حي بن يقظان
عمرو البطا | الجيزة – مصر
١
كل يوم يأتي ذلك الشاب إلى الجامع الأزهر قاصدا العمود ذاته حيث يلتف الطلاب حول الشيخ العلامة عبد الرحمن بن خلدون، ليندس بينهم منصتا بكل حواسه لصوت الشيخ المتهدج.
مسحة من الحزن النقي تجمع بين عينيْ الشيخ وعينيْ الشاب، ذلك الحزن الذي يورث الحكمة التي تشرد صاحبها بين البلاد. درس الشاب على يدي الشيخ، وسرعان ما نبغ وتميز وصار أنبغ تلامذته وأقربهم إليه، وكان من المتوقع أن يصبح عالما أو قاضيا كبيرا.
لكن الناس وجدوا أن شيئا من ذلك لم يحدث. فعندما انتقل الشيخ إلى جوار ربه، انعزل الشاب وحيدا منخرطا في العبادة والتأمل، وفي مطالعة كتب الفقه والكلام والمنطق والتاريخ، وظل في تأملاته تلك حتى سئل عن عدم اشتغاله بالتدريس، فقال:
- أما العلم الذي تقصدونه فهو مسطور في مئات الكتب، ويوجد الآلاف غيري ممن يدرسونه على خير وجه. أما أنا فقد نذرت نفسى لشيء آخر أسأل الله أن يوفقني إليه، ثم سأسطره في كتاب بإذن الله.
قال البعض: مجدّدٌ كشيخه، وقال آخرون: مغرورٌ كشيخه! لكنه لم يبال بكل ذلك.
طالت وحدته وانعزاله حتى كاد أن يُنسى، وفجأة رآه الناس يتجهز ويرحل مع إحدى القوافل. غاب في أسفاره خمسين عاما تجول خلالها في الأقاليم السبعة، ورصد ممالك البر والبحر والجو، وعاد أخيرا إلى القاهرة ومعه أطنان من الورق.
تعرّف عليه بعض من كبار السن ممن عاصروه شابا، وحكوا للناس عن حلمه الذي سافر في بلاد الأرض بحثا عنه، فهرع إليه الناس متشوقين لمعرفة ذلك الشيء الذى كان يبحث عنه، متلهفين لسماع ما رآه في أسفاره من عجائب بلاد الزنج والواق واق وجزائر البحار العجيبة.
وما أن أتاه الناس حتى صرفهم عنه طالبا منهم أن يمهلوه قليلا للتفكر فيما جمعه في أوراقه من العلوم والمعارف، وما دوّن فيها من مشاهدات وحوادث، حتى يكتب كتابه الذي كان يحلم به. فانصرف الناس خائبي الأمل، ومكثوا في انتظار الكتاب.
كان الشاب الذي صار آنذاك شيخا قد أحضر معه من أسفاره دفترا من بلاد الصين غريب الأوراق ليدوّن فيه كتابه. أخرج الدفتر، وظل يتأمل صفحاته البيضاء، ثم ينظر في أوراقه، ثم يعيد النظر تارة أخرى إلى صفحات الدفتر، فلا يكتب شيئا. لم يكتفِ بما جمعه من أوراق، ظل يبحث عن جديد الأخبار والمعارف، ويسأل العلماء وقوافل التجار عما شاهدوه في أسفارهم. ظل يطيل النظر والتأمل، ولا يكتب شيئا.
أما الناس فقد أنساهم تعاقب الليل و النهار أمر الكتاب وأمر صاحبه. لم يعد يذكره أحد بعد ذلك، بينما حفظت ذاكرتهم كل من ادّعى امتلاك الحق اليقين واقتتل من أجله.
كان ذلك الرجل هو حي بن يقظان، جدي الأكبر، ذلك الحائر في سياحاته المكانية والقلبية بحثا عن العلم الخفي الذي لا يغيب عنه شيء، ولا حتى أرواح أهله الذين اقتطفهم الوباء في أقاصي الصعيد واحدا تلو آخر، فمضى يبحث عن تجلياتهم على جدران الأزمنة والبلدان.
كل ليلة أهبط إلى البدروم وفاء بالعهد الذي لقّنه جدى حي لولده باستكمال المهمة التي كان قد بدأها، ولقّنه ولده لولده، وهكذا، حتى لقنه أبي لي، وها أنا ذا سائر على درب الحيرة.
أجلس بين أطنان الورق التي لملمتها القرون حولي مواصلا البحث. أطالع شبكة الإنترنت، فأجمع مادة بحث ضخمة في وقت يسير، وبمجهود ضئيل، مقارنة بالجهد والوقت الذي كان يستغرقه أجدادي في البحث حتى أنستهم لذة البحث ذاته هدفهم من بحثهم. أما أنا فقد صار لديّ الكثير من الوقت والطاقة للتأمل في المادة التي جمعتها وصولا للنتيجة المرجوة.
كل ليلة أسهر في البدروم مستغرقا في بحثى دون أن أظفر بشيء إلا مزيدا من التشتت والحيرة، وعندما أنهي مطالعاتي كل ليلة أمد يدي بين أطنان الورق ملتقطا من ورائها ذلك الدفتر الذي أحضره جدي من الصين. أفتحه، وأتأمل صفحاته البيضاء التي لم يخطط فيها بشر حرفا حتى الآن. أتعجب من بياضه الناصع الذى لم يطله الزمن بخدش أو بقعة أو اصفرار، فكأن شيئا لم يمر عليه.
رغم بقاء الدفتر في بياضه قرونا، ظل أجدادي على يقين مطلق بأن هناك شيئا ما لا بد سيُكتب في الدفتر. كانوا ينظرون في صفحاته، ويحدسون حروفا غير مرئية تستجدي من يكتبها. لم يشكُّوا في ذلك مطلقا، ولم تفتر عزيمتهم لحظة واحدة.
أما أنا فلم يعد لديَّ ذلك الأمل الغامض الذى داعب أجدادي. ثمة هاجس يراودني أن الدفتر سيظل ناصع البياض إلى الأبد كما كان منذ الأزل. لكن ذلك لا يعني أنني عزفت عن البحث، فحماسي -وللغرابة- لم يفتر لحظة رغم ما ينتابني من إرهاق وضجر وتشتت، فكأن الحيرة هي مبتغاي.
وكلما انجرفت في عجاج مطالعاتي ومشاهداتي المكتظة بالقتامة، أشعر بارتياح كبير لأنني لم ألوّث الصفحات البيضاء، البراقة، الساحرة، المتألقة في فراغها السرمدي، بما في يدى من حبر أسود.
٢
قلت لزوجتي:
– لا أريد أن ننجب أبدا.
أردت أن ينتهي هذا العهد عندي، لا أريد أن أورث هذه اللعنة لغيري. لكن زوجتي -كطبيعة النساء- كانت تريد أن تنجب دون تفكير في مصير هؤلاء الأطفال الذين نلقيهم إلى شقاء الحياة. وزوجتي هذه امرأة من أصل وضيع، كانت تعمل في ماخور قبل أن أتزوجها. لم تكن في ذهني فكرة الزواج مطلقا، لكن دخلي الضئيل الموزع على الطعام والشراب والسجائر والكيوف لم يكن يسمح لي باستئجار العاهرات لإشباع رغباتي، فقررت أن أشتري عاهرة مدى الحياة، وهذه المرأة كانت أقلهم سعرا، فهي لا تريد إلا الستر والعيش في ظل رجل، كما أنها كانت توفر لي بين الحين والآخر بعض زجاجات الخمر المسروقة من ماخورها، وهذه ميزة لم تكن في الحسبان.
أما عن مهنتي التي أقتات منها فهي بائع حلوى؛ أطوف بصندوق الحلوى الرخيصة على أبواب المدارس وتجمعات الأطفال لأبيعهم شيئا يزيل مرارة الحياة من حلوقهم. وذات يوم كنت مارا في تطوافي بصندوق الحلوى على إحدى الحدائق، فلمحت طفلا صغيرا اجتذبني. كان الطفل يطارد إحدى الفراشات الملونة، يحاول أن يمسكها فلا يستطيع. كان في عينيه أمل أورثني الألم. لا أريد لهذا الشغف البريء أن ينطفئ كما انطفأتُ وذقت المر. ظللت أراقبه زمنا وهو لا ينفك عن متابعة الفراشات، فقلت في نفسي:
– لا بد من وضع حد لهذه المأساة قبل أن تحدث الفاجعة!
وهنا تفتقت في ذهني تلك الفكرة فسارعت إلى تنفيذها. ذهبت مسرعا لشراء سم فئران، ثم فككت غلاف إحدى قطع العسلية التي أبيعها للأطفال ورششت عليها السم قبل أن أعيد الغلاف كما كان. تقدمت نحو الطفل وعرضت عليه شراء قطعة حلوى مني، فآلمني أن لم يكن معه مليم واحد. رق قلبي له، وأهديته قطعة العسلية دون مقابل، ثم انصرفت. ومن بعيد مكثت أراقبه وهو يتلوى وحده دون أن يشعر به أحد حتى خمدت حركته تماما، فعدت إلى البيت مطمئنا.
ومن يومها أصبحت لا أسير بصندوقي إلا ومعي سم الفئران لمثل هذه الظروف، ولم أعد أستطيع أن أحصي عدد المرات التي استخدمته فيها. أحسست أن هذه المهمة هي رسالتي في الحياة، هي الشيء الذي أعطى حياتي العبثية قيمة ومعنى أعيش من أجله، فنذرت نفسي لها. هؤلاء الأطفال مطاردو الفراشات محظوظون فعلا، لقد وجدوا ما لم أجده في طفولتي البائسة!
عشت على هذا الحال أمدا من الدهر ولم يكتشف أمري أحد، وذات يوم جاءتني زوجتي مرتبكة تتحدث في أمور لا علاقة لها ببعضها، ونحن نادرا ما نتحدث سويا، فقلت لها:
– قولي ما تريدين قوله دون لف أو دوران.
زاد ارتباكها، وثأثأت، ثم قالت وعيناها أرضا:
– أنا حامل!
جن جنوني:
– كيف؟ ألا تواظبين على حبوب منع الحمل؟
– يبدو أنني نسيتها في إحدى المرات وحدث ما حدث.
نسيتها؟ أنا أعرف ذلك اللؤم جيدا، لقد نفذت ما أرادت رغم أنفي لتضعني أمام الأمر الواقع، ثم احتجت بالنسيان. هكذا تفكر النساء الحمقاوات دائما، لكنها لا تعرف أنني قتال قتلى!
لم أشعر بنفسي إلا وأنا أنهال عليها ضربا وركلا في بطنها، حتى رأيتها تتكور على الأرض والدماء تنهمر منها. عندئذ توقفت؛ هذا ليس حلا للمشكلة، هذا مجرد حل لهذا الموقف الطارئ، لكن ذلك لا يمنع أن الأمر قد يتكرر طالما أنا على قيد الحياة، فأنجب طفلا رغم أنفي، ووقتها قد لا أستطيع إسقاطه كما فعلت الآن. الأزمة إذن في وجودي أنا.
تركتها تئن غارقة في دمائها، وذهبت لأحضر سكينا. وضعت السكين على عنقي.. لا، لا أحب الآلام في منطقة العنق. أذكر أنني مرة أصبت بحبة ملتهبة في عنقي لم أستطع على إثرها أن أنام طوال الليل. أبعدت السكين عن عنقي ووضعته على قلبي.. ألا يكفي قلبي ما أصابه حتى أرشق فيه سكينا؟
لم أستطع أن أنهي حياتي، أصابني الجبن المزمن، فوقفت متعجبا من نفسي: لماذا أتمسك بالحياة إلى هذا الحد رغم أني لا أطيقها؟ لكني لم ألبث أن اخترعت مبررا لوأد حيرتي: إن مت أنا، فمن للأطفال الأبرياء مطاردي الفراشات؟ ألا يجب أن أضحي وأستمر في الحياة من أجلهم؟
لن أقتل نفسي، إذن ما الحل؟
بإمكاني أن أعيش حياتي مع تجنب إمكانية الإنجاب إلى الأبد. هاتان الخصيتان لا داعي لوجودهما؛ فهما يعيقانني أثناء المشي، ويسلخان أفخاذي في الأيام الحارة، كما أنهما يشتتان تركيزي برغباتهما التي دفعتني لارتكاب حماقة الزواج. إذا قطعتهما سأعيش الحياة المثالية التي أتمناها.
بسرعة فككت بنطالي، وبدون تفكير أعملت السكين فيهما، فسقطتا أرضا. لم أشعر -للغرابة- بالألم، على العكس شعرت بهم ثقيل ينزاح عن قلبي، وتبدت لي وجوه أجدادي تبتسم راضية عني. لكنني حين سمعت صوت قرقعة سقوط الخصيتين على الأرض ورأيت نافورة دماء تنهمر مني غاب وعيي في لحظتها.
عندما أفقت كنت ممدا على سرير المستشفى، وحين تذكرت ما فعلت أيقنت أن الحشيش الذي كنت تحت تأثيره قد ساقني إلى تدمير نفسي إلى الأبد. تعجبت إذ رأيت زوجتي تجلس إلى جواري وتبالغ في رعايتي. شككت في أن ما حدث كان مجرد حلم، لكن الجرح ما بين فخذي وآثار الإجهاض البادية عليها أزالا كل الشكوك. كيف إذن أمكنها أن تعاملني بكل هذا الحنان بعدما فعلت فيها ما فعلت؟
قالت لي إنها لم تتهم أحدا في محضر الشرطة، وإنها تقدر الحالة النفسية التي أمر بها، بل ألحت في الاعتذار وطلب سماحي، وأقسمت أن حدوث الحمل كان خطأ غير مقصود.. ألا زال يوجد قلب طيب إلى هذا الحد في هذه الحياة؟ يكفي أنها تقبل على نفسها استكمال الحياة مع نصف رجل لا طائل منه رغم كل ما فعل فيها وفي نفسه، لو أنني أهديتها عمري كله لأكفر عن ذنبي تجاهها فلن أوفيها حقها.
ظللت بعد الحادث أعاملها كخادم يعامل مليكته. اكتست معاملتي لها بالاحترام البالغ والتقديس، وأنا الذي لم أعامل أحدا طوال حياتي إلا بالاستهزاء. أحسست في هذه الأيام أن ذهني اصبح أصفى، وتجدد لدي شغف البحث والمطالعة.
بعد عدة أشهر وجدتها تهبط إليَّ في البدروم حيث أعتاد أن أجلس كل ليلة. لم تتلعثم أو تثأثئ هذه المرة، كان كلامها واضحا صارما، خلا فجأة من الحنان الذي أولتني إياه طوال الأشهر الماضية.
– أنا حامل. لكني هذه المرة لن أسمح لك أن تفعل ما فعلته المرة الماضية. اهدأ وفكر في مصلحتك، إذا أصابني مكروه أنا أو ابني، فإن سر سم الفئران سينكشف للجميع.
بهت وذبت في مكاني. كيف اكتشفت هذه الملعونة سر سم الفئران؟ أكانت تراقبني؟
– أتظنني بلهاء لا أعرف ما تفعل؟
مكثت طويلا حتى استطعت استجماع الكلمات:
– وابن من هذا؟
– ابنك طبعا.. ألست زوجي؟
– كيف يا كاذبة؟ وأنت تعلمين أنني….
ولم أستطع أن أكمل الجملة.
– أنك ماذا؟ ألا تخجل من نفسك ومن عاهتك؟ عليك أن تحمد معروفي أن سترت عليك ورضيت العيش معك. العلاقة بيننا الآن قائمة على تبادل المصالح: أنت تعطيني وابني اسمك، وأنا أعطيك صمتي. فكر في مصلحتك جيدا.
هذه الملعونة أنهت الأمر بكلماتها، لم يعد لي إلا القبول مرغما.
الحياة مستنقع قهر، أيكة ظلام متشعبة في الحلوق. كم كنت أحلم أن أحمل الخلاص إلى هذه الأجيال البائسة، لكن يبدو أن الأمر أكبر من طاقتي. كلما أهديت قطعة حلوى مسممة لمطارد فراشات صغير انبثق وراءه عشرة أطفال مثله. لا حل إلا قنبلة ذرية تنسف هذا الكوكب برمته، وليس في إمكانياتي صناعة قنبلة ذرية للأسف.
بعد سنوات أصابني اليأس أخيرا، فأقلعت عن قتل الأطفال. صرت أهبط كل ليلة إلى البدروم مصطحبا أطفالي الأربعة منها، بعد أن تتركهم أمهم في رعايتي وتصعد مع عشاقها إلى الغرفة العلوية. لم أعد أستطيع التفكير. الأطفال يلهون في كل مكان، يمزقون أغلفة الكتب، ويصنعون من صفحاتها صواريخ ورقية. امتدت يد أكبرهم إلى دفتر جدي. فتح صفحاته وظل يشخبط عليها، وحين رأيته التقطته منه لأنقذ ما يمكن إنقاذه، لكنني وجدته في اليوم التالي قد فتح الدفتر من جديد ووضعه أرضا، ثم خلع بنطاله وظل يبول على صفحاته البيضاء وهو ينظر لي باستهزاء.