دعوة لتطبيق قواعد علم الحديث على علم التاريخ!

د. يوسف زيدان | الإسكندرية

«وأما الأخبارُ التى بأيدينا الآن، فإنما نتَّبعُ فيها غالب الظنِّ، لا العلم المحقَّق».

 تلك هى عبارة العلامة ابن النفيس (رئيس أطباء مصر، علاء الدين بن أبى الحرم القَرَشى، المتوفى سنة ٦٨٧ هجرية) التى يعبِّر فيها بوضوحٍ باهر عن حقيقةٍ بسيطة «وخطيرة» تقول إن الأحاديث النبوية والأخبار الشريفة وروايات السيرة، ليست تامة اليقين مهما بلغ علوُّ إسنادها وانتقالها من هذا الراوى إلى ذاك عن طريق ما يعرف باسم (العنعنة)؛ حيث يُروى الحديث والخبر، عن فلان، عن فلان.. وقد أورد ابنُ النفيس، الذى كان من دون شكٍّ عبقرياً، عبارته السابقة فى واحدٍ من مؤلفاته القيمة التى قال عنها: «لو لم أعلم أن تصانيفى تبقى بعدى عشرة آلاف سنة، ما وضعتها..».

وقال قومٌ (من العلماء) إن جميع ما اتفق عليه مسلم والبخارى، فهو مقطوعٌ به (بصحته) لأن العلماء اتفقوا على صحة هذين الكتابين. والحق أنه ليس كذلك! إذ الاتفاق إنما وقع على جواز العمل بما فيهما، وذلك لا ينافى أن يكون مظنوناً بصحته، فإن الله تعالى لم يكلِّفنا الوقوف عند العلم، ولذلك يجب الحكمُ بموجب البيِّنة، وإن كانت قد أفادت الظن..» 

وقد ينصدم البعضُ من هذه (الحقيقة) وقد يخفِّف من صدمتهم، أن الرأى الذى يقرِّره ابن النفيس يطابق ما قرَّره غيرُ واحدٍ من علماء الحديث النبوى فى تاريخ الإسلام، تعليقاً على ابن الصلاح (المتوفى سنة ٦٤٣ هجرية) الذى يقول فى كتابه «معرفة أنواع علم الحديث» الذى اشتهر عند الناس بعنوان (مقدمة ابن الصلاح) ما نصُّه: 

«وإذا انتهى الأمرُ فى معرفة الصحيح، إلى ما أخرجه الأئمة.. فهذا القسم (الذى اتفق عليه البخارى ومسلم) مقطوعٌ بصحته، والعلمُ اليقينى النظرى واقع به، خلافاً لقول مَنْ نفى ذلك، محتجاً بأنه لا يفيد إلا الظن..» 

وقد عَلَّق الحافظ العراقى، المحدِّث الشهير، على قول ابن الصلاح السابق، بما يلى: «إن ما ادَّعاه ابنُ الصلاح من أن ما أخرجه الشيخان (البخارى ومسلم) مقطوعٌ بصحته، قد سبقه إليه الحافظ محمد بن طاهر المقدسى وأبونصر بن يوسف، فقالا إنه مقطوعٌ به. 

وقد عاب الشيخ عزالدين بن عبدالسلام، على ابن الصلاح، هذا.. وقال الشيخ محيى الدين النووى فى كتابه (التقريب والتيسير): خالف ابنَ الصلاح المحققون والأكثرون، فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر.. وقد اشتدَّ إنكارُ ابن برهان الإمام، على من قال بما قاله الشيخ (ابن الصلاح) وبالغ فى تغليظه».

إذن، هناك خلاف بين علماء الحديث النبوى، فى «يقينية» الأخبار والأحاديث الشريفة، مهما بلغت من صحة (السند) أو الرواية عن سابقٍ، عن سابق، عن النبىِّ – صلى الله عليه وسلم – لأن العنصر البشرى يتدخل فى السند والعنعنة، وما دام الأمر كذلك فإن (غالب الظن) لا (اليقين المطلق) هو الأساس الذى يقوم عليه هذا الحديث النبوى أو ذاك، حتى وإن كان قد ورد عند الإمامين البخارى ومسلم، وهو ما يسمى اصطلاحاًً الحديث: المتفق عليه.

ولأن الذين كتبوا تاريخنا الإسلامى كانوا فى الأغلب من المحدِّثين (علماء الحديث) وكانوا فى كثير من الأحيان يؤكدون الطريقة التى يروى بها أهل الحديث الأخبار والأقوال النبوية (السنن القولية، السنن الفعلية) فقد تبادر إلى الأذهان، مع مرور القرون ومع الميل الفطرى إلى تبجيل السابقين، أن الروايات التاريخية والأخبار المروية، لها ذات المصداقية التى لنصوص الأحاديث النبوية.

وكان بعض مشايخنا المعاصرين، مثل أستاذنا الدكتور بشَّار عوَّاد معروف (المحقق الشهير فى التاريخ وعلم الحديث النبوى) يقول بأنه يجب علينا تطبيق قواعد علم الحديث على علم التاريخ! بحيث نظفر بعد تمحيص وضبط السند والرواية، بالصحيح من وقائع التاريخ؛ بمعنى أن ننظر مثلاً، فى رواة هذا الخبر التاريخى، وفى اتصالهم الفعلى من عدمه، وفى صحة السند والمتن (الرواية والدراية) أو غير ذلك مما يفعله أهل الحديث، ونطبِّق ذلك على ما يرويه المؤرخون من وقائع، وما يذكرونه من أحداث.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين محمد واله الطاهرين… لقد مرت علينا نحن المسلمين دهور من الزمن نأخذ ديننا من الحديث بكل أنواعه وغاب القرآن الكريم عن توجيه هذه المعرفة وضبطها وبقي فقط للتلاوة والتجويد والعبادة… بينما بنينا معارفنا الدينية بالاحاديث وإن كانت حسنة أو ضعيفة أو معارضة للقران الكريم وكان الحديث أحد أسباب الشقاق بين المسلمين وتكفير بعضهم البعض فهل حان الوقت لتدارك الأمر والعودة لمحكم القرآن مع عدم إهمال الحديث الذي لا يشاقق بين المسلمين ويفرقهم…. والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى