“فوق النخل” أم “تيرَشرَش”؟
سهيل كيوان | فلسطين
يتعرَّضُ ما يُقدَّم في سهرات الأفراح من غناء إلى النَّقد اللاذع والسُّخرية ويوصف بالفنِّ الهابط، ورغم ذلك نرى أن فئة الشباب تحبِّذ بعض هذه الألوان الخفيفة جدًا.
يجب أن نبحث عن السّبب الذي يدفع فئة واسعة من الجيل الشاب إلى تفضيل مثل هذه الأغاني في الأعراس.
أوَّلا، الجانب الفني، لأن الغناء الطربي العربي عمومًا لا يلائم إيقاع حركة الشبان خلال الفرح، التي تتطلب سرعة في الحركة ورد الفعل الجماعي مع المغني، بينما الفن العربي الأصيل هو سماعي أكثر، وفيه تأمّل من دون صخَب، وتقتصر مشاركة الجمهور على ردِّ الفعل بالتصفيق للفنان، وإطلاق عبارات الإعجاب وإيماءات بالرأس واليدين، وهذا ليس من أجواء الأعراس الصاخبة.
إلا أن هذه الأغاني السَّريعة، ذات الاستعمال لمرة واحدة، تنتشر لموسم أو اثنين، ولا تلبث أن تتلاشى كأنها الزَّبد.
قبل بضع سنوات كان لأغنية “تيرشرش (دق الماني)” صولات وجولات، وكان هناك من يطلبها وبإلحاح، أين هي الآن؟
قبلها كانت أغنيات من طراز “توتو نيّ توتو نيّ”. لكنها تبخّرت وذهبت هباء، وأعتقد أننا إذا رجعنا إلى فيديوهات الأعراس في سنين سابقة، لضحكنا كثيرًا على بعض الوصلات التي كانت تبدو وكأنها خالدة.
الفن يعكس حالة سياسية ومزاجًا شعبيًا عامًا، ولا يمكن فصلهما عن بعضهما.
في منتصف السبعينيات، وبعد حرب أكتوبر 1973 وبعد يوم الأرض عام 1976، وحتى منتصف الثمانينيات في أوج قوة منظمة التحرير، كان لا بد من الوصلة الوطنية في أعراسنا، كانت تشمل الأرض بتتكلم عربي، وباسم الحرية نضحّي بالأرواح، وبلادي بلادي، وطلّت خيلنا من باب الوادي، ويا طير الطّاير، وصفِّ العسكر، وخبطة قدمكم عالأرض هدّارة، ومنتصب القامة أمشي، وغيرها الكثير.
يتراجع المستوى الفني أو يتقدم عاكسًا حالة يعيشها الشعب، في فترات مختلفة ومتقلبة من تاريخه.
الأغنية الطربية الأصيلة تعكس استقرارًا بشكل ما، وتمسّكًا بما هو جميل وعريق، والتزامًا بثقافة رفيعة المستوى.
لا نستطيع فصل الوضع الاقتصادي وانعدام الأفق السياسي وضبابيته عن العبثية التي انحدرت إليها بعض السَّهرات والأغاني التي يتفاعل معها الجيل الشاب إلى درجة كبيرة، إضافة إلى انتشار الجريمة بشكل مُروِّع.
رغم ذلك، هناك من تمسّكوا بالطرب الأصيل، فطوبى لهم، ولن أذكر أسماء، كي لا أسهو عن أحد من هؤلاء الجميلين، فالأصالة باقية من خلال أغاني عمالقة الطرب التي تُقدّمُ مقاطعُ منها بإيقاع سريع يلائم حلبة الرقص في الأفراح.
نلمس هذا في الأفراح التي تكون فيها نسبة المدعوِّين الغالبة من متوسِّطي السِّن، كذلك عندما تكون الفرقة الموسيقية مُختارة بعناية، وتعكس رغبة صاحب الفرح وذوقه الفني، وحتى تفاعله مع قضايا شعبه، كذلك مستوى الفنان نفسه الذي يعتذر عن تقديم ما هو تافه وسطحي.
إذا نظرنا إلى ما يسمى الزَّمن الجميل، كان هناك أيضا الموقف السياسي المتقدم، وكان المد الثوري والقومي كاسحًا، وكان على الفنان أن يلحق بالرّكب ويرتقي، وإلا بقي على الهامش.
كانت الأمة كلها في حالة استقبال لما هو جميل وعريق وأصيل.
عندما غنَّت أم كلثوم “أغدًا ألقاك” من شعر الهادي آدم، أرادت أن تردَّ جميلا للشعب السّوداني الذي وقف إلى جانب مصر في محنتها بعد النكسة، فجمعت بين لحن عبد الوهاب وكلمات الشاعر السوداني، وكانت دموع الرِّجال تنهمر تأثّرًا لما كان لأغنية كهذه من بُعد قومي ووطني، رغم أنها أغنية عاطفية.
انتفاضة عام 2000 انعكست على مختلف أنواع الفنون من موسيقى وسينما ومسرح، كان أبرزها أغنية “الحُلم العربي”، وموقف عادل إمام المؤثّر من صديقه الطفل الفلسطيني، في فيلم “السّفارة في العمارة”، وأفلام مثل “الجنة الآن” وغيرها.
أغنية الحلم العربي، قالت إن الشعوب العربية حية وترزق، وكانت هذه مقدمة إلى ما تلاها من ثورات على الواقع السِّياسي الرديء.
في أول يوم من أيام حرب أكتوبر دخل بليغ حمدي ومعه وردة الجزائرية والشاعر عبد الرحيم منصور إلى دار إذاعة القاهرة، رغم اعتراض الأمن ومدير الإذاعة، وسجَّلوا أغنية “حلوة بلادي السَّمرا بلادي الحرة بلادي”. جمع بليغ عمال النظافة والموظفين في الأستوديو ليشكلوا الكورس الذي أنشد مع وردة لتنطلق الأغنية صبيحة السابع من أكتوبر.
ممكن للفنون أن تنقلب من الحضيض إلى القمة بين ليلة وضحاها، إذا ما حدث التغيير من قمة الهرم السياسي لأي أمة ولأي شعب، وشعبنا وشبابنا جاهزون.
لم يرحل صباح فخري، وسيبقى فنُّه باسقًا فوق النخل وأبعد، شأنه في هذا شأن العمالقة الذين سبقوه، لأن ما قدَّموه غير قابل للرحيل.