أعلى من معدلها السنوي.. للأسرى والأسيرات وعنهم
أمير مخول | فلسطين
قد تبدو الجملة أعلاه، كلاما مبتذلا عابراً لا يعيره أحدٌ الاهتمام. لكنها في الحقيقة الأسيرة ليست كذلك، بل هي هَمٌّ ومعاناة وحالة تعذيب لا تعرف الرحمة. ليس لأن الدنيا كذلك، بل لأن السجن كذلك.
أتابع باهتمام يومي نشرة الأحول الجوية، واهتم بالذات بدرجات الحرارة في مناطق خارج حيفا حيث أقيم. تهمني بالذات منطقة طبريا، إذ لا ذِكر لمنطقة غور بيسان في النشرات، ومنطقة النقب والجنوب الداخلية والساحلية منها. لا أكترث لحالي في هذا الاصغاء، اذ سأتدبر امري ولديّ خيارات عديدة كيف اواجه سطوة الحر الشديد الذي يتضاعف لدى من أفكر فيهم.
ما يشعلني فعليا هو ليس خارطة الجغرافيا الطبيعية، وإنما خارطة جغرافية السجون غير الطبيعية. كما أنّ ما يستحوذ على ذهني هو وجوه الاسرى الذين لا ملاذ لهم من ثقل حالة الطقس سوى ثقل حالة السجن. هؤلاء الذين تحضر وجوههم أمامي، وقد رسم تصبب العرق على محيّاها خارطة من خرائط المعاناة، قد يكون فيها تسليم لحالة الطقس لكن ليس للسجان. مهما كان آب لهّابًا، فليس لدى الاسرى والاسيرات من وسائل للتخفيف من وطأة ما ينتظرهم سوى الانتظار حتى تمر الموجة، ليشغلهم نهايتها المتوقعة اكثر من ويلاتها. كنا في سجن الجلبوع نهتم بحالة الطقس في طبريا ونضيف اليها خمسة الى عشر درجات، ونضيف الى نسبة الرطوبةِ رطوبةً وضغط، وهكذا نرصد نحن الاسرى الاحوال الجوية، فللاسرى مجسات صراع البقاء التي لا يملكها اي جهاز او اي اختراع. اذ نحتسب نسبة الرطوبة، ووطأة حرارة غور الاردن الذي يقع السجن على مشارفه، وفي مجمع سجن شطة التاريخي. ولو استعرنا مفردات الرحمة فإن السجون القديمة أرحم من الحديثة، ففي القديمة كانت الغرف واسعة والاسطح عالية والجدران سميكة والنوافذ المغلقة بالشباك كبيرة، مما يعزل بعض أشعة الشمس وحرارتها. بينما السجون “الحديثة” لا تعزل شيئا باستثناء الاسرى. هندسوها لتكون كذلك.
المراوح الشخصية وغالبيتها قديمة، قد امتلكتها مصلحة السجون على حساب الاسرى مباشرة او بشكل غير مباشر على حساب أرباح الكانتينا، وفي الحالتين على حساب الاسرى. فالمراوح كما كل الحقوق لا تعتبر حقّا بل منّة وامتيازا تستطيع التحكم به متى ارادت الانتقام تحت مسمى العقاب. حال هذه المراوح هو انها تبث مساء وليلا الهواء الحار الذي اختزنته الجدران والشبك الحديدي الهائل طوال النهار، لتكون الجدران حارة وتنشر سخونتها للاسير الملتصق بها حيث لا يتعدى عرض السرير الحديدي الستين سنتيمتر، وهكذا ينال كلٌّ نصيبَه القسري من الحرارة المخزونة.
هناك شبه كبير بين اجتهاد الاسرى واجتهاد النمل، وإحدى أهم الميزات هي كيفية ايجاد الفسحات، وتحسس نقاط ضعف الجدران، او الالتفاف عليها، كي يحققوا مبتغاهم. وهذه الميزة التي تحتاج الى دهاء مبني على اساس متين من القدرة على الصبر. فهناك من لا يبالي للحراة القاهرة، وذلك إدراكا من تجربته أن كل اكتراث لها سيجعله يعاني ويلاتها. انه يستخدم هدوءه الداخلي النفسي كي يبرّد الجسد. وهناك من يضع منشفة مبلولة بالماء امام المروحة او من ورائها عملاً بقانون التبريد، اذ تبرد المنشفة لتبث هواء لطيفا ولو لبعض الوقت، الى حين تكرار التجربة. وفي حال توفرت قنينة ماء مجمّدة فيكون لها مفعول لطيف مقابل المروحة ايضا. هناك من يسعون جماعيا الى اطفاء الضوء باكرا، فالعتمة أرحم من ضوء السجن الذي لا يشبههه الا اضواء المصانع او اقفاص مزارع الدجاح كي يوهموها بأن الدنيا نهار وهكذا تكثر من البيض. العتمة نسبية اذ ان أضواء المرافق والساحة وكذلك فوانيس السجانين الكبيرة التي يتجولون بها في الساحة طوال الليل ويسلطون ضوءها على الاسرى كي يضمن السجان أمنه لا أمان من يزعجهم. حتى في هذه العتمة النسبية هناك بعض الراحة. اما الاكثار من الاستحمام فهو يساعد لدقائق معدودة يزداد بعدها تصبب العرق، اذ تكون قد ارتفعت نسبة الرطوبة والحرارة.
في ساعات النهار يلجأ البعض الى ملء حجرة الاسر وتحويلها الى ما يشبه بركة سباحة متخيلة، وذلك بعد رفع كل اللوازم ووضعها على الأسرّة العُلويّة (الابراش) وسد كل طاقات التصريف واسفل البوابة الحديدة بالمماسح والاقمشة البالية. ثم يباشرون ملء المياه بارتفاع حوالي المتر، وهي فعل يعاقَب عليه الاسرى في حال تم ضبطهم، الا ان كل ابداع يرافقه مخارج مبدعة للحيلولة دون ضبطهم ودون اي عقاب. وبشكل عام فإن الاسرى اكثر ذكاء من السجان، فالاخير يملك الادوات والسطوة والاجهزة، والاسرى يملكون ذواتهم وحنكتهم وبالطبع اراداتهم. يسبح الاسرى في البركة ويهنؤون ويلهون، وبعد ذلك يفتحون البوابة لتندفع المياه الى الساحة جدولا غزيرا. اما الرياضة البدنية في ساحة السجن في ساعات الصباح والعصر ففي مثل هذه الحال تكون من باب “وداوني بالتي كانت هي الداء”، وهي من انجع الطرق التي عرفتها في التخفيف من وطأة الحر الرهيب.
عادة ما يكون النوم متقطعا للغاية، ليغفو الاسرى في ساعات الفجر الاولى حين يبدأ مخزون حرارة الجدران بالتراجع، تمضي ساعتان او ثلاث لتشرق الشمس، بعيدا عن مجال رؤية الاسرى، وهناك من القدامى الذين لم يشاهدوا شروقها منذ عقود، وتبدأ عملية العدد الصباحي المزعجة، لينهض الاسرى من فراشهم ويقفون على ارجلهم، لينقطع حلم ربما يكون جميلا ومساحته خارج السجن، ليعيدهم السجان الى سجنه، وتبدأ حرارة اليوم التالي، لتكون “اعلى من معدلها في مثل هذه الفترة من السنة”
قد لا نستطيع ان نخفف من وطأة الحر القاهر، لكنا نستطيع ان نكشف وطأة السجن ودولة السجان، وفي الادراك تخفيف من المعاناة، وفي الكثير من الحالات يحوّل نفسية المعاناة الى غضب وتحدٍّ ومناعة الارادة.