البناء على تقرير أمنستي

نهاد أبو غوش | فلسطين

حظي تقرير منظمة العفو الدولية بما يستحق من إشادة من مختلف القوى والمؤسسات السياسية والحقوقية والإعلامية الفلسطينية والعربية، كما نال اهتماما واسعا على المستوى الدولي من قبل حكومات وهيئات ومنظمات عديدة. كل ذلك جيد جدا، بل ممتاز، ويمكن الاستفادة منه إلى أبعد الحدود شريطة الاتفاق على اتجاهات العمل المطلوبة للبناء على هذا التقرير التاريخي واستثماره، كي لا يَظُنَّن أحدٌ أن من الممكن للحقوق الفلسطينية أن تأتي لنا منقادةً من تلقاء نفسها، أو أن ضمير المجتمع الدولي سوف يستفيق فجأة، فيقدّم لنا حقوقَنا على طبقٍ من أمنياتنا وأحلامِنا.

وقبل الخوض في الشروط المطلوبة، يجدر بنا التوقّفُ عند أهم مميزات تقرير “الأمنستي” وتوقيت صدوره. أبرز هذه المميزات أن التقرير صادر عن منظمة دولية محايدة ومهنية، تضم في عضويتها مئات آلاف الناشطين، كما يؤيدها ويتضامن معها ملايين غيرهم. ولهذه المنظمة الدولية المهمة مكاتب رسمية في سبعين بلدا، لكن نشاطاتِها تغطّي جميع دول العالم، حتى أكثرها عزلة وانغلاقا.

ملخص التقرير يؤكد أن إسرائيل بنت على مدى العقود والسنوات الماضية نظاما مؤسسيا للقمع والهيمنة على مجموعة عرقية من السكان (الفلسطينيين) لصالح مجموعة عرقية أخرى (اليهود)، وهذا النظام يطبَّق بشكل شامل من خلال قوانين وسياسات وممارسات على جميع الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل منذ العام 1948. ويستند التقرير إلى دراسات عينية مُدقّقة ومُفصّلة ومُوثّقة، وليس إلى مجرد انطباعات ومواقف جاهزة، حيث تقوم الدراسات على التطبيق المعياري الصارم لما ورد في بروتوكول روما وفي الاتفاقية الدولية لمناهضة التمييز العنصري على جميع الحالات والمواقف التي درستها المنظمة بواسطة مختصين مهنيين ومحايدين، وهذه العملية استهلكت وقتا وجهودا كبيرة، ومن البديهي أن اية مؤسسة أو جهة مهنية حقوقية اخرى لو استخدمت نفس أدوات الفحص فإنها ستخلص إلى النتائج عينها، تماما مثلما يؤدي التشخيص الدقيق من قبل طبيب لحالة مريض إلى نفس النتائج التي يخلص لها طبيب مختص آخر.

ويسرد التقرير بالتفصيل مظاهر تطبيق نظام الفصل والتمييز العنصري في نحو خمسة عشر مجالا، وتنطبق على جميع الفلسطينيين في كل فلسطين بصرف النظر عن مكانتهم القانونية التي نشأت بعد النكبة والاحتلال وضم القدس، أي في كل من الضفة والقدس وقطاع غزة وفي الداخل المحتل عام 1948 وحتى فلسطينيي الشتات المحرومين من العودة إلى وطنهم وديارهم.

وينتهي التقرير بجملة من الخلاصات، هدفها تفكيك نظام الفصل العنصري، وإزالة كل عوامل الإجحاف والتمييز بما في ذلك مراجعة كل القوانين والسياسات الإسرائيلية، والتقرير لا يعفي المجتمع الدولي من مسؤولياته، ويتهمه صراحة بأنه غضّ الطرف عن جرائم إسرائيل، وشجّعها على التمادي في إجراءات الفصل العنصري، ويقترح اتخاذ جملة من العقوبات من بينها تفعيل الولاية القضائية العالمية على كل مرتكبي جرائم الفصل العنصري، ومحاسبة المتورطين في ارتكاب هذه الجرائم، والامتناع عن تقديم اي دعم عسكري أو لوجستي لدولة إسرائيل بما يشمل بيع الأسلحة والتدريبات وكل أشكال التعاون مع النظام العنصري الإسرائيلي.

يرتبط صدور هذا التقرير بالمدى الذي قطعته إسرائيل في بناء نظام الفصل العنصري في السنوات الأخيرة، وخصوصا بعد إقرار قانون القومية وسلسلة من القوانين العنصرية. كما وفرت الجهود والتقارير السابقة التي قدمتها منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والإسرائيلية أرضية ملائمة لتقرير الأمنستي ما جعله شاملا ومتكاملا بصورة تستحق التقدير.

كان رد الفعل الإسرائيلي متوقعا ، وقد عبّر عن حجم الضيق والارتباك الذي أحدثه مثل هذا التقرير، والتهم جاهزة دائما، فكل منظمات حقوق الإنسان في نظر إسرائيل هي جهات معادية ولا سامية وهي دائما موالية للفلسطينيين واليسار الدولي وكل من يمكن تصنيفه ضمن أعداء إسرائيل.

علينا ألا يكتفي بالترحيب والإشادة، فنحن لسنا إزاء موقف تضامني، أو “بيان” يستنكر الاعتداءات والسياسات الإسرائيلية فنطرب لسماعه، بل نحن أمام تقرير غير مسبوق ينبغي له أن يساعدنا على فتح جبهات جديدة للنضال من أجل الخلاص من الاحتلال وانتزاع الحرية والاستقلال، ويمكن لهذا التقرير أن يؤسس لمرحلة جديدة من النضال الوطني بأشكال نضال مبتكرة، تضاف لما هو قائم، وأن يساعدنا في توسيع الجبهة العالمية المناصرة لحقوقنا الوطنية.

الاستفادة من هذا التقرير تتطلب مواءمة أوضاعنا الداخلية بما يشمل جعل النضال ضد الفصل العنصري والابارتهايد محورا رئيسيا من محاور نضال عموم شعبنا في كل أماكن تواجده، وهذا الاتجاه كفيل بتعزيز وحدة جميع فئات وتجمعات الشعب الفلسطيني.

ويتطلب الأمر التكامل بين عمل الجهات الرسمية والشعبية في مواجهة الأبارتهايد، والتوثيق الفني والقانوني المحترف لكل أنواع الجرائم والانتهاكات، وتنشيط ممثلياتنا وسفاراتنا وجالياتنا في شرح قضية ممارسات التمييز العنصري لكل القوى والمؤسسات في العالم، واعتماد نظام للمواكبة والتحديث والإحاطة الدائمة بما يجري، كل ذلك يمهد لبناء تحالفات وشراكات واسعة تساعدنا في التصدي لجريمة الفصل العنصري، كما يتطلب الأمر تطوير خطابنا ومواءمته مع خطاب حقوق الإنسان العالمي وتخليص خطابنا من كل المؤثرات العنصرية وأشكال الجعجعة والتهديدات الفارغة التي لا تفيدنا في شيء بل يستفيد منها عدونا .

عند انضمام دولة فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية تشكلت لجنة وطنية موسعة من خمسين عضوا وبرئاسة المرحوم صائب عريقات لمتابعة ملف المحكمة، وكانت لها لجان فرعية: قانونية وإعلامية وثالثة للتواصل مع المجتمع المدني، لا أحد يعرف ما الذي وصلت له هذه اللجنة، وأخشى ما نخشاه أن يتم التعامل مع تقرير الأمنستي كما يجري التعامل مع الأخبار اليومية: تصفيق وإشادة وربما إشارة (لايك) على فيس بوك، ثم نمضي في متابعة شؤون حياتنا كالمعتاد، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى