رسالتان الى الصحفي جدعون ليفي
المحامي جواد بولس | فلسطين
من لا يعرف من قرّاء الصحافة العبرية، بلغتها الاصلية أو المترجمة، مقالات الصحفي جدعون ليفي، التي دأب على نشرها أسبوعيًا، في صحيفة هآرتس؛ تناول فيها، ولمّا يزل، ممارسات وقمع جنود الاحتلال الاسرائيلي واعتداءات قطعان المستوطنين على أبناء الشعب الفلسطيني وضد ممتلكاتهم ؟
لقد عدّ الفلسطينيون والاسرائيليون، على حد سواء، جدعون ليفي، جراء ثباته على الكتابة من ضفة المعتدى عليهم، نصيرًا مستوثَقًا لضحايا الاحتلال وشاهد حق على ما يعانون؛ وسكن، بسبب ذلك، قلوب معظمهم كواحد “معنا “وليس مع “أعدائنا”. لقد دخل القلوب اذ كانت مطمئنة له، من أبواب الوجع، فهل سيبقى فيها بعد المودة التي أبداها تجاه بنيامين نتنياهو وعائلته، كما قرأنا وكما نشر وأفاد؟
لقد لبّى الصحفي جدعون ليفي دعوة زميله في صحيفة هآرتس العبرية، بيني تسيبر، وشارك في احتفال اقامه صاحبه بمناسبة عيد ميلاد سارة نتنياهو، عقيلة رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو. لم يكتف ليفي بحضور الاحتفال الخاص في بيت زميله، الذي يعمل، منذ سنوات طوال، كمحرر للملحق الثقافي في الجريدة، بل خصّ تلك الليلة بمقال نشره في هآرتس يوم 11/11/2021 تحت عنوان “مع عائلة نتنياهو لدى عائلة تسيبر في الصالون”.
لقد صدمت مشاركة جدعون ليفي الاحتفالَ معظم قرّائه، واستثار مضمون مقالته دهشة متابعيه؛ حيث اعتبره معظم “معجبيه” من العرب واليساريين خيانة لما عهدوه في مواقفه الانسانية من صدق اخلاقي، وتراجع عن دعمه السياسي للحق ولأصحابه؛ بينما اتهمته، في المقابل، أوساط اليمين على أطيافها بالتلوّن وبالمداهنة، مدّعية بأنّه سيبقى، رغم مغازلته لنتياهو ولزوجته، عدوّ اسرائيل وصديقًا للفلسطينيين.
ليس من الصعب أن نتفهم غضب جميع من هاجم أو لوّم أو انتقد أو خوّن أو خطّأ خطوة جدعون ليفي، خاصة انه لم يكتف بالمجاهرة بها بل أضاف على “إبّالته أضغاثًا” من الاستفزاز حين افتتح مقالته واصفًا، بتودد واضح، عائلة نتنياهو بلغة حليفة ودافئة، فقال: “لقد جلس اليوم الشخص الذي يحظى بكراهية كبيرة وباعجاب كبير مع زوجته وأولاده على أريكة قديمة في صالون صغير .. وربّت على يد زوجته وسحر كلّ محدّثيه”. لقد كان جدعون ليفي نفسه ، هكذا يفهم من النص، واحدًا من بين أولئك المسحورين بحضور عائلة نتنياهو، التي كانت، كما وصفها “العكس المطلق تقريبًا لما يقولونه عنهما وعكس ما يعتقدونه عنهما، ولم يظهر، في ذاك المساء، أي شيء مما قيل عنهما من قبل المنتقدين لهما المليئين بالاشمئزاز”. هكذا كتب واستفز، وهيّج أرواحًا كانت تؤمن به أكثر من ايمانها بهيئة الامم المتحدة وبالجامعة العربية، وبكثيرين من أبناء شعبها.
لن أسرد جميع ما جاء في هذه المقالة المستهجنة؛ فما أفصح عنه فيها من رفق وود تجاه نتنياهو وأسرته، سيبقى من حقه كصحفي، ومحسوبًا له وعليه؛ لكنني، ومن باب انصاف ماضيه الصحفي ومواقفه الحاسمة ضد الاحتلال وموبقاته وفضح سياسات حكومات اسرائيل خاصة بقيادة نتنياهو، ومن أجل الحقيقة، أود أن استذكر مقالًا بعنوان “استعراض نتنياهو” كان جدعون ليفي نفسه قد كتبه ونشره يوم 17/8/2016 وذلك بعد مشاركته وأعضاء هيئة تحرير جريدة هأرتس، اجتماعًا مغلقًا دعاهم اليه نتنياهو، فكتب حينها هكذا: “استضاف أمس نتنياهو اعضاء تحرير هآرتس للقاء مغلق دام أربع ساعات تحدث فيها بدون توقف .. نتنياهو هو شخص غاضب، هائج ، صاخب، صلب، حاد، مغرور ، ومقتنع بصدق دربه، ويؤمن بالقوة فقط، وعنده ميول نرجسية، وحب للعظمة، متعال، ثرثار، ويعاني من شعور بأنه ملاحق”. ثم وصف جدعون ليفي ايديولوجية نتنياهو على أنها متشددة ومتطرفة؛ فهو، أي نتنياهو، شخص لا يؤمن “بأي سلام مع الفلسطينيين ولا يعنيه قدرهم قيد انملة. وهو سيلحق الكارثة باسرائيل، لأنه صبي لم ينضج وخياله ما زال عالقًا في عالم الكتيبة ..” . هكذا، اذن، رأى جدعون ليفي نتنياهو قبل خمسة أعوام، فكيف لن يغضب من يقرؤه اليوم وهو يصفه “بالشخص الذي يملأ الفضاء بحضوره؛ فحتى، وهو في خريف حياته السياسية، يبقى مثيرًا للفضول أكثر من أي سياسي اسرائيلي. وستبقى امكانية أن نفهم دوافع الاعجاب به أسهل من ان نفهم مصادر الكراهية العميقة التي يثيرها تجاهه”. لم يكتف ليفي بهذا القدر من الشهادة والمديح بل مضى فبقّ حصوة “الراسي” الكبيرة، وأعلن أن دور نتنياهو “في صناعة دولة الابرتهايد لم يكن أسوأ من أسلافه، ولا كان تأثيره على انهيار الديمقراطية مميزًا لأن ساحات اسرائيل الخلفية مسيطر عليها من قبل ديكتاتورية عسكرية”. أقوال، وإن كانت تحتوي على بعض من الواقع السياسي والحقيقة، إلا انها، حين تقال من شخص في مكانة جدعون ليفي سيكون وقعها موجعًا، وتأثيرها على المجتمع ككل، وخاصة على رعاع اليمينيين، أخطر.
لقد تابعت ردة فعل جدعون ليفي على منتقديه اليهود، لا سيما على أولئك الذين يعرفون أنفسهم يساريين؛ فلم يسكت أمامهم بل دافع عن حضوره الحفلة، وكذلك عمّا كتبه في اعقابها؛ وقد فعل ذلك متذرعا بادّعائين أساسيين، جنّدهما على طريقة من يقول كلام حق يراد به باطل؛ فادعاؤه بأن جميع القادة السياسيين اليهود، وخاصة من وصفهم باليساريين، سواسية، فيه من الاجحاف للواقع قسط، ومن التمويه والمغالطة والتضليل أقساط؛ ثم أن محاولته تبرير شرور نتنياهو بكون الآخرين أشرارًا أيضًا هي اجتهاد بائس وخطير ولا يمكن تسويغه سياسيًا ولا قبوله اخلاقيًا.
لقد قبل جدعون ليفي الدعوة لحضور حفل عيد ميلاد سارة نتنياهو، وهو يعلم، بالطبع، تعاطف زميله في الجريدة المعلن مع ساره ودفاعه عنها وعن عائلتها وعمق صداقته معهم منذ سنوات طوال؛ ويعرف أيضًا مواقف زميله من الاستيطان والمستوطنين، ومواقفه المستهترة من اليسار الاسرائيلي؛ وهو، لجميع ذلك، وبسبب تجربته الطويلة، ولحساسية الأوضاع السياسية التي يمر بها المجتمع الاسرائيلي ونية نتنياهو المعلنة بالعودة الى رئاسة الحكومة، كان قادرًا أن يقيّم مدى تاثير مشاركته وما كتبه بعدها على المشهد الاسرائيلي العام وعلى مشاعر أصدقائه الفلسطينيين وعلى الاحرار في العالم تحديدًا.
على الرغم مما ذكرته وبالرغم من فحش ما قام به لن تكون مهمة الدفاع عن جدعون ليفي مستحيلة؛ فاذا ما راجعنا تاريخ ما كتبه عن الاحتلال الاسرائيلي وعن ضحاياه الفلسطينيين ، واذا ما تذكرنا مواقفه الصارمة ضد الحروب التي شنتها اسرائيل على قطاع غزة وعملياتها في الضفة المحتلة، فقد نشفع له، ونأمل بثقة من يفتشون عن حلفاء، أن يعود في الغد ويقف على حافة الجرح الفلسطيني ويتوجع ويكتب كي يعرف الاسرائيليون والعالم من هو القاتل ومن هي الضحية.
لو كنت قاضيًا لطالبت جدعون ليفي بأن يراجع نفسه ويتراجع عما قاله في وصف تلك الليلة التي قضاها في صالون عائلة تسيبر ، ولذكّرته، أيضًا، بأن حياة الفلسطينيين، كما وثّقها بحدقات أقلامه الدامعة طيلة سنوات طويلة، لا تقايض بحفلة ميلاد ولا بجلسة سمر مع “ساحر” كان يصغي بهدوء ويربت على يد زوجته التي لم تحتس الكحول في تلك الليلة. لكنني لست قاضيًا بل محاميا سيصفح، على طريقة المتشائلين، لجدعون ليفي خطيئته لأنه، هكذا أشعر، كما كان هو باق هناك ولم يتغيّر.
وقبل ان ترجموني انا بحجارتكم اتمنى أن نستوعب معًا ان جدعون ليفي يكتب كما يكتب ليس لأنه فلسطيني ولا لكونه مجرد انسان بلا هوية ، بل يكتب من موقعه “كوطني اسرائيلي” أو كما صرّح هو بنفسه ذات يوم فقال : ” أنا أكتب في جريدة اسرائيلية ، للاسرائيليين، وليس للفلسطينيين. انا اكتب للاسرائيليين الذين يريدون أن يقرأوا ما يجري مع الشعب الفلسطيني الذي يقبع تحت الاحتلال الاسرائيلي. اكتب من وجهة نظر اسرائيليه، أو ربما من وجهة نظر وطنيّ حسب ما أراها. اكتب بالاساس عما نفعل بهم، وليس كي نساعدهم ولا كي نساعد اي أحد آخر؛ بل من أجل أن نعرف..״ . فلنقبله بحجم صديق، هكذا كما هو، ولنترك رصيده الاخلاقي مفتوحًا على جهات الريح.
والرسالة الثانية:
كن، يا چدعون ، كما تريد، وابق حرًا، وتذكر أوجاع قلبك، ولا تخذل أنفاس الحقيقة التي باسمها كتبت وشمخت؛ وتذكر، كذلك، أطفالا ينامون خائفين أمام فوهات البنادق ويحلمون بأمثالك، رجالًا، يكتبون من اجل ان يمتلأ فجرهم بالزنابق .