إيفان الرهيب.. أول قياصرة روسيا، وقاتل ابنه

د. آية محمد الجندي | باحثة مصرية


عجوز بعينين جاحظتين تملؤهما الدموع، وعلى وجهه مشاعر مختلطة من الرعب والرهبة والفقد والندم والصدمة .. بكلتا يديه يحتضن شاب مُخضب بدمائه مُلقى على الأرض،يتشبث به وكأنه يمنعه من الرحيل، يتضح من شكل الغرفة أنها شهدت صراع منذ قليل، وعلى بُعد منهما نجد سلاح الجريمة “الصولجان”..
هكذا جسد الفنان الروسي الواقعي “إيليا ريبين” حزن ولوعة “إيفان الرهيب” وهو يحتضن ابنه وولي عهده “إيفان”، بعدما انقض عليه بصولجانه عقب مشادة كلامية بينهما.
واللوحة يعتقد أنه تم رسمها ما بين عاميّ 1883 و1885م .. فما القصة التاريخية وراء تلك اللوحة؟! ومن هو إيفان الرهيب أو إيفان الرابع؟!
ما بين عاميّ 1883 و1885 م جسد الفنان الروسي “إيليا ريبين” حادثة قتل قيصر روسيا الأول لابنه أثناء مشادة كلامية، وظهرت اللوحة واقعية بدرجة كبيرة، حتى أنها لا تفشل في إيصال مشاعر الندم والخوف والصدمة والفقدان مجتمعة في آن واحد، لتجعلك تندهش في كل مرة تراها فيها.
أصبح العرش لإيفان الرابع عقب وفاة والده فاسيلي إيفانوفيتش في سنة 1533م، وكان يبلغ من العمر ثلاث سنوات، بوصاية أمه هيلانة التي قامتحتى سنة 1537م بالتخلص من كل المطالبين المحتملين للعرش باعتقالهم، فخلقت لنفسها ولابنها الكثير من الأعداء؛ الأمر الذي قادها لحتفها في سنة 1537م عن طريق السم، وعقب ذلك ونظراً لصغر سن إيفان فقد تولى زمام الأمور مجلس من النبلاء لحين بلوغه سن يسمح له بالسيطرة على مقاليد الحكم.
ويعلق إيفان الرهيب على تلك الفترة قائلاً: “عندما ماتت أمنا هيلانة أصبحنا يتيمين في المعنى المطلق لهذه الكلمة، وعندما رأى رعايانا أن البلاد ليس لها سيد لم يفكروا إلا بإرضاء رغباتهم الشخصية، ولم يعودوا يتطلعون إلينا أبداً، وبما أنهم كانوا يتنافسون على اكتساب المغانم والثروات فإنهم كانوا على نزاع دائم فيما بينهم. فاستولوا على خزائن أمنا واستهتروا بما كانت تملكه من أشياء. أما بالنسبة لأخي يوري وبالنسبة لي أنا شخصياً فقد كانوا يعاملوننا كغرباء أو بالأحرى كشحاذين، كان ينقصنا الغذاء والكساء ولا يحترم أحد إرادتنا ولا يوجد من يؤمن لنا احتياجاتنا كأطفال…..”.
إن طفولة إيفان الرابع المضطربة أثرت بشكل كبير في تكوينه النفسي، فها هو في سن السابعة والجميع يبدون له الخوف والوقار، في حين أنه لم يعد يلتفت له أحد عقب مقتل والدته هيلانة وكأنه غير مرئي، فكانت النتيجة طفل في الثالثة عشر من عمره ذو طابع بارد ينتظر الفرصة للانتقام، واسترداد وضعه كحاكم للبلاد، وبالرغم من الصراعات والاضطرابات بين الأمراء، إلا أن إيفان الرابع نجح في استرداد وضعه كحاكم بشكل مبدئي في سنة 1544م، بعدما قضى على الأمير شويسكي الذي انفرد بمجريات الأمور في البلاد، وبعد ذلك بحوالي ثلاث سنوات أعلن إيفان نفسه قيصر على روسيا، وكان هذا اللفظ يستخدم للمرة الأولى هناك.
وقد تلقب إيفان الرابع بــ “الرهيب” لاشتهاره بالقسوة والعنف في التخلص من أعدائه والمتآمرين عليه، وكذلك لقسوته في قمع الثورات التي قامت ضده، وكذلك مسؤوليته عن العديد من المجازر، فوصل عدد من أمر بقتلهم خلال عهده أكثر من ثلاثة آلاف شخص من الرجال والنساء، أو على الأقل هذا عدد من تَذكر أسمائهم حينما أمر بأن تُقام لهم الصلوات في سنة 1583م.
أما بالنسبة للحادثة التي تتناولها اللوحة، ففي خريف عام 1581م، اشتعل النقاش بين القيصر إيفان الرهيب وبين ابنه وولي عهد إيفان، وقد تعددت الروايات في سبب تلك المشاداة؛ إلا أن الرواية التي يُعتقد بصحتها هي أن القيصر قد دخل في مشاداة مع زوجة ابنه بسبب ارتدائها لتنورتين بدلاً من ثلاث، واعتباره ذلك قلة احتشام منها، فنهرها وانهال عليها بالضرب بالرغم من كونها حامل آنذاك، فتدخل ابنه للدفاع عن زوجته، واتهم والده بأنه نغص حياته مع زوجتيه السابقتين، وأنه ينوي ذلك أيضاً مع زوجته الثالثة، ويُعتقد أن النقاش قد احتدم مرة أخرى في وقت لاحق من اليوم نفسه بين الأب والابن، حيث تسائل ولي العهد عن سبب رفض والده منحه الإذن بقيادة الجيش، حيث تشير المراجع إلى أن القيصر كان خائفاً من أن يقود ابنه الجيش وينتصر ويعود ليغتاله أو يجبره على التنازل عن العرش.
وأياً كان السبب، فقد غضب الوالد من ابنه وانهال عليه بصولجانه – تلك العصى ذات الرأس الحديدية التي طالما قتل بها العديد من الناس- حيث سدد له عدة ضربات على رأسه، فسقط ولي العهد ووقف القيصر أمامه مخبولاً مما فعل، وانحنى ليحمل ابنه بين يديه، صارخاً: “لقد قتلت ابني، لقد قتلت ابني!”.. حضر الأطباء لكن كانت جروح ولي العهد مميتة.
حيث توفي في 19 نوفمبر 1581م، وكان يبلغ من العمر آنذاك 27 عاماً، وأقيمت جنازته في 22 نوفمبر، ويُذكر أن إيفان الرهيب كان يقتلع شعر رأسه وينتحب على ولدهأثناء الجنازة ندماً على فعلته.
ولنا أن نتخيل من خلال اللوحة المشاعر المضطربة التي أصابت إيفان الرهيب، الذي عُرف بقسوته وعنفه طوال عهده، فشخصية كشخصيته تحتاج إلى تحليل نفسي ودراسة تاريخية مجتمعة معاً، فالتطورات النفسية التي تعرض لها خلال حياته وتأثيرها على قرارته أولى بالدراسة، فالنفس البشرية لا تخضع لقوانين، فلا يمكننا أبداً أن نتوقع ما بوسع النفس البشرية أن تفعله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى