود، لذلك هي في هذا المقطع نراها تشي بتمكّن الذّات الشّاعرة من خطابها الشّعريّ الذي لم يعد مجرّد ملفوظ تلفّظتْ به لغاية تواصليّة فقط، بل تجاوز الخطاب ذلك إلى أرضيّة فنيّة خصبة بذاتيّة الذّات الشّاعرة وإرادتها في تجاوز الدّمع والمواجع كصورة أولى من المعاناة بجملة من الأفعال في صيغة المضارع المسندة إلى الأنا المتكلّم الذي يستعين بالكلمات والتأمّلات والأسئلة والخيال والمجاز والفكر. فحركة الذّات تنبع من حركة الأفعال وتتطوّر من انعدام الحركة(لا أجد) وتتدرّج إلى ارتفاع مستوى الفعاليّة من خلال أفعال: ألتقط/ أجتذب/أقوم وأقعد/أتحسّس/أبسط/ألج/أطرق/أنبش، فالذات الشّاعرة بدت فاعلة في عالمها الشعريّ قولا وفعلا، فسلاح الذّات هو الكلمات والتّأملات والخيال والمجاز والأسئلة والفكر والماضي وهي كلّها أدوات شعريّة تستمدّ منها الذّات الشّاعرة قوّتها وفعلها الإبداعيّ المؤثّر فيها وفي العالم حولها. وهذا النّموذج يتكرّر في عدّة قصائد من هذه المجموعة الشّعريّة وهو ما يدلّ على وعي الشاعر بأهميّة الفعل في إبراز قدرة الذّات على إعادة بناء العالم انطلاقا من رؤية ذاتيّة فاعلة.
ب- حضور ضمير المتكلّم في الأسماء:
يقول الشّاعر في قصيدة عنوانها” جموح “:
أيّها الوطن امسح غبار تعبي
أنا العائد من الغياب
بأوجاعي
وقلبي المنفطر
وقدميّ المتشقّقتين من التّسكّع
انهدّ قلمي
تصلّبتْ أصابعي
اجعل لي من صدرك بيتا آمنا
أنا المتفاني في محبّتك
لم أحظ بشفقة
أو رحمة منك
في هذا المقطع بدتْ الأسماء متعلّقة بالأنا/الذّات الشّاعرة شديد التّعلّق ومن خلالها استطاع الشّاعر أن يصوّر لنا معاناته التي تجلّت في هذه الأسماء(تعبي/أوجاعي/قلبي المنفطر/قلمي/أصابعي) كما أنّ ضمير الأنا المتكرّر في بداية المقطع ونهايته جاء ليربط بين هذه الأسماء التي بدت متلبّسة لألم الذّات الشّاعرة، فطاقة الإيحاء الكامنة في هذه الأسماء مكّنتها من التّعبير عن علاقتها بالوطن الذي هو ملاذها الوحيد من هذه المعاناة التي تجاوزت الذّات إلى رغبة في التحرّر والانطلاق بحريّة والإصغاء إلى اللغة والنّبض يقول الشاعر في المقطع الأخير من القصيدة:
أصغي إلى لغتي الحالمة
إلى نبضي الجامح
في وطأة الحبّ
تعبتُ من أحلامي البعيدة
وأيّامي الغائبة
ثمّة أسراب
من القصائد والأغاني
تبحث عن فضاء
فالذّات الشّاعرة من خلال هذا المقطع الأخير اهتدتْ إلى سبيل الخروج من أزمتها ومعاناتها عبر اللّغة والحلم والنّبض الجامح وهي أدوات الشعر بامتياز بل هي خلاص الأنا من غربتها وأوجاعها وآلامها وهي السبيل إلى الحريّة والشّعر والغناء.
خلاصة: خلاصة القول أنّ الشّاعر من خلال الأفعال والأسماء التي اختارها بعناية استطاع أن يتجاوز بعدها اللّغويّ المحض إلى أبعاد فنيّة رحبة جعلتها حمّالة للمعنى وموحية بالدّلالة عبر رؤية ذاتيّة من الذات الشاعرة في علاقتها بذاتها وبالعالم/ الآخر/ الوطن/الطبيعة…
2- بناء الجملة الشّعريّة:
أ- الجمل الاسميّة:
يقول الشاعر في مقطع من قصيدة بعنوان” افتراس”:
مدينتي غارقة في مجاري الدّم
يسري في مفاصلها اللّيل
وروماتيزم الحرب
(…)
هي الحربُ لن تموت
لن ترفع أنيابها أو سمومها
ويقول الشاعر في قصيدة أخرى بعنوان” عودة من جديد”:
الأشجار يعرّيها الخريف
ويطمرها الثلج في الشتاء
وتحتطبها الفؤوس بلا رحمة
الطّيور تغني وتبتهج
بعدما تعبث بأعشاشها الطبيعة
الحيوانات
تتزاوج وتتوالد
عندما يرحل الأبناء والأزواج
كما يقول في قصيدة أخرى بعنوان” نوافذ”:
القصيدة تحملني إلى المستقبل
تعود بي
إلى الأزمنة الغابرة
تقرأ خطوط يدي
تكشف لي الأحجية
تراقصني على جميع البحور
تدسّ في جيوبي الشّوكولا
تجلس عند أطراف سريري
تسرد القصص
والأخبار
تحضّر وجباتي بنغمة طيّبة
من خلال هذه النّماذج الثّلاثة نجد الشاعر يميل إلى اعتماد الجملة الاسميّة المركّبة التي قد تتوزّع على أكثر من سطر شعريّ وهذا ما قد يوحي بأنّ تلك اللّحظة الشعريّة قد استبدّت بالشاعر واستغرقت مشاعره وانفعالاته، فتجده بتوسّع أكثر في جملته الشّعريّة. لذلك يسعى إلى توظيف ما تحمله الجملة الاسميّة من قدرة على الوصف والتّصوير وهو ما سيقودنا إلى الحديث على الصورة الشعريّة لاحقا في عنصر منفصل. فالجملة الشعريّة من خلال تركيبيّة الجملة الاسميّة بدت مستغرقة لجزء من النصّ مثل النموذجين الأوّلين أو تنسحب على النص كاملا مثل النّموذج الثالث حيث بدت القصيدة كائنا حيّا يفعل فعله في الذات الشاعرة وفي عالمها فتؤثّر فيها تأثيرا واضحا.
ب- الجمل الفعليّة:
يقول الشاعر في قصيدة عنوانها”انتفاضة”:
على عزف المطر عاد الرّبيع، وعادت معه
أغاني العصافير
إلى الازدهار
يلزمني أن أرقص وأغنّي
كالعصفور
أنفض الغبار
وأرفرف فوق الشّجر
مع عودة المطر إلى التّساقط
والعشب إلى الاخضرار
اضحك يا قلبي
وأنت أيتها القصائد والسّنابل
أريد أن أطير
على أكتافي تهبط النّجوم
وتسكن الشّمس
تنطفئ الحرب، فيصدح السّلام
وينهزم القتلة
والخونة والمرتزقة والطّغاة
وينعم الشّعراء بالفنّ
تعود الصباحات
عامرة بالنّسيم
والنّهارات حافلة بالرّزق
تجفّ دموع الثّكالى
واليتامى والفقراء والمعدومين
ويسود رغيف الخبز
من خلال هذه القصيدة نجد أنّ الفعلين “عاد” و”عادتْ” وردا في صيغة الماضي، أمّا بقيّة الأفعال سواء المسندة إلى ضمير المتكلّم أو إلى ضمائر أخرى تعلّقت بعناصر الطّبيعة أو بالحرب والسلام أو باليتامى والفقراء وردتْ في صيغة المضارع، كما أن الجمل الفعليّة ذات بنية نحويّة تقليديّة(فعل+فاعل)أو(فعل+فاعل+متمّم) فالجملة الشعريّة بدت سريعة في تواترها سلسة في تدفّقها سهلة في تلقّيها وهذا يحسب للذّات الشّاعرة في اختيارها لهذا النّمط من البناء النّحوي. فصيغة المضارع بحث الشاعر من خلالها على تحيين الفعل الشعريّ داخل القصيدة وجعلها قريبة من رؤياه وأحلامه بتحقّق التغيير في الطّبيعة وفي الواقع الذاتي واليومي الذي يحياه ويتفاعل معه تفاعل ذات مبدعة تبحث عن التّحرّر والانعتاق.
تذويت الصّورة الشعريّة:
إنّ الصّورة الشّعريّة هي أساس العمليّة الشعريّة في الشّعر الحديث فكما أشار إلى ذلك الجاحظ في كتاب الحيوان بقوله “الشعر ضرب من الصّناعة وضرب من النّسيج وجنس من التّصوير”. فالشّاعر العصري يعي تماما أهميّة هذه الأداة في تصوير ما يراه ويسمعه ويشعر به. وهنا” تبرز الصورة الشعريّة بوصفها أداة كشف يتسلّل بها الشاعر إلى باطن النّفس ودهاليز الوجود المظلمة ليعرّيها ويكشف عن مكنونها. ومن هنا صارت الصورة الشعريّة في القصيدة الحديثة متّحدة مع الشّعر ذاته “فأصبح الشّعر هو الصّورة والصّورة هي الشّعر”. فكيف جاءت الصّورة الشعرية في ديوان “غرفة بعين واحدة”؟

1- الصّورة الحركيّة:
يقول الشاعر في قصيدة عنوانها” غرفة بعين واحدة”:
فوق سطح منزلي،
عند منتصف الليل
يبتسم القمر في تمامه
ثمّة طاولة فضائيّة بيننا
يسهب في الحديث،
لا أحتاج إلى ترجمة
أو دليل
لغته سهلة ومؤثّرة
تترك إحساسا رائعا
حيث الجميع في سبات
عدا نباح متقطّع وصفير
في الحقول
أكتفي بالتأمّل
أجد قلمي نازفا
في غرفة بعين واحدة
نرى من خلال هذا النّموذج الشّاعر يميل إلى تكثيف الأفعال التي تمنح الصّورة حركيّة وحيويّة لا سيما مع حضور صيغة المضارع، فالذات الشاعرة تبدو في أنسنتها للقمر عبر أسلوب التشخيص (يبتسم/يسهب) في علاقة انسجام تامّ مع هذا العنصر الطّبيعي وهو ما انعكس في الفعليْن(أكتفي وأجد)
2- الصّورة اللّوحة:
يقول الشاعر في قصيدة عنوانها”على مرمى البصر”
ثمّة سحابة تجهش بالبكاء فوق رأسي
ثمّة عصافير ترشقني بأغاني الرّبيع
ثمّة أنثى تحترق تحت رداء من الخوف
ثمّة نملة تختال فوق جدران منزلي
ثمّة قطّة تنسلّ تحت أرفف مكتبتي
وقطط تموء في قلب الكتب
ثمّة دجاجة تحتضن بيضها بعطف
في حوش منزلي
من خلال هذا المقطع الشعريّ يبدو الشّاعر كرسّام يرسم لوحته بتأنّ وتواز بين عالمه الخارجي وعالمه الذّاتيّ. فهي صور تتسم بالإيحاء والدّهشة رغم أنّ عناصر العالم الخارجي(سحابة/عصافير/نملة/قطّة/ قطط/ دجاجة) تسيطر على عالم الذّات الشاعرة من خلال عناصره(رأسي/ترشقني/منزلي/مكتبتي/ حوش منزلي) فالوصف في هذه اللّوحة واضح والشّعر يوظف ذلك لرسم لوحته الشّعريّة.
يقول الشاعر في قصيدة أخرى بعنوان” مرايا الفجر”
المطر يهطل داخلي
وجيش الليل على التّخوم
أتربّع كالمعتاد
أجوب البعيد
أرصد فكرة عابرة
في طور القلق
أهبط وأعلو
كمنطاد يبحث عن وجهة
كطير فقد سربه
كغريب عند مفترق الطّرق
أتلمّس الهوان الغافي
على وجوه القرى يتناهى إليّ ضجيج الأطفال
وأصوات الدرّاجات الناريّة
بعدما اختفت العربات
ربما نركب الدّواب
فوق ظهر الوطن
لا شيء يذهب إلى الأعلى
أبدو أكثر بهجة من غيري
أخلق عالمي الضاجّ بالمتعة
أغنّي كعصفور في صباح مبتهج
أجسّ النّبض في قلب الصّخور
تبدو الذّات الشّاعرة في هذا المقطع من القصيدة في تناغم مع عالمها الخارجيّ رغم شعورها بالقلق والضّياع، ففي علاقة الذات بالعالم يحدث تحوّل فمن الليل والرّصد والهبوط والعلو والضياع والغربة إلى الخلق والمتعة والغناء والابتهاج. وفي آخر القصيدة نجد الذات الشاعرة في موقف فاعليّة وقوة(وأفتح أبوابي على الفجر) فالذات الشاعرة تنتقل من ذات متأثّرة إلى ذات مؤثّرة في العالم حولها ويحدث ذلك عبر جملة من الأفعال المتوالدة من بعضها البعض الواردة في بقية القصيدة(أقول/أصنع/أشمخ/أبدّد/أحشد/أبعث/أقيم/أستمسك/أستظلّ/أدعو/أفتح).
تذويت المعنى: subjectivation du sens
إنّ المعنى لا ينفصل عن الشّكل فهذا مجرّد فصل إجرائي فالشاعر فيما يطرحه من مواضيع وقضايا وأفكار يختار الشكل المناسب للتّعبير عن كلّ ذلك. فالمعنى بالنّسبة إلى الذات الشاعرة لم يعد متعلّقا بالآخر بعيدا أو منفصلا عنها وعن همومها ورؤاها، بل صار أكثر اقترابا منها ومن عالمها الدّاخليّ وهو ما ينعكس على علاقتها بالعالم.
يقول الشاعر في قصيدة عنوانها” عناية” :
لديّ من القصائد ما يجعلك
حافلة بالعناية:
قصيدة نبيذ توصلكِ
إلى الثمالة
قصيدة طعام تملأ عروقكِ بالأغذية
قصيدة صوف تقيكِ
الصّقيع
قصيدة رياش يتوسّدها رأسكِ
قصيدة قطن
يفترشها جسدكِ
قصيدة نجم تأخذكِ إلى السماء
وقصيدة تقبل أن تكون قلم حمرة
ومرآة مفاتنكِ
شريط جدائلكِ الذهبية
ستيان نهديكِ النافرين
وأخرى فائضة عن حاجتكِ
يبدو الشاعر في علاقته بالمخاطبة(أنتِ) متفرّدا بحالة طريفة فهو يقترح بل ويُلحّ في هذا المقترح على اعتماد وسيط بينهما وهو القصائد/الشعر، فهو لديه قصائد صالحة لكلّ شيء بل لتلبية كلّ ما تطلبه المخاطبة ويزيد عن حاجتها. فهي علاقة جديدة تبنيها الذّات الشاعرة بجعل عالم المخاطبة بأشيائه يرتدّ إلى إبداعها الشعريّ حصريّا، فلم يعد لهذا العالم وجود خارج القصيدة بل خارجا عن الذّات.
يقول الشاعر في قصيدة عنوانها”مصافحة”:
بجراح الغربة المثخنة
أتحسّس وجه الوطن المتعب
أحاول أن أستعيد
أجنحتي المفقودة
ثمّة فضاء واسع
يدعوني إلى التّحليق
ذاك الذي قاسمته نشوة البوح
كلما ضاق صدري
ظننته نافذتي
غدا نحوي خنجرا
وقنبلة كامنة في طريقي
من خلال هذا المقطع بدا العالم الشّعريّ مستسلما للذّات الشّاعرة خاضعا لسلطتها فالوطن والأجنحة والفضاء الواسع والصدر والنافذة والخنجر والقنبلة والطّريق الجامع بينها هو الذّات السّاعية إلى تجاوز الغربة والتعب والفقد والضّيق والغدر والموت من خلال فعلها الذّاتيّ وبذلك تمنح العالم معنى جديد هو حضور الذّات المتجاوزة الفاعلة الباحثة على استعادة الحريّة وهو ما يعني استعادة معنى الحياة ذاتها.
خاتمــــة: إنّ مقاربتنا لقصائد هذه المجموعة جعلنا نقرّ بأهميّة هذا المنجز الشّعريّ، فهو يشي بمدى تراكم التّجربة المعرفيّة للشّاعر عبد الغني المخلافي ونجاحه في إدراج المتلقي في عوالم الذات الشاعرة التي كانت تخوض مغامرتها الشعريّة بشغف الإبداع وإصرار التّجاوز، وهو ما انعكس على علاقة الذّات الشاعرة بذاتها وبالعالم، فالعالم صار يتحدّث بلغة الشاعر وأحاسيسه وانفعالاته ورؤاه، فصرنا نراه عبر هذه الذات المعذّبة المحاصرة بغربتها وأشواقها الباحثة عن الانعتاق والتحرّر عبر نافذة الكلمات. فالعالم خاضع في تحولاته إلى سيرورة الذات الشاعرة في تحولاتها. ومن هنا كما يرى أدونيس يصبح الشعر”سحرا يُحني العالم ويهزّ التّاريخ، يخضّ الأيام يصير أصابع سحرية تلتقط الأشياء وتحوّلها على هواها يصير لهبا وتحوّلا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى