نعمة الفيتورى بين ’’ أنات ذات ’’، و ’’ عنفوان ’’، و ’’ تقاسيم امرأة ’’

مصطفى جمعة | شاعر وناقد – بني غازي – لبييا

نعمة الفيتوري شاعرة تقدم تجربتها الشعرية ذات الملامح الخاصة جدا ..التي تشبهها هي . ليست فريدة من نوعها أوغير مسبوقة ولكنها على المستوى الفردي تحمل ملامح امرأة بلغت مستوى من التجربة والنضوج والثقافة والخبرة بالحياة مايؤهلها لأن تصيغ هذه التجربة بلغتها هي النابعة من رؤيتها الخاصة الغير متأثرة بمدرسة شعرية معينة بل اختارت من قصيدة النثر وسيلة تعبر بها بطلاقة حرة حرية حقيقية لا حواجز فيها تحد من او تقيد الاسلوب الذي تكتب به أو القالب الذي تصب فيه صياغتها الشعرية .وقد قررت ان اقرأ  نعمة الفيتورى لا كناقد لأنني لست ناقدا ولا كدارس لأنني ايضا لست كذلك ..ولكن ربما كقراءة انطباعية لمقتفي أثر !!

وكي لا أفقد الطريق في ازدحام كلماتها التي رغم بساطتها ووضوحها إلا أن زخم اندفاعها يمكن أن يجنح بك من فكرة إلى أخرى وقد تلتمس طريقك بصعوبة أحيانا وقد تجد حديثها عفويا وكأنها تتحدث معك وهي تحتسي فنجانا من القهوة.. هي قادرة علي التعبير عن ذروة الشعور سواء إن كان حبا .عشقا. غضبا.. استياء ..غيرة ..شوقا ..أو لهفة.

في هدوء عجيب وفي توازن واتساق بين كلماتها والمعاني التي تقصدها يوحي بانها ربما تتحدث عن امرأة اخرى ليست هي .. هي قادرة أن تعبر عن عاصفة هوجاء بنبرة هادئة حد الخفوت.. وعن بركان من المشاعر في وقع متناغم منشأة رصد داخلي عميق.. ان كلمات نعمة الفيتورى يمكن ان تكون هي نفس الكلمات المعتادة التي قرأناها مرارا.. فهي تشبهها كما تتشابه المفاتيح… ولكن ما وراء الابواب التي تفتحها هذه المفاتيح هو شيء آخر ..هو سجن.. نعم سجن فما تفصح عنه نعمة الفيتورى مكانه السجن .. داخل عنفوان وكبرياء المرأة .. هي في إصدارها الأول آنات ذاتي تفتح باب هذا السجن وتطلق عنان هذه المشاعر … الاسيرة عادةً.. السجينة عادةً.. الأثيرة سراً.. المنبوذة علناً.. لكنها دائما الحقيقية جداً. وأنا الآن في داخل هذا العالم ..عالم نعمة الفيتوري أريد أن أسير في مسار واحد فقط وهو محاولة رسم ملامح المخاطب في خواطر وافكار واشعار نعمة الفيتورى  ..الي من توجه رسائلها ؟ ما أو من الذي يجسد الكيان الشعري في الهامها وهل هو حالة شعورية وجدانية بحتة ..مستقلة بذاتها عن واقع حياتها.. أم هو واقع إنساني وتجربة ذاتية تملك خصوصيتها؟

سأبحث عن الإنساني وعن الوجداني. واقتفي أثره آملا أن أجسده أو التقي به.. وآمل اللا أفقد بوصلتي ويضيع مني الطريق..كتبت الشاعرة نعمة الفيتورى دواوينها الثلاثة آنات ذاتي  وعنفوان وتقاسيم امرأة  أساسا لكي تكون فحوى رسالتها عن كيف تعشق المرأة  كيف تختزن مشاعرها كيف تروي عواطفها بشغف حنون كيف تعبر عن رغبتها كيف تكسر حاجز المحظور والممنوع والمسكوت عنه كيف تتحدث عن الرجل واليه بأي عنفوان تفصح له عن حقيقتها كيف تتكشف له دون ان تتعرى الأنثى فيها عبر آنات تعترف فيها الذات بكينونته وكينونتها وكيف وأين ومتى يمكن أن يلتقيا ..كيف تضيء لنا ذلك الجانب الملغز في الأنثى الذي طالما سبب لنا الارتباك والحيرة .. كيف تحول اللغة الي نغم تدندن به بموسيقى تعزف تقاسيم الأنثى الأشد خصوصية تلك التي تحيطها المرأة بأشد درجات الغموض والحميمية حتى إنها لتحتفظ بها داخل مخدع أحلامها وتحيطها بطقوسها السحرية التي لا نرى إلا ظلالها الرمزية التي تعبر عنها خصائصها وتتجلي في لمساتها العفوية التي تضفيها على أناقتها أو طريقة مكياجها أو عطرها اوتسريحة شعرها تلك اللغة المرئية الغير منطوقة المرسومة لكن الغير مكتوبه ..تتجلى عند نعمة الفيتورى بوضوح نادر في تقاسيم امرأة وهو عنوان يختصر ببراعة جل تجربتها الشعرية الشجاعة .. واقول الشجاعة لان نعمة الفيتورى تتحدي وتقفز فوق حواجز المرأة الفطرية وتفتح نوافذ “الحرملك” مقصية قهرمانات الشعر ورقابة الخصيان.

الاستهلال في آنات ذاتي وهو مدخل لعالم سرعان ما ينقلنا من البداية الهادئة الى عمق يضج بالصور والحركة وإن كان يبدو وادعا على السطح يمكننا أن نعتبر النص بعنوان “ولادة” هو البداية الفعلية وإن لم يكن هو الصفحة الأولى إلا أني أفضل أن أبدأ به لنرصد البداية التي كانت “ولادة” حسية تحمل فحوى الرسالة التي من خلالها نعرف لمن توجه الشاعرة كلماتها.. وكحواء في كل زمن تلك الأنثى السرمدية التي صاغت مشاعرها آلهة الحب في كل العصور.. نجد الرجل “الرمز” الذي تختزل عبره جل مضامينها الشعرية انها تتكلم له وعنه وتدور في فلكه وتصدر منه وإليه.

وِلَادَةٌ

سَألتُ عَقْلِي عَنْكَ..

لَمْ يَتردّدْ حين أَجَابَنِي..

إنَّهُ أَنْتَ مَنْ يَشغَلُهُ، وَسَأَلْتُ قَلْبِي..

فَخَفَقَ بِاسْمِكَ..

سَألْتُ رُوحِي..

لِمَنْ هَمْسُهَا؟

لِمَنْ ابْتِسَامَةُ ثَغْرِهَا؟

لِمَنْ تَنْبِضُ وَتَبْتَهِلُ في هُيَامٍ عَذْبٍ مُنْسَابٍ؟

سَألَتْنِي: يَا امْرَأةً مَاتَتْ مُنْذُ الْوِلَادةِ..

كَيْفَ تُبْعَثُ مِنْ جَدِيد؟

قُلْت: أَنَا أَعِيشُ عَالمًا آخر..

اكْتَشَفْتُهُ بَيَدِيْكِ..

. نحن إذن أمام مستويين للخطاب في شعر نعمة الفيتوري يشكلان مجمل إبداعها ورسالتها.. وهما متلازمان لا يفترقان .قد يطغى وجود أحدهما على الاخر لكن يحدث دائما توازن هادئ .الاول هو الضمير المستتر أنا .. ضمير المتكلم هو شخصيتها كامرأة وكأنثى وكحبيبة وكعاشقة ذات حضور دائم فكل نصوص نعمة الفيتورى خطاب بضمير المتكلم يجسد كيانها داخل النص . والثاني هو  “الرجل” بما هو رمز وموضوع لصياغة الجملة الشعرية والطاقة الانفعالية التي تشحن هذه الجملة ..وهو ينتقل بين الصورة والخيال ويتشكل كثيمة او خلفية تلقي بظلالها  علي المخيال الشعري او يكون حاضرا كمخاطب تتجه اليه إضاءة النص ..فرمز الرجل في شعر نعمة الفيتورى يمكن اعتباره الحافز او الملهم او الروح الشعرية في نصوصها . وبإمكاننا تلمس ذلك في بعض من هذه النصوص لنلقي الضوء أكثر على مانقول.

فأنا منذ ولادتي وأنا مزدحمة بك..

فالبداية كانت منذ الميلاد الأول ليظل الحضور ممتدا

 أنِّي تِلَكَ الْمَرْأَةُ

الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُولَدَ

بَيْنِي وَبَينَ ظِلِّي

 وَبَينَ كَفَّيْ رَجُلٍ..

ولترتبط كينونتها به

ماذا أكون أنا؟

أين أكون؟

كيف بدونك.. أنا.. سأكون؟

وهو الذي يبدأ به الحب وينتهي إليه

وأنت القريب الساكن في أغوار الفؤاد..

والروح.. تتملكها..

ولك وإليك الرحيل والترحال..

وإن معنى العلاقة بالنسبة لها هو نفسه معنى الوجود الذي ينتفي بانتفائها .. ففي حال موت هذه العلاقة فإن ذلك يعنى موتها كأنثى وكامرأة

دعنا نهيم على فوهة بركان صمتنا المقدس..

ونعلن للعالم خبر موت العلاقة..

وأننا نتخاصم كثيرًا..

ونشنق الحب كل دقيقة بوحشية..

دعني أحلق شعري..

وأحرقه في غابة النسيان..

وأتوسد عبرتي..

وأرتمي على حائط الغد..

في انتظار قبري بدونك.

أما عن  من هي نعمة الفيتورى فهي تصور نفسها وترسم أحاسيسها وتريد ان تقول لنا انها امرأة بقلب طفل.. لا يمسه تلوث الاشياء تعيش بالأمل رغم قسوة الحياة ورغم قسوتنا نحن الذين يمكن ان نحول كل ما نملك:

الآمال والحب والهوية الشخصية الى جثث نودعها القبور بكل وحشية ..إنها امرأة تجمع براعم الحياة من اشواك الامل وتنسج الحب من خيوط الخيبات وتتبع السحب التي تحمل الفرح!!

 انها ايضا امرأة الحكايات..  الحالمة بالنهايات الحميمة ولكنها ايضا امرأة تحدي وصراع لاتتنازل عن حقها في أن تخلق وجودها وتحارب من اجله لكن بنقاء وشرف وانها بركان حين تثور وقبلة حين تحب ..إنها ليست تلك المرأة المبهرة الفاتنة لكنها ليست المرأة المبتذلة هي الارض العطشى التي بحاجة لأن ترتوى لكي تنبت من طينها ازاهير الحب لكي تتحول الى ندى يبلل نوافذ اعياها الانتظار

لست رائعة

ولست شاعرة

لست جبانة

لكني أشعر بالخوف

لست مُبتذلة

أحب الجمال رغم أني بدينة

وأحب الشتاء والغيوم

قد تمطر روحي بدلاً منها

بوفير الحب على أرضٍ لا ترتوي

قد أبدو غبية على الأقل أمام نفسي

لا يهم ..

سأتماثل للحب

يكفيني ..

نصوصي أكتبها بملء روحي

أعيشها.. ولا أعيشها

أمرغها بطيني فتنبت الكلمات

قطرات ندى تعشش على النوافذ المواربة

في انتظارٍ لا ينتهي .

وهي امرأة كما تفيض بالحب فان لها ايضا احزانها وأوقات جفافها ومواسمها التي يجدبها الخذلان فتتحول إلي حكاية أخرى.. إنها ذات قلب متطلب شديد التعلق .. وقلب كهذا هش قابل للانكسار في زمن اصبح الحب فيه مغامرة خطيرة تخوضها امرأة مرت بمواسم الجفاف وواجه عطاؤها..الاستغلال والحرمان الزيف والانانية ..فالحب الذي تريده وتحلم به هو حب لا يعاملها كجزء من امرأة ..فهو اما ان يستغرق كل كيانها ..اما ان يمتزج بها وتمتزج به حتى يكونا شيئا واحدا غيرقابل للا نفصال .. وأما لايمكن ان تسميه حبا

أنا هي الهادئة بطبعها..

الثائرة كبركان عند غيرتها..

الوديعة..

المرأة ذاتها..

أنا التي لا تعترف في الحب بأوساط الحلول..

وتعلن التوبة عن الصمت..

وتبوح بقبلة قلب دافق..

يعطي بلا حدود..

ويمور بقسوة حين ينكسر..

غيابه أبدي..

وهجره ولود.

هذا التأمل الذاتي الذي رافقنا في معظم ديوان نعمة الفيتورى أنات ذاتي هو الوعاء الذي افرغت فيه تجربتها الشعرية الأولى مستمدا من العنوان نفسه. وعاء البوح والافصاح والوصف الدقيق اثناء صياغة الانفعال في لحظته الآنية دون ان يغادر تلك العفوية التي تشبه ريشة طفل يرسم بضربات تلقائية مشهده الخاص جدا ورؤيته البسيطة لكن التي لا تماثلها رؤانا التي لا تستطيع تجاوز تعقيدات وتفاصيل الواقع ولا تستطيع العبور مباشرة الي ذروة المكاشفة ذلك اللقاء الرائع مع الحقيقة.> وتفتتح نعمة الفيتورى ديوانها الثاني عنفوان بمفردات صيغت من الحب:

وَلاَ أَجْرُؤ إلاَّ عَلى الْحُبّْ ..

لِكُلِّ مَنْ مَرُّوا في حَيَاتِي أَو الْتَقَيْتُ بِهِم في مَحَطَّاتي الْكَثِيرَة ..

والاستسلام المطلق للحب

ليت هذا الحب يأخذني بعيداً بعد السماء

أو يحتضني كاحتضان الأرض لخطوي

يزرعني في قلبك ياسمينة ..

ترتوي على خفقاتك

بدفق .. كنهرٍ لا يتوقف..

حب يمتزج بالروح والجسد والخيال حب يملى طقوسه بقانون الحياة الأزلي  الحب كما ينبغي ان يكون وكما ترسمه كلماتها

نشعل شفاه الليل بآهات اللوعة

 المزدحمة على ضفاف الحنين

ونطلق سراحها مع إطلالة كل قمر

نغيب عن وعي كل ما فات ..

ونوقظ الامنيات الغافيات

 في طقوس للحب لذيذة ..

غير أن ديوان عنفوان يفتح في شعر نعمة الفيتورى آفاقا أخرى تتجاوز عفوية العواطف ووحدة الموضوع التي ميزت الطابع العام لديوان أنات ذاتي اذ نلاحظ نموا في التجربة الشعرية ازداد نضوجا وغنىً بالتفاصيل وازداد جنوحا نحو قضايا اكثر شمولا وانسانية وواقعية. وقد يدفعنا ذلك الي التوسع ايضا ليمكن ان نتابع القراءة الى حيث يأخذنا الافق الذي اصبح اكثر رحابة ولاحت فيه عناصر أخرى . اذ بدأ شعر نعمة الفيتورى هنا أكثر ملامسة لوقائع الاشياء وأكثر حضورا في البيئة نفسها. وفي البداية نجد نص”وحيدا تصل” يتماهى مع العنوان الرئيسي. فالعنفوان هو الصمود .هو روح التحدي في مواجهة صعوبات الحياة. فامرأة خاضت في الحياة تجارب لا تخلو من الالم ومن لحظات المواجهة مع القدر ومن تحديات القرارات الصعبة امرأة شهدت حياتها تحولات قاسية لابد أن نلاحظ تأثيرها ونلمس ملامح ذلك الصراع في تلك النزعة الفلسفية التي يغلب عليها طابع الحكمة النابع من عمق التجربة الشخصية أولها دعوتها لنبذ الضعف وكبح الألم .

إياك أن تتكلم

أو تلوح من بعيد لانتباه أحد

أن تلمح بأصغر آهة قد تصدر منك

أدفن وجعك تحت عينيك

وألمك في جوف خاطرك

وتنفس المرارة مع الهواء

الوقوف بقوة وشموخ وعدم الاتكاء على مساندة الآخرين والتسلح بالصبر والعزم واحتمال ضربات الحياة المباغتة

إياك أن تسير منحنياً

لا تسمح ليد من كان أن تسندك

إن صعقتك ضربة على رأسك

أسندها على كتفك

وإن باغتتك على ظهرك

أدر لها صدرك ..

امتص أناتك

أقس على نفسك ما استطعت

تحمل الصبر وقاوم

واهزم خوفك

وتابع المسير

وحيداً .. لتصل .

ثم نظرة تتجاوز افق الذاتية الى هذا العالم الذي تعيش فيه الذي يشكل الخلفية الكبيرة لكل الصور والمشاهد والحاضر دائما بشكل غير محسوس غالبا ولكن ظلاله الكثيفة تتجسد في الاضاءات الخافتة والايماءات التي تحيط بالنصوص أو تتبدى من خلالها

“لكن النوى يملأ الطرقات

يعرقل مسيرة العالم

ونباح يعلو

والعالم يتعثر

ويصرخ

بلا صوت ..”

“أعرف أن البلاد التي عجزت أن تكون وطناً

تتهاوى سريعا .

أعرف أن أولادنا مهما امتلكوا من جيناتنا

ستكون لهم جينات أخرى لا تشبهنا

ولا نكاد نتعرف عليها “

هذه الاشارات وان كانت على مسافات متباعدة الا اننا لا يمكننا اغفالها لأنها تمثل الحاح الواقع على ذهنية الشاعرة وسيطرته تدريجيا على رؤيتها حتى يبلغ بها الذروة ويتجسد ليحتل مكانه في نص منفرد اراه نتيجة حتمية تؤكد حضور لحظة الولادة التي ينتزع فيها الشعر نفسه قسرا من مخيال الشاعر ليقول هو كلمته عن الحياة عن الواقع عن الهم الذي يشكل

البيئة الحقيقية التي يخلق فيها نص شعري بغض النظر عن انطباق قوانين الشعر وشروطه وملابساته ذلك ان مرجعيته الي المعاناة الجماعية التي هي في تعبير شمولي “الوطن” تعبر الشاعرة نعمة الفيتورى من خلال نصها “بلادي” الى تلك التخوم التي تلامس الكل. تلامسنا جميعا

في كل صباح

الفرح لا يلقي تحية الصباح

واجما .. وجهه معاق

أصابته رصاصة قناص

الفرح قصير العمر

والورد سريع الذبول

ينمو منحنيا .. يخجل أن يرفع رأسه

يتجنب النظر في عيون العشاق

لأنهم أيتام

أو ثكالى أو أرامل

أو مبتوروا الأطراف

الرحمة تشكو الظلم

وترفع أيديها للسماء

تبتهل من أجلنا

من أجل الزهور الميتة

والعصافير التي رحلت مبكرا

البيوت تنهار من الجوع

والأمهات يتكئن على بؤسهن

يرضعن أطفالهن حليبا مهموما

وأنا أكتب لأنفض عن قلبي

غبار الأفكار التي تؤكد

حقيقة أن كل ذلك وأكثر

يحدث في بلادي .

يمثل هذا النص بعفويته وانسيابيته نقطه مفصلية وتحول يشكل تطور في الرؤية الشعرية لدي نعمة الفيتورى يشير إلى ذلك قولها:

وأنا أكتب لأنفض عن قلبي

غبار الأفكار التي تؤكد

حقيقة أن كل ذلك وأكثر

يحدث في بلادي .

هي التبعة والمسؤولية التي يشعر بها أي شاعر تجاه قضايا لا يمكنه تجاهلها او التغاضي عنها وهنا تكون الشاعرة قد بلغت فعلا درجة النضوج التي بدأت المسير نحوها منذ إصدارها ديوانها الأول: أنات ذاتي) حتى إصدارها الذي تناولته الآن (عنفوان).

قلت في المقدمة إن التجربة الشعرية لنعمة الفيتورى في تقاسيم امرأة تجربة شجاعة لم تأت من فراغ ولكنها جاءت بعد اصدارين سابقين مثّلا البداية . فتقاسيم امرأة تجربة لا تتلمس الطريق بل توجت رحلة نحو نضوج في الطرح وفي صياغة الجملة الشعرية وفي تنوع الفكرة والتفاصيل يتكامل وجهها الانساني في عدد من النصوص الشعرية التي كتبت في مرحلة ما بعد عنفوان وأسميها مرحلة لأنها تحمل ملامح أكثر كثافة والنص فيها  يحمل الكثير من الصور والمشاهد تتراوح ما بين السرد الشعري الى شيء من الصور النثرية ذات النزعة الخطابية احيانا والتأمل الذاتي احيانا اخرى لكن فرادة وتنوع الموضوعات يضفي على هذه النصوص السمات التي يحملها العنوان نفسه.. تقاسيم امرأة .. هنا تتكلم نعمة الفيتورى بلسان وقلب وروح المرأة ..آمالها وتطلعاتها .عواطفها ورغباتها .انها ترفع الستائر عن مخدع المرأة ومكامن خصوصياتها وتعطي للأمكنة والزوايا والاشياء البسيطة حياة ، وتوظفها كمفردات تستخدمها داخل القصيدة محملة برمزيات ودلالات مرهفة جدا واحيانا حادة جدا وصريحة حد المكاشفة

الحب الساذج

هو طقوس المرأة العاشقة ..البسيطة .. عندما تتوسل بكل شيء حولها لتحوله الى مائدة للحب:

المرأة العاشقة جداً

تتوارى خلف ما تيسّر من الصّمت

تبحث كل ليلة عن مخاطرة

ترتب طاولة العشاء بالكثير من الأمنيات

تتحرش بالخيال، وتملأ الكؤوس

بنبيذ معتق بالشغف والورود الوردية

المرأة العاشقة جداً

تتحاور دائماً مع الجدار ليميل قليلاً

ليقرب زر الضوء عندما تفقد السيطرة

الحب الساذج يسقط تباعاً

العلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة

العلاقة بين الرجل والمرأة تبدو في رؤيتها الشعرية شيء في ميزان النقد يجب أن يبلغ الكمال.. لكنها تحمل الرجل مسؤولية نجاح او فشل هذه العلاقة..وهي وان كانت وجهة نظر تكاد تكون عابرة إلا أنه لا يمكن إغفالها:

الأمر ليس له علاقة بالحب

لأن الرجال تقليديون

اعتادوا على ذات الأشياء

حتى في علاقتهم الحميمية

إذا بادرت المرأة بتغيير ما

ارتابوا وقد يرتبك أداؤهم

وتقل متعتهم نتيجة الانبهار

الرجال يحبون السيطرة على الأمور

وعلى النساء…

“يقول حبيبي

في هذه الزاوية يبدو الحب أكثر “

“نخترع مزايا لأماكن البيت

هنا كانت القبلة ألذ

من هذه الناحية صوت الريح أهدأ

تحت النافذة صوت العصافير أوضح

هناك في زاوية ما تقام طقوس الحب

نرسم بخطوط الوجه

أمتع اللحظات”

النظرة إلى الحياة والموت

تحتل النظرة إلى الحياة ونهايتها الحتمية مساحة كبيرة في نصوص هذا الديوان ما يعكس نظرة فيها شيء من السوداوية ان صح القول أو الإحساس باللاجدوى من الحياة طالما ان مسيرتنا فيها تنتهي بالموت الذي ينهي وجودنا وذكرياتنا وعواطفنا وكل ما عشناه وهي تبدأ منذ مقدمة ديوانها بترسيخ هذه الفكرة كبداية تنبئ بهذه الرؤية تؤكد حضورها بين صفحات ديوانها الثالث الذي تقدمه لقرائها

“قد أموت غداً والميت ليس مجرد عابر، للميت آثار منحوتة في وجدان الذاكرة..”

وتذكره كقدر حتمي وحقيقة تتعايش مع وجودها:

“تعال لا ننتظر الموت

لأنه حتماً لن يتأخر عن موعده المجهول”

حقيقة تذكرنا بها أحداث الحياة اليومية:

“كلما رأيت الجنازات

ذهب خيالي داخل التابوت

وسألت نفسي

هل شرب قهوة الصباح؟ “

لا مجال فيها للتفاوض ولا المساومة:

“نساوم في كل شيء إلا الموت.. لا جدال فيه ولا تفاوض”

حقيقة حاضرة دوما في الخيال:

“وأتخيلني

وأنا يحملني غيري لأول مرة

عارية مني

من كل عمري

وتاريخي

وابتساماتي “

“…….ويضعوني

في حفرة ضيقة وحدي

ودون أي شيء يخصني لكن

لمرة واحدة

وأخيرة.”

 الكاتبات والكتابة والشعر والقصيدة

القصيدة مرادف للحرية في مفهوم الكتابة عند نعمة الفيتوري فهي لا تعترف بقيود اللغة ولا التصنيفات. لا يروقها ان تكتب وفق نسق أو قانون معين بل تعطي نفسها حق تجاوز كل ما يمكن ان يعيق حريتها في صياغة ما تود قوله بطريقتها الخاصة وقانونها الخاص. طالما يعبر عنها بشكل يرضيها وهى تقول إنها ستخطئ وستتجاوز وستسير عكس الاتجاه إن تطلب الأمر لتخرج كلماتها كما تريد هي أن تكون:

تقول القصيدة الحرة

لا تقيدني بصفة أو بحال

دعني أكتب بحرية

كلماتي عارية من أي قيد أو تلميحات

اقرأني.. حسني  أو اتركني مكاني

لا تقيدني بتصنيف 

لا أخضع لتصنيفاتك

وترتيبك الممل وثباتك الجامد

لحروفي أجنحة تتحرك أينما شاءت

تفكر على النحو الذي تحب

والكتابة عندها عبارة عن رقص وجنون وحرية وانطلاق وعفوية:

“سترقص حروفي بجنون

وتتلوى على خصر السطور

وتلوي عنق الخيال

والمجاز لأقول كل ما أريد

وفي أي وقت أقرره…”

 

الكاتبة في مفهوم نعمة الفيتورى مخلوق شفاف.. صغير .. طفل أحيانا:

“الكاتبات دائماً صغيرات

يحلقن فوق مستوى العيون والقلوب

إن بكين تتخلل دموعهن ابتسامة

وإن خفن ترتعش قلوبهن داخل أجسادهن الثابتة”

“للغنج لديهن طقوس وللحب قدسية

وللحياة رؤى أكثرها قد تبدو غير منطقية

لكن لذيذة”

مخلوقات معذبة .. ملعونة بلعنة قلوبهن الهشة:

“يعذبن أنفسهن بالتفكير في كل شيء

وحمل الكثير من الأحاسيس التي تخص كل الأطفال

والمباني والأشجار والنجوم

وكل النساء “

“الكاتبات ملعونات لأنهن رغم كل شيء

تظل قلوبهن هشة “

العلاقات الإنسانية والنفاق الاجتماعي

كشاعرة وكامرأة هي جزء من هذا المجتمع وتركيبته الاجتماعية وتعقيد علاقاته، لابد أن يتأثر انتاجها بصور تنتقدها داخل منظومة علاقاتنا الاجتماعية.. الصور الأكثر إرباكا وخللا صور المداهنة والكذب والنفاق الاجتماعي وهي تتناولها كما هي دون رتوش وتقف موقفها منها بوضوح:

“كاذبة

تلك اللحظات التي تبدو صادقة

الملونة بألوان مختلفة”

“كاذبة

العلاقات التي تجزئ مبادئها

كاذبة

المجاملات التي ننفقها ببذخ لنحافظ على ماء الوجه

كاذبة

كلمات الحب التي لا تعني ما تقول

كاذبة

الوعود التي لا تُوفّى “

تلك الالتزامات الاجتماعية المقيتة التي تجبرنا على المجاملة:

“أتهم كل ما يُلزمني بشيء

في الأوقات التي لا أرغب فيها بشيء.

ما أصعب أن تكون حراً “

لا تريد إلا أن تكون نفسها هي محور اهتمامها الوحيد تسمو بها فوق العلاقات المزيفة:

“وتكون فقط أنت

لا تهتم إلا بك

تغرد مع العصافير

تحلق فوق العلاقات وأسطح العقليات المريضة

وتشيح بوجهك عن الضحكات الصفراء

والوجوه العابسة”

الحرب والوضع السياسي والاجتماعي

لا يوجد شاعر او أديب أو مثقف أو حتى إنسان عادى لم يتأثر بما يجري الآن على الساحة الليبية ولم يعبر عنه بشكل أو بآخر ، جميعنا ولا استثني أحدا تأثرنا وكتبنا وعبرنا ونحن في قمة التأثر والالم عن مدى عمق هذا الجرح في كيان هذا الوطن وان كان الأدباء والشعراء هم الأكثر تأثرا وتأثيرا عن طريق الكلمة المشحونة بآلام الآخرين المعبرة عن صرخاتهم المكتومة القائلة مالا يقال ومالا تستوعبه كلماتهم البسيطة أو تأملاتهم الصادقة وإنها لرسالة منوطة بالجميع في الحقيقة ومسؤولية أدبية وأخلاقية تقع على عاتق كل من يعبر بالكلمة المكتوبة وأمانة يحملها الجميع.

ولم يخل انتاج نعمة الفيتورى بهذه المسؤولية في دواوينها الثلاث التي نتناولها في هذه القراءة وقد سبق ان نوهت بنصوص بارزة في الديوان السابق عنفوان وسأتناول أيضا ما ورد في هذا الديوان الأخير مما سطرته قريحتها حول هذا الهم المشترك الذي نحمله جميعا. ودون تحليل او كثرة تعليق سأترك النصوص تتحدث وحدها.

الحرب لعبة غبية

“نقتل بعضنا بمنتهى الغباء

صرنا أضحوكة الغباء

جعلناه البضاعة الرائجة التي لا تبور

الأمهات تسب الحرب

الحرب الغبية لا تفهم لغة الأمهات

اللواتي ينتحرن كل يوم على الطرقات

يودعن الأبناء

ثم يعدن لبيوتهن لعجن أرغفة جديدة

لملء جوف نار لا تشبع “

القتل غريزة إنسانية ظالمة روج لها وأسسها الإنسان:

دستور القتل اخترعه البشر

وبنيّة مسبقة عندما أقاموا أول مصنع

لعتاد الحرب

الحرب التي محت وجه الحب

وشوهت ملامحه

وأيقظت الفتنة بين الأخوة

في الحلم تطبق يد على عنق أخيها

لا تصرخ، لكن تتراخى يده عندما تغسلها

الدموع…

حرب في الشرق والغرب والجنوب حرب تجتاح خارطة بلادي جالبة معها الخراب والفقر

خريف دائم..

صراخ مزق المدى

وصدى آهات في الغرب

تثقب قلوب الشرق

تنتحب لها تمور الجنوب

وتبكيها شواطئ الشمال

زغاريد تتباهى بالموت

والدم يسيل من جسد الخارطة

والتلوث ساد النوايا

نشرب نخب الوطن على

مائدة مستديرة خارج

حدود الشرف

نميل إلى أسفل وديان القهر

والأيدي الممتدة من الوهم

تشابهت علينا

القلوب الثكلى تآكلت

والفجيعة مطأطئة الرأس خجلاً

الشباب في بلادنا هرم

والطفولة مغتصبة

المال وفير والرزق غزير

والشعب فقير ..

والحق تائه بين متاهات الفوضى

الكذب مشروع على شاشاتنا

تعال أيها الباحث عن الضياع

مرحباً بك في بلادي.

خاتمة:

وبعد.. هذه ملامح مما كتبته نعمة الفيتورى في إصداراتها الثلاث حاولت تقصيها لأقدمها لمن لم يقرأ هذه الإصدارات من القراء الليبيين وغير الليبيين إن تسنى نشر هذه القراءة على منصات عربية أخرى لتكون مساهمة في التعريف بشاعرة ليبية من بلادي كفكرة عامة وعينة من النشاط الثقافي في ليبيا أرجو أن أكون وفقت ولو بعض التوفيق في رسم صورة وافية الملامح عن تجربة نعمة الفيتوري في عالم الكتابة وقد وثقت للإصدارات الليبية ثلاثة دواوين ستبقي ضمن المساهمة الليبية في الثقافة العربية والادب العربي الحديث بشكل عام.

أو حكايةً ما

تختلف عنا ونختلف عنها

غريبة كغربتنا

سخيفة كأيامنا

وتقليدية كعمرنا

كسحابة صيف

مرت ذات حكاية

لم يكن لها بداية ولم تنته بعد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى