الكاتب إسماعيل قدري..قاوم الاستبداد بالأدب
علي جبار عطية | العراق
رئيس تحرير جريدة أوروك
رحل في الأول من شهر تموز الجاري الكاتب الألباني إسماعيل قدري الذي أطلقت عليه مخابرات بلاده وصف (الخائن)، ووصفه مؤرخو الأدب بأنَّه أكبر وأشهر روائي ألباني، أوروبياً وعالمياً، في المواقف الإنسانية والإنجاز الأدبي الرفيع فقد عُرف بمواقفه الفكرية المناهضة للأنظمة المستبدة الظالمة ونموذجها حاكم ألبانيا الطاغية أنور خوجة،وندد بالجريمة السياسية كما نجح في تجسيد الصراع الألباني الصربي، ووظف الاستعارة والمجاز والأساطير القديمة واليونانية بوجه خاص والفلكلور والخرافة بمقاربة تراجيدية كوميدية وبأسلوب شاعري كما استثمر الدراما الشكسبيرية في أدبه ، ومع أنَّه كان يصرح بأنَّه يبحث عن أخطاء نحوية لشكسبير إلا أنَّه لا يخفي إعجابه وتأثره به، ويقول عنه : (لو عاش شكسبير زمن الشمولية الشيوعية لما جعل من ممالك أسكتلندا والدانمارك مصدراً لكتاباته عن الجريمة السياسية).
عاش إسماعيل قدري في ظل الحكم الدموي للدكتاتور الشيوعي أنور خليل خوجة (١٩٠٨ ـ ١٩٨٥) الذي كان ستالين قدوته، وقد حكم البلاد بالنار والحديد أربعين سنة (١٩٤٥ ـ ١٩٨٥) ويُوصف بغول ألبانيا، ونظامه يُعدّ من أكثر الأنظمة انغلاقاً وعزلةً، والأكثرُ قمعاً ودمويةً في تاريخ أوروبا الحديث، وهو يفتخر بأن جعل ألبانيا في صدارة الدول الملحدة في العالم، وكانت خطاباته لا تخلو من مهاجمة الأديان علناً،يكفي أن نعرف أنَّ عقوبة الذي يتلفظ بكلمة (لا إله إلا الله) هي السجن سبع سنين ! فضلاً عن مصادرة الحريات، ومنع إظهار الفرح بقدوم شهر رمضان والعيد، وهدم دور العبادة، وسجن الآلاف، وصارت ألبانيا زمن حكمه تعرف بجمهورية الرعب .
يقول الكاتب والصحفي الألباني غنتيان مارا عنه أنَّه (جعل من ألبانيا سجناً كبيراً) . ويضيف : (أنَّ كلّ ألبانيا أصبحت عبارة عن سجن حتى له هو، إذ لم يسافر أو يغادر البلد أبداً ، فصار زعيم سجن !)
ويقول أستاذ التاريخ في جامعة تيرانا أدريان موهاي : (إنَّ أنور خوجة ضرب ودمر كل القدرات الفكرية والعلمية في البلد، وحارب وقتل العقول النيرة والعلماء وخيرة المثقفين)، والظاهر أنَّ الحكام الطغاة في أوروبا أو أمريكا أو آسيا أو غيرها يتشابهون في الأخلاق والطبائع والسلوك كأنَّما ولدتهم أم واحدة !
كانت ألبانيا خاضعةً للإمبراطورية العثمانية أكثر من خمسة قرون ثمَّ استقلت عنها سنة ١٩١٢ لتقع بعد سنوات في قبضة الاحتلال الإيطالي الفاشي سنة ١٩٣٩ثمَّ الاحتلال الألماني النازي سنة ١٩٤١.
وما إنْ وضعت الحرب العالمية أوزارها سنة ١٩٤٥ حتى خرجت ألبانيا من عباءة هتلر لتستظل بعباءة ستالين، وليكون الحكم أكثر تطرفاً وعنفاً واستبداداً من حكم المجرم ستالين .
وبعد وفاة ستالين سنة ١٩٥٣ترك أنور خوجة النموذج الشيوعي السوفيتي بدعوى تخلي مَنْ خلف ستالين عنه ليتبع نموذج الحزب الشيوعي الصيني الماوي نسبة إلى ماوتسي تونغ، وبعد وفاة الزعيم الصيني سنة ١٩٧٦ استقل خوجة وتفرغ لينشىء نظاماً استبدادياً خاصاً لألبانيا.
كان أنور خوجة كأيِّ ديكتاتور يضطهد جميع فئات الشعب، وقد بالغ بإنشاء ما تسمى بـ(البونكير) وهي الملاجىء التي زرعها في مختلف أرجاء البلاد في زمن الحرب الباردة تحسباً للحروب المدمرة.
وتمكن من تشييد ٧٥٠ ألف ملجأ ومخبأ دفاعي محصن في جميع أرجاء البلاد، ويروى أنَّه طلب من أحد مهندسي الملاجىء أن يجربه بنفسه، ودخل المهندس الملجأ وهاجمته دبابة بضراوة فلما نجا المهندس من الموت أمر خوجة بإنشاء الملاجىء بذات المواصفات !
يبلغ عدد سكان الشعب الألباني حالياً نحو ثلاثة ملايين نسمة من مجموع ثمانية ملايين عدد الألبان الموزعين في كوسوفو ومقدونيا وصربيا والجبل الأسود واليونان وتركيا وإيطاليا ونسبة المسلمين تبلغ زهاء سبعين بالمئة، ويتكون الشعب من عدد من المجموعات العرقية منها مجموعة (التشام) وهم مواطنون يونانيون طردوا من بلادهم في حملة لتصفية القوميات والأديان غير اليونانية الأرثوذوكسية كذلك مجموعة (البكتاشية) التي تتخذ طريقة تصوف وتنسب إلى مؤسسها (حاج بكتاش ولي) في القرن السابع هجري، ولهم تكاياهم وطقوسهم الخاصة.
من الشخصيات الألبانية التي عرفها التاريخ أشهر ولاة مصر محمد علي باشا (١٧٦٩ ـ ١٨٤٩)، والقديسة الأم تريزا (١٩١٠ ـ ١٩٩٧).
عانت ألبانيا الويلات لعقود من السنين حتى جاء الفرج بانهيار الاتحاد السوفيتي واستقلالها عنه سنة ١٩٩١بعد تركة ثقيلة لم تستطع التخلص منها إلا بعد سنوات.
وجدتُ هذه الأرضية من المعلومات ضرورية لفهم الجو العام الذي نشأ في ظله الكاتب إسماعيل قدري فقد ولد عام ١٩٣٦ بمدينة جيروكاسترا جنوب ألبانيا، وكتب ديوانه الأول في سن السابعة عشرة تحت عنوان (استلهام شباني) ، وكان منبهراً بشكسبير وغوته ودون كيشوت ودانتي ورموز الأدب اليوناني، وكتاب أجواء الملحمة والغرابة والشعوذة والسحر والأشباح.
درس الأدب في جامعة تيرانا وفي معهد غوركي بموسكو قبل عام ١٩٦٠، وعاد إلى بلده للعمل صحفياً، وانشق باكراً عن الأدب الاشتراكي، وأضحى متيماً بالأدب الغربي أو (المنحط) كما كانت يسمى زمن الرئيس خروتشوف !
كان إسماعيل قدري عضواً في الحزب الشيوعي الألباني، لكنَّه مطارد بوصفه معارضاً للنظام لذلك اضطر إلى نشر أعماله في الخارج طوال السبعينيات والثمانينيات قبل لجوئه إلى باريس عام ١٩٩٠.
في عام ١٩٩٦ أصبح عضواً مدى الحياة في أكاديمية العلوم السياسيّة والأخلاقيّة الفرنسيّة، وفاز بجائزة (مان بوكر) الأدبية عام ٢٠٠٥ متفوقاً على كتاب آخرين بارزين من أمثال غابريل غارسيا ماركيز، وميلان كونديرا، وفيليب روث، ونجيب محفوظ
وأشارت هيأة التحكيم إلى أنَّ فوز إسماعيل قدري بالجائزة يرجع إلى جودة أسلوبه الروائي.
وقال قدري وقتها : (إنَّني كاتب من أطراف منطقة البلقان وهي جزء من أوروبا ظل طويلاً يشتهر بأنباء الشرور الإنسانية سواء كانت صراعات مسلحة أم حروباً أهليةً أم إبادةً عرقيةً وغيرها، وكان أملي أن تدرك أوروبا والعالم أنَّ هذه المنطقة التي تنتمي لها بلادي يمكن أيضاً أن تأتي منها أنباء عن إنجازات في مجالات الفن والأدب والحضارة) .
كما فاز بجائزة رفيعة هي جائزة (أمير أستورياس) عام ٢٠٠٩، كما رشّح أكثر من مرّة لجائزة نوبل للآداب، وترجمت أعماله التي تجاوزت الخمسين عملاً طوال نصف قرن إلى أكثر من ثلاثين لغة، كما حولت الكثير منها إلى المسرح والإذاعة والتلفزيون والسينما.
من أبرز روايات إسماعيل قدري : (طبول المطر) /١٩٧٠ و(الشتاء الكبير) /١٩٧٣، و(قصر الأحلام)/١٩٨١، و(حفل نهاية الفصل) /١٩٨٨ التي منعتها الرقابة سبع سنين بسبب تناولها العلاقات الصينية الألبانية، و(الوحش)/١٩٩٠ التي منعت لسنوات أيضاً، و(الظل)/ ١٩٩٤ و(هاملت الأمير المستحيل)/٢٠٠٧، و(العشاء الزائد) /٢٠٠٩كما أخذت بعض أعماله طريقها إلى السينما كروايته (جنرال الجيش الميت) التي اقتبسها لتشيانو توفولي عام ١٩٨٣ ومثل أدوارها الرئيسة ميشال بيكولي، ومارتشيلو ماستوياني، وأنوك إيميه.
أما سيرته الذاتية فنجد مقاطع منها في روايته (الدمية) التي يروي فيها تفاصيل من بيئته القاسية فيشبه البيت الذي عاش فيه بالسجن ، وكيف سقط في غواية الكتابة مبكراً، كما يكشف إقامته في معهد غوركي بموسكو للدراسة، واشمئزازه من الواقعية الاشتراكية وقد دفعه ذلك الاشمئزاز إلى التمرد عليها بروايته الأولى (مدينة بلا لافتات) التي حاول فيها الإفلات من تأثير كتابه الثلاثة المفضلين (جويس وكافكا وبروست) الذين كانوا الهدف الثابت لانتقادات منظري الواقعية الاشتراكية.
بعد مسيرة حافلة ورحلة نضال في الكتابة والحياة يغادرنا إسماعيل قدري بعد تقدم ألبانيا بمراحل على طريق الديمقراطية، ومرحلة الانفتاح، واقتصاد السوق، وأن تكون بلداً جاذباً للسياح، بما تمتلك من مواصفات سياحية عالية.
في مقابلة صحفية أجريت معه مؤخراً سئل إسماعيل قدري : ماذا أعطاك الأدب؟ فأجاب : (أعطاني الأدب كل ما أملكه اليوم، أضفى مغزىً لحياتي، منحني الشجاعة لأقاوم، والسعادة، والأمل في التغلب على الصعاب)