انطباع عن ملتقى المرجعية الدينية
الدكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام|الجزائر
أشرف المجلس الإسلامي الأعلى (الجزائر) بالتّنسيق مع جمعيّة التّراث (القرارة، غرداية، الجزائر) على ملتقى علميّ مهمّ في مقرّ المجلس الإسلامي بالجزائر العاصمة يومي الأحد والإثنين: 15و16 من ربيع الثّاني 1445ه/ 29 و30 من أكتوبر 2023م . عنوان الملتقى: “المرجعيّة الدّينيّة والوَحدة الوطنيّة لدى علماء الجزائر”.
الموضوع مهمّ جدّا، جاء في الوقت المناسب؛ لأنّ ما يحدث في المجتمعات الإسلاميّة من اضطرابات وقلاقل وفوضى في المعتقدات والسّلوك، هو نتيجة حتميّة أو مباشرة لعدم وضوح المرجعيّة الدّينيّة عند بعض النّاس، خاصّة عند النّاشئة والشّباب، بل إنّ بعض المظاهر التي تسجّل عن بعضهم هي متناقضة مع الأصول، إن لم تكن مناوئة أو مناهضة للمبادئ..وهي مخترقة من جهات كثيرة، ومن تيّارات متعدّدة، إضافة إلى نقص في فقهها ووعي حقيقتها ودورها في الحياة العامّة الآنيّة والمستقبليّة..كما أنّ الوَحدة الوطنيّة مهزوزة في النّفوس، مضطربة في السّلوك، مهاجمة من المغرضين والمرجفين.
الحياة السّويّة والطّبيعيّة تطلب وتنشد الاستقرار والأمن والثّبات لكلّ ذلك كان إقامة هذا الملتقى العلمي واجبا دينيّا ومطلبا وطنيّا قوميّا وضرورةَ حياة ومن أجل معالجة الموضوع، وتحليل المواقف، وعرض المعطيات التي تخدمه، وتقديم الحيثيات التي تساعد على وعيه وفقه كنهه ومعرفة أساليب تصحيح المسار، ووسائل ضبط المسير والتّوجّه نحو المصير السّليم؛ انطلاقا من العقيدة الصّحيحة والمبادئ الرّاسخة ومرافقة العناصر التي تحقّق المأمول من أجل كلّ ذلك عُرِضَفي الملتقى نموذج عملي غنيّ مكين رصين هو: سيرة الشّيخ محمد بن بابا بن حمّو الشّيخ بالحاج (ابن الشّيخ) رحمه الله.
من عرض مسار حياته وآثاره ومواقفه وجهوده وآرائه التي ظهرت في تدريسه ودروسه وكتاباته ورسائله وتقاريره ومذكّراته ورحلاته وتواصله مع العلماء والأعلام، ومن تفاعله مع تلاميذه و غير ذلك من خلال ذلك كلّه تُستقرأُ شخصيّته، وتُقرأ آراؤه، وتستنبط أحكامه، وتدرك مواقفه لـهذا اجتهد الباحثون المشاركون في هذا الملتقىفي البحث عنه في آثار الشّيخ، ليقدّموه نموذجًا للمحورين الكبيرين المهمّين اللّذين تضمّنهما عنوان الملتقى، ودفعهم برغبة شديدة إلى البحث في أعمال الشّيخ، والحفر في شخصيّته، والنّحت في آثارهالمتنوّعة..؛اتقديمأعمال تخدم شخصيّة الشّيخ، وتدلّالنّاس على قواعدَ في العمل البنائي للشّخصيّة الإسلاميّة والوطنيّة، وتفيد الشّباب بضوابط في التّعرّف على المرجعيّة الدّينيّة الأصيلة والوَحدة الوطنيّة الحقيقيّة المنشودة.بعون من الله توفيقه سارت مجريات الملتقى في أحسن ما يرام؛ تحضيرا وتنظيما وتسييرا لجلساته العلميّة، وتهيئة الظّروف المناسبة لنجاحه..
كان الملتقى متميّزا بالبحوث العلميّة الرّصينة المركّزة التي أحاطت -بنسبة كبيرة- بشخصيّة الشّيخ ابن الشّيخ العلميّة، والمناقشات العميقة التي أعقبت المحاضرات، وتفاعل الحاضرين مع ما دار في القاعة،وما جرى في اللّقاءات الهامشيّة: الثّنائيّة والجماعيّة فقد تناول المشاركون الشّيخ محمد بن بابا: فقيها، ومفتيا، ومعلّما، ومربّيا، ومؤرّخا، ومفسّرا… كما درسوه رجلًا عَلَمًا أسهم في معالجة بعض القضايا الاقتصاديّة، والمسائل التّاريخيّة، والانشغالات الوطنيّة، وفي تَنَاوُلِ عناصر في الوَحدة بين المسلمين، ودورها في الجانب الاجتماعي الذي ارتبط بها منذ شبابه إلى أن ألزمه المرض البقاء في البيت مدّة ستّ عشرة سنة (16).
لم يغب في هذا الملتقى سردُ الخصائص التي تـميّز بها الشّيخ ابن الشّيخ، التي منها: الجدّ والصّرامة والانضباط والشّجاعة والجرأة في الصّدح بالحقّ، والحرص الشّديد في التّعليم والتّكوين؛ في معهد الحياة مدرّسا، وفي المسجد واعظًا، وفي المجتمع مرشدا، وفي كلّ مناسبة تتاح له ليقدّم علما أو نصيحة أو نقدا أو رأيا أو يعلن عن موقف.. والتّفاني في خدمة المجتمع بصدق وإخلاص ودأب لا يعرف الكلل والملل.
ممّا أفدناه من هذا الملتقى -في الدّرجة الأولى- اكتشاف شخصيّة الشّيخ محمد بن بابا، متعدّدة التّخصّصات علميّا، ومتنوّعة المميّزات صفات وخلالا، مع غزارة العلم وسعة الاطّلاع وتنوّع المعارف وعمق التّفكير ومتانة الأسلوب في الكتابة..
استقبلت اللّجنة العلميّة أكثر من ثلاثين عملا علميّا حول شخصيّة الشّيخ محمد بن بابا الشّيخ بالحاج، ووافقت عليها، لكنّ ما عرض كان أربعة وعشرين بحثا فقط في ستّ جلسات علميّة، الباقي اعتذرت اللّجنة لأصحابها عن تقديمها؛ نتيجة ضيق الوقت، لكنّها ستكون من مشمولات كتاب الملتقى إن شاء الله. يضاف إلى كل تلك الأعمال بحوث تقدّم في القرارة – مسقط رأس الشّيخ – أيّام: 1، 2، 3 نوفمبر بإذن الله، تكون مكملّة لأعمال الملتقى في العاصمة..
هذا الملتقى المهمّ كشف عن قوّة في الجانب العلمي، وإحكام في التّنظيم، وتفاعل كبير من الجمهور الحاضر مع ما دارفيه..فالحمد لله أوّلا وأخيرا، والشّكر للمجلس الإسلامي الأعلى لإشرافه على الملتقى، ولجمعيّة التّراث التي تحمّلت الأعباء الثّقيلة فيه: بداية من اقتراح فكرة الملتقى، مرورا بالتّحضير العلمي والتّنظيم، ثمّ في متابعة كلّ صغيرة وكبيرة فيه، والشّكر يشمل أيضا كاّمن أسهم في سيرورة الملتقى من الشّباب ورجال التّضحيّة، خاصّة جنود الخفاء من جمعيّة الاستقامة بالعاليّة (الجزائر العاصمة)، والنّاشطون المخلصون في القرارة، وكذا مؤسّسة الضّياء (غرداية)، التي أسهمت في تغطية مجريات الملتقى إعلاميّا باحترافيّة عالية، وبثّه ليتابعها من لم يتمكّن من حضورها في القاعة.. والشّكر موصول للمحسنين الذين أنفقوا من أموالهم ما غطّى متطلّبات الملتقى، ولكلّ من كانت له يد في إقامة الملتقى، مهما يكن هذا الإسهام.
كلّ هذه الجهود هي لإعلاء كلمة الله والتّمكين لدينه في الأرض، ولخدمة العلم والوطن، وللوفاء لعلمائنا ومشايخنا..من بينهم أستاذنا ومربّينا ومعلّمنا الشّيخ محمد بن بابا الشّيخ بالحاج رحمه الله وأسكنه فسيح جنّاته. ووفّقنا للاقتداء به في خلقه وعلمه وخدمة الصّالح العام..
الجزائر يوم الثّلاثاء: 17 من ربيع الثّاني 1445هجرية – 31 من أكتوبر 2023م