فكر

الترجمة ومآلات المدلول والمعنى

بقلم: عماد خالد رحمة | برلين

يقول الروائي والناشر الصحفي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز Gabriel García Márquez (6 آذار 1927 ـ 17 نيسان 2014) إنَّ الترجمة مهنة شاقّة جداً، لذلك فإنّهُ يكنّ إعجاباً وحباً خاصاً بالمترجمين، لأنَّ الترجمة الجيدة المتزنة هي إعادة خلق للنص من جديد بلغةٍ أخرى. إنّه يُبدي إعجاباً خاصاً، واحتراماً خالصاً بمترجم أعماله إلى اللغة الإنجليزية، غريغوري راباسا Gregory Rabass، أمريكي الجنسية كولومبي الأصل، لأنه المترجم الوحيد الذي لم يطلبْ توضيح أمرٍ ما أو الاستفسار عن مدلول كلمة واحدة، كي يضع له هامشاً في الترجمة، على خلاف مترجمي أعماله إلى عدّة لغات أخرى التي بلغ عددها العشرات، واستطراداً لهذا الموضوع يرى غابرييل غارثيا ماركيز أن آثاره الروائية أُعيد خلقها من جديد بشكلٍ تام باللغة الإنكليزية.
أمّا (نورمان شابيرو Norman Shapiro) فيقول: (إنَّ الترجمة محاولة جادّة لإنتاج نص نقي وشفاف لدرجة لا يبدو معها أنّه نصٌ مترجم. إنما الترجمة الجيدة أشبه بلوحٍ من زجاج نقي لا شوائب فيه، لا نلاحظ أنه موجود إلا إذا كانت فيه شوائب صغيرة، كالفقاعات الصغيرة والخدوش. ومن الناحية المثالية لا يجب أنْ يكونَ ثَمة شوائب على الإطلاق). كل لك لأنَّ الترجمة تعبِّر تمام التعبير بلغةٍ أخرى عما كُتِبَ بلغة المصدر مع الحفاظ التام على الخصائص الدلالية لكلمات ومفردات النص.
الجدير بالذكر أنَّ الترجمة عُرِفَت منذ أقدم الحضارات الإنسانية، فقد ارتبط تاريخها بتاريخ وجود الانسان، وكانت الطريق نحو تمازج الثقافات وتلاقح الحضارات وآدابها ومواقفها السياسية والتجارية والثقافية، فلولا عمليات الترجمة التي جرت في وقتٍ مبكِّر لما ازدادت الحضارات الإنسانية تألقاً وازدهاراً وعطاءاً، كما كان للترجمة دورٌ كبيرٌ في نقل العلوم والمعارف من حضارتنا العربية إلى الغرب وبالعكس.
إذ بفضلها تم الاطلاع على الحضارة اليونانية القديمة ونقلها إلى العربية، ونقل الحضارة العربية إلى الحضارة الغربية، ولولا الترجمة لما كان هناك بزوغ للحضارة الغربية التي نهلت من الحضارة العربية والإسلامية لتنطلق وتصل إلى ما وصلت إليه من تقدم وازدهار ورقي. فقد لعبت الترجمة دوراً كبيراً في الاطلاع على ثقافات الشعوب والتي بدورها ساهمت في عملية التواصل ونسج المزيد من العلاقات بين البشر. لذا فالترجمة هي صياغة تعبيرية عن كل نشاط توضيحي، فعملت وما تزال تعمل على الحفاظ على لغة المصدر والخصائص الأسلوبية والدلالية للنص المنقول، فكل نشاط توضيحي معبِّر، هو ترجمة بطريقةٍ أو بأخرى، وكل مظهر للتوضيح والصياغة والتعبير عن المشاعر أو العواطف أو الأفكار والأحاسيس يمكن أن يترجم إلى حركات جسدية وإيماءات. فكل تعبير بالكتابة أو القول ترجمة، وكل ترجمة ليست سوى محاولة للتوضيح والإفهام، والأفهام جاءت بعد عملية عقلية هدفها محاولة للفهم. فالكتَّاب والأدباء والمبدعون والمترجمون والمتلقون ليسوا متساوون في القدرة على الفهم والتأويل والاستيعاب، حتى وإن كانت النصوص بلغاتهم (الأم) الأصلية. والمترجم فيما نحن عليه يحاول جاهداً أن يقيم بناءً لغوياً آخر بكلماتٍ وجمل وتراكيب وصيغ أخرى، يفرضها كلها اختلاف طبيعة ومنهج اللغتين، ومعرفة جيدة بالمخزون اللغوي وبالثقافتين، والقدرة على وضع المعلومة في نصابها وقدرته العالية على التصرّف. ولأنَّ الترجمة فعل تواصل وعملية فهم وإفهام وعملية عقلية، فإنَّ سلوك المترجم وتصرفه لن يكون إطاراً لغوياً فحسب، بل يقوم المترجم بعمل إبداعي جديد في لغةٍ جديدةٍ لها خصائصها ومميزاتها، وإن كان بوحيٍ من عمل آخر، من هنا نجد تفاوت القدرات والإمكانيات عند المترجمين بقدر تفاوت مستويات ثقافتهم وعلمهم وتكوينهم المعرفي.
الجدير بالذكر إنَّ عمل المترجم الحقيقي يتمثل مبدئياً في نقل الدلالة أو المعنى من لغةٍ إلى أخرى. لذا فالترجمة حسب قول الشاعر والفيلسوف الفرنسي بول فاليري Valéry Paul هي: (إنتاج آثار مماثلة بوسائل أخرى مختلفة). كما أنَّ الترجمة حسب الكاتب واللغوي والمترجم الأمريكي إليوت واينبرغر (ليست استلاباً كما يتم الزعم في كثير من الأحيان، فهي شكل من أشكال الاستماع الذي يغير كيف تتحدث فيما بعد). لم يتوقف الرأي حول الترجمة عند هؤلاء بل تعداه للوصول إلى الكاتب الإيطالي أمبرتو اكو (Umberto Eco)‏ (5 يناير 1932 – 19 فبراير 2016م) الذي قال عنها: (الترجمة هي فن الفشل). كما يقول الأديب والمؤرّخ والعالِم العربي في الفقه الإسلامي واللغة العربية ابن منظور (1232 م – 1311 م) ‏ مؤلّف معجم لسان العرب الشهير، (إن ترجمة الكلام تعني نقله من لغة إلى أخرى). لذا فقد ميّز الفيلسوف المغربي، المتخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق. طه عبد الرحمن في كتابه الهام: (فقه الفلسفة والترجمة) الصادر عام 1995 في القاهرة بين ثلاثة أنواع من الترجمة: الترجمة التوصيلية: الهادفة إلى توصل المعنى إلى القارئ بأسلوب شيِّق بسيط وواضح. ثم الترجمة التأصيلية: التي تقوم على تأصيل النص المنقول في الثقافة المستقبلة ليصبح جزءاً هاماً منها. والترجمة التحصيلية: التي يتم فيها تحصيل معاني المفردات والجُمَل بالشرح والتلخيص والتوضيح. هذا الكتاب أيضاً يجمع بين رتبة الفقه الشرعي ومكانة الفلسفة بين المنطقي والعلمي، وعرّفه بكونه العلم الذي: ينظر عميقاً في الفلسفة من حيث هي جملة واسعة من الظواهر السلوكية والخطابية. حيث أنَّ الترجمة ليست نقلاً لمقولة ما، أو للمادة الصوتية أو للمظهر المادي للرموز والإشارات والدلالات اللغوية، الدال وإنما هي نقل دقيق للمعنى أو المدلول. ذلك أنَّ كل نظام لغوي وملحقاته يشتمل على تحليل خاص به لظواهر العالم الخارجي بكل تنوعها، يختلف عن اللغات الأخرى والثقافات الأخرى، وحتى عن مراحل متعدِّدة أخرى من مراحل اللغة نفسها.
وهذا النظام اللغوي بكل تكوينه ينتقل إلى الأجيال اللاحقة فارضاً عليها تفسيراً محدّداً ومعيَّناً للظواهر غير اللغوية. من هنا وجب شرح المفاهيم والمصطلحات أولا في الترجمة وتقديم الفكر والمعرفة في إطار نَسَقِهِ الثقافي والمعرفي ثم البحث عن مصطلحات تناسبه وتلائمه في اللغة المنقول إليها، مما يحتِّم على المترجم استخدام أشكال التنويع في الترجمة للوصول إلى الهدف المنشود.
ما سبق يدفعنا للحديث عن أنواع الترجمة. فقد كتب الكاتب الروماني والخطيب في روما القديمة ماركوس توليوس سيسرو (Marcus Tullius Cicero) أو شيشرون (Cicero)، ولد سنة 106 ق.م، صاحب إنتاج ضخم، كتب عن الترجمة الحرَّة (ترجمة المعنى)، والترجمة الحرفية أي (ترجمة الالفاظ)، وكان القديس إيرونيموس أو القديس إيرينيموس أو القديس جيروم St. Jerome (واسمه بالكامل هو سفرونيوس يوسابيوس أيرونيموس) من أعظم آباء الغرب في تفسيره للكتاب المقدس يعتمد الترجمة الحرفية في ترجمة الكتاب المقدس باعتبارها نصوص أمينة، في حين أنَّ الشاعر الغنائي والناقد الأدبي اللاتيني الروماني كوينتس هوراتيوس فلاكس أو هوراس Qvintvs Horativs Flaccvs وصاحب رسالة فن الشعر قد كان أكثر انفتاحا عليه حيث كان ينظر الى الترجمة على أنها تفاوض، وأنها خلق جديد للنص في صورة نص آخر داخل سياق لغوي ولفظي وثقافي ومعرفي مختلف، له خصائصه ونظامه وأساليبه ونهجه وصورَهُ. وهذه الثنائية: الترجمة المباشرة والترجمة الحرفية معروفة جداً حتى في تاريخ لغتنا العربية، حيث يقول أَبُو عُثْمَانْ عَمْرُو بْنْ بَحْرْ بْنْ مَحْبُوبْ بْنْ فَزَارَة اَللَّيْثِي اَلْكِنَانِي اَلْبَصَرِيَّ المعروف بِالْجَاحِظِ (159 هـ-255 هـ)، (لابُدَّ للترجمان أن يكون بيانَه في نفس الترجمة وزن في نفس المعرفة، وينبغي بل يجب أن يكون أعلم الناس باللغة المنقول إليها، حتى يكون فيها سواء وهدف وغاية). ويضيف دلالة اتقان اللغتين حيث إن (كل واحدة تجذب الأخرى وتأخذ منها وتقترض عليها).
كان وما يزال تأثير الترجمة كبيراً في تاريخ الشعوب، مما دفع العديد من الباحثين المتخصصين لتصنيف الترجمة ضمن اتجاهين إثنين أولهما: الترجمة التواصلية التي تهتم بشكلٍ كبير باللغة وجمهور النص المترجم والهدف من النص، وهو الذي دفع أحد الباحثين إلى التمييز بين التكافؤ المرن الديناميكي الذي يمكن اعتباره الترجمة غير المباشرة، والتكافؤ الشكلي والترجمة المباشرة. فالترجمة غير المباشرة التي تسعى إلى ترجمة معنى النص ومدلوله لها أربعة أنواع: منها:
أولاً: التعديل وهي طريقة ووسيلة يلجأ إليها المترجم عندما يجد أنَّ الترجمة المنقولة أو الحرفية التي قد تفضي في الهدف واللغة إلى عبارة صحيحة نحوياً والتي تتناسب مع علم الصرف وهي لا تتناسب مع روح اللغة وطرائق الشرح والتعبير فيها. ولا تقوم على التغييرات الشكلية في أنواع النصوص، وإنما على التغيير الجاري في الرسالة ذاتها. بمعنى أنَّ التعديل يساهم في تصعيد الفكرة.
ثانياً: الاستبدال أو النقل أو التي تعتمد على الانتقال من فئة نحوية ـ صرفية إلى فئة أخرى دون تغيير في معنى أو مدلول النص، بمعنى استبدال جزء من الرسالة (الاسم أو الصفة أو الفعل أو حرف الجر) بجزء آخر دون أن يؤدي ذلك إلى ضياع في المدلول أو المعنى ولا إلى تغيير في مضمون النص. ويعتبر النقل وسيلة من داخل إطار اللغة الواحدة. حيث يحق للمترجم في تلك الحالة استبدال الجمل الفعلية بالجمل الأسمية. ويمكن أن تندرج في سياقه حالتان خاصتان هما الترجمة بالزيادة أو النقصان أو التبديل الثابت، حيث تتم زيادة كلمة واحدة أو نقصانها لأداء المعنى أو المدلول.
الجدير بالذكر أنه تجدر الإشارة إلى أن التعديل يمكن أن يكون إلزامياً أو اختيارياً. ويمكن التمييز بين التعديل الذي يطال التعديل في القواعد النحوية والصرفية، والتعديل الذي يتناول المفردات.
ثالثاً: التكييف والاقتباس: هذا النوع من الترجمة له خصوصية كبيرة حيث أنه يقع بين الترجمة والإبداع كونه يقوم على التعبير والتفسير عن موقف في اللغة التي هي المصدر الأول والأساس والتي لا وجود له في اللغة الهدف أو الغاية، وذلك بالعودة إلى موقف مشابه جرى مثيل له في السابق يمكن أن يؤدّي الغرض المنشود. أيضاً فالتكييف والاقتباس هو نوع من المقابلة والمعادلة لكنه فقط على صعيد الموقف أو الحالة. وتتسم حالات الاقتباس بالتبسيط والتعقيد التي يمكن أن نصادفها بشكلٍ ما، فالاقتباس في حالته المعقّدة تظهر من خلال ترجمة العبارات التي تتضمن تلاعباً بالألفاظ، أما أبسط حالات الاقتباس فإننا نصادفها في ترجمة الأوزان والمقاييس المختلفة، كاستبدال الأميال بالكيلومترات أو باستخدام مقياس العقدة البحرية بالأميال وهكذا.
رابعاً: إعادة الصياغة أو النظير: في هذه الحالة يلجأ المترجم إلى القيام بعملية الترجمة بالمقابل أو المعادل عندما لا تجدي الترجمة الحرفية نفعاً، ولا يساعد التعديل ولا النقل في التعبير الواضح والصريح عن الموقف ذاته في اللغة الهدف. هذا النوع من الترجمة يتطلب من المترجم معرفة عميقة بثقافة اللغتين الهدف والمصدر فضلاً عن المعرفة الجيدة بالنظامين اللغويين.
من هنا ندرك تماماً أنَّ الترجمة تتطلب ثقافةً واسعةً واستيعابا واسعاً للخلفيات الحضارية والتاريخية والمعرفية والثقافية للنص المترجم، والقدرة الفائقة على التعامل مع المستويات اللغوية المختلفة. الايحائي منها والتقريري لمعرفة البُعد الرمزي والثقافي والذي يعتبر البُعد الثقافي للنص المُراد ترجمته.
جميعنا يدرك تمام الإدراك أنَّ الثقافة هي أسلوب حياة ومظهر من مظاهر المجتمعات على مرّ العصور، وأنَّ الترجمة هي ظاهرة من مظاهر الثقافة التي تسير ضمن سياق المعرفة الإنسانية وهي أسلوب من أساليب نقل مكونات حضارة ما إلى حضارةٍ أو حضارات أخرى كل هذا يسير ضمن نسق معرفة الثقافة معرفةً مميزة، ونقلها بأمانة يساهم في الحفاظ على خصوصياتها ويظهر ميزاتها. وتؤدي رسالة الكاتب دون حواجز أو عائق لغوي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى