رواية عبد الله دعيس ” قبل أن يأتي الغرباء ” والبحر المفقود

قراءة وتحليل: نزهة أبو غوش

 

" قبل أن يأتي الغرباء" رواية صدرت حديثا، 2020م للكاتب المقدسي، عبد الله دعيس عن مكتبة كلّ شيء، حيفا.. رواية تحمل أحداثا تاريخيّة ما بين أعوام 1775-1810م . رواها الكاتب بنفس روائي طويل واضعا بصماته الأدبيّة والفنيّة مطعّمة بالخيال والعاطفة ورؤيته الفلسفيّة في الحياة.

"ركبنا البحر من ميناء يافا الّذي عادت اليه الحياة بعد دهور من الحصار والقتل……"

أشعر وكأنّ البحر يحملني على كفّيه الواسعتين يقلّبني بينهما بحنوّ، يرفعني إِلى فيه يقبّلني، ينفخ في صدري نسيما…" ص290

في روايته التاريخيّة أعطى الكاتب عبد الله دعيس أهميّة ورمزا للبحر أخذت مساحة لا بأس بها، وكأنّه أخذ البحر خطّا جغرافيّا يسير عليه من بداية الرّواية حتّى نهايتها.

وصل يافا وتحدّث عن الدمار الّذي لحق بها، وعكا وأسوارها العنيدة، وصل غزّة وتحدّث عن قوّة أهلها وصلابتهم أمام الغزاة. البحر وصل مصر وروى عن الخراب والدّمار الّذي حلّ بها، والاسكندريّة الّتي عربد فيها الغزاة، صالوا وجالوا واغتصبوا وعاثوا بالأرض فسادا. البحر هو الطّريق لوصول السّلطان العثماني إِلى الشّرق وفرض هيمنته عليه. كان البحر وطن المغتربين والمستعمرين الطّامعين في خيرات الشّرق.

البحر استقبل المستعمر الانجليزي، البحر فتح ذراعيه لعزرائيلي الّذي تسلّل إِلى الشّرق ليدرسه ويمهّد قدوم المستعمر البريطاني. البحر نقل جنود المحتلّ وسفنه الحربيّة. البحر نقل الحجاج الى مكّة المكرّمة. البحر أغرق ودحر وزمجر وهاجت أمواجه، تعبيرا عن نفسيّة الشخصيّة الروائيّة. البحر هدأ وهبّت نسائمه الرّقيقة النّاعمة إِلى قلوب المحبّين المسافرين في عبابه هو الّذي حملهم ا إِلى تونس. البحر كان رمزا للإنسانية واللا إِنسانيّة في رواية " قبل أن يأتي الغرباء".

لقد استطاع الرّوائي عبدالله دعيس أن يخلق صراعا  بين شخصيّاته المركزيّة؛ مما أثار حفيظة القارئ ودعاه للتّساؤل، والشّك والحيرة؛ حيث أضاف للرّواية عنصر الحركة والتّفاعل وعدم الرّكود.

عاش عزرائيلي صراعا ما بين كونه مبعوثا من بريطانيا العظمى– جاسوسا –  وبين كونه عاش في أحضان الشّرق ومساجده وقراه ومدنه، عاش حلوه ومرّه. تزوّج امرأة أحبّها وخلّف منها طفلة، هي بؤبؤ عينه. جاء يبحث عن أسرار بلاد الشّام ممهّدا لاستعمار جديد فيها. هل يكون أهلا لهذه المسؤوليّة؛ أم يعيش حياته الجديدة الّتي أحبّها مع طفلته وزوجته؟ صراعه الدّاخليّ كان صراعا دينيّا، حيث لبس ثلاثة أديان في آن واحد: الدّين اليهودي الّذي ورثه، والدّين المسيحي الّذي فرضه عليه والده لمصلحته الشخصيّة، والدّين الاسلامي الّذي تقمّصه وأتقنه كوسيلة؛ من أجل انخراطه في بلاد المسلمين.  كان صراعه مريرا لدرجة أنّه صار مطاردا مشرّدا هاربا من العقاب الانجليزي.

  عاشت سارة صراعا مريرا مع الحياة منذ والدتها. تقلّبت حياتها بعد أن تركها والداها مرغمين؛ بين حياة القرية وما تعيشه من جهالة وتخلّف وتعقيدات اجتماعيّة؛ وبين المدينة بكلّ حضارتها وتقدّمها وتطوّرها والحياة الاجتماعيّة الّتي تختلف تماما عن سابقتها؟

لقد خلقت تلك الحياة ارتباكا نفسيّا عاشته سارة . هل تنتمي لتلك البيئة الاجتماعيّة الّتي عاشتها في حضن اسرة مقدسيّة تعيش في رحاب الأقصى؛ أم تنتمي لذلك الأب المجهول من أصل يهوديّ جاء يسرق البلاد وينهبها؟ هل تستمرّ في حياتها الحاليّة، إِذا كان الجواب نعم؛ فكيف بها تخفي سرّها؟ وهل سيرحمها المجتمع حينها؟ " كلماته اللطيفة تسعدني، لكنّها تترك ندوبا في قلبي، فهل حقّا أنا هديّة الأرض المقدّسة؟ كيف ذاك ودماء الإِنجليز تسري في دمائي؟"

أمّا مريم الأمّ زوجة  الشّيخ الحلبي الجليل – يزراعيلي- فقد عاشت هي أيضا صراعا في حياتها.  هل تبقى بجانب طفلتها الرّضيع سارة، أم تتنازل عنها؛ من أجل الوطن؟ كان الوطن أثقل في الميزان، فذهبت تصارع الأرض وتنهبها مع الثّوّار تدلّهم على الأماكن الّتي جهلوها؛ من أجل دعمهم لمقاومة المستعمر.

 مريم شخصيّة قويّة  فريدة من نوعها، ترمز للوطن الصّامد أمام العواصف بكلّ جبروتها وعنفوانها، مضحيّة في حياتها وحياة طفلتها؛ من أجل قضيّة عادلة. تعيش حياة الغربة والتّشرّد .

ثمّة سؤال يستفزّ القارئ: هل كانت مريم ستصبح تلك المرأة المتحدّية العنيدة الثّائرة، لو بقيت في بلدها الأصليّ " بيت اكسا" قضاء القدس، أم كانت ستعيش تلك الحياة البدائيّة البسيطة في كنف أُسرتها؟

هل خلقت منها الغربة إِنسانا جديدا؟ أم هو الوضع الّذي فرضه عليها الأهل والمجتمع؛ حيث زوّجها والدها لأوّل رجل دخل بيته يسكن في قرية نائية قضاء يافا" الحرم " هروبا من أبناء عمّها المتناحرين عليها.

هذه التساؤلات أقلقت ذهن القارئ ومن الصّعب الاجابة عنها.  أرى بأنّها حالة نفسيّة فريدة، وخاصّة أنّها تزوّجت أربع مرّات ترمّلت من ثلاثة أزواج بعد فترة قصيرة من زواجها، فآمنت بسوء حظّها؛ لذلك عكس عليها هذا الوضع فأصبحت امرأة ثائرة على كلّ المعايير الاجتماعيّة، خاضت ما لم تخضه امرأة مثلها.

عمد الكاتب دعيس أن يجعل من الشخصيّتين امرأتين جميلتين يعجز عن وصفهما من يراهما. أرى بأنّه لا ضرورة لأن تكون المرأة جميلة جدّا من أجل اقناع القارئ بكونها انسانة مميّزة .

شخصيّات الرّواية كانت هي من حملت أعباء الأحداث التّاريخيّة الكثيرة المكثّفة بين الأعوام 1775- 1810م. عبرت الصّحارى والبادية والوديان والبحار منذ بداية الرّواية حتّى نهايتها. أرى بأنّ الروائي قد أثقل على شخصيّاته وحمّلها فوق طاقتها.

استخدم دعيس في سرده الرّوائي عدّة تقنيّات فنيّة: أسلوب الرّسائل، وأسلوب المذكّرات، وأسلوب السرد الرّجوع إِلى الخلف. وأسلوب كون الكاتب العارف بكلّ شيء؛ ثمّ أسلوب التّساؤل؛ حيث أكثر منها الكاتب في حالة الاستنكار والتعجب : " هل ستشرق شمس جديدة على الانسانيّة تبشّر بسيادة العدل وسطوع نور الحريّة؟" ص 264

" هل سكن العالم عن حروبه ودماره لحظة واحدة منذ درج الانسان على وجه البسيطة؟" ص285.

لغة الكاتب جاءت جزلة رصينة يستسيغها القارئ، إِذ كثرت بها الاستعارات والتشبيهات والصيغ البلاغيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى