بقلم: سهيل كيوان
عليه أن يفعلَ أمراً، إنه عيد ميلاد والده، في كل عام ينسى، ولكن هذه المرَّة فطن، ويجب أن يعمل شيئاً ما يؤكد له بأنّه يحبُّه، فهو الوالد الحنون الذي أمضى سني عمره في العمل الشاق، وعاش متقشّفاً ليوفّر لأسرته حياة كريمة، الرّحلة الوحيدة التي قام بها خارج فلسطين، كانت إلى العُمرة فقط وبعد تأجُّل مرات، كان أبناؤه يحثّونه على أن يسافر إلى مصر أو تركيا «شوف وجه ربّك»، ولكنه كان يردّ باختصار «إذا صار قسمة بروح». في ميلاده الخامس والسبعين أي هدية لا تفيه حقه. ليس والده فقط، هو أيضاً يحرم نفسه لأجل أبنائه، مثلما فعل والده معه ومع أخوته.
هكذا نشأت نكتة تقول: «الجدُّ يحرم نفسه لأجل إتاحة حياة كريمة لأبنائه، وأبناؤه يحرمون أنفسهم لأجل أبنائهم، والأحفاد يحرمون أنفسهم لأجل من سيأتي من بعدهم، وهكذا لا يستمتع أحدٌ في حياته».
-ادعهما إلى مطعم، اقترحت زوجته!
كون زوجته نطقت بالفكرة، سهّلت عليه الأمر كثيراً، كان قد فكّر في موضوع المطعم، لكنه تردّد، نعم سوف أدعوهما هو ووالدتي، ولكن ليس أي مطعم، لازم يكون «إشي إشي»، وسأدعو معنا شقيقتي آمال وزوجها، ستة أفراد، مهما يكلّف، إنها مرَّة واحدة في العام، فهل أبخل على من ضحّى بعمره لأجلنا؟ إنه جيل العظماء، هم الذين يستحقون التكريم ولا أحد غيرهم.
-يابا، كل عام وأنت بخير، اليوم عيدك، وأنا أدعوك أنت وأمّي إلى وجبة خارج البيت، يعني في مطعم على الخفيف، بعد العصر.
-وأنت بألف خير يابا، يخلّي لك أولادك، وحياتك لا تغلّب حالك، ما بدّي مطاعم ولا قهاوي، يكفيني أنّك عايدتني.
وقالت والدته: دخولك للبيت وشوفتك أحسن من كل المطاعم.
-لأ لأ خلص، أنا حجزت، الموضوع انتهى، من حقنا أن نفرح سوا يومْ في السنة.
-صدّقني يابا أنا هيك مبسوط، بالنسبة إلي، طبيخ أمّك أحسن وأطيب من أحسن مطعم في العالم.
-خليها ترتاح اليوم كمان، الهدف مش الأكل، القعدة الحلوة مع بعض، كمان دعيت أختي آمال وزوجها.
-هيك بزعلوا أخواتك الأخريات!
-لا لا، هن هيك متّفقات، بدون زعل.
-يابا منقعد في بيتنا، هيّانا قاعدين شو الفرق يعني!
-أنا حجزت وانتهى الموضوع.
-الله يسامحك على هالشُّغل.
وصلت السّيارتان أمام مطعم في كرمل حيفا، كان موقف السّيارات ممتلئاً، ولم يكن العثور على مكان سهلاً.
أخيراً دخلوا، فاستقبلهم أحد النادلين بابتسامة عريضة، ورحّب بهم كهل آخر في لباس رسمي، قد يكون مدير المطعم، وأشار إلى طاولات جاهزة.
المكان رائع، يطل على سفح الكرمل الأخضر من جهة طيرة حيفا، وعلى البحر الذي يبدو مرآةً للشعاع قبيل المغيب.
من حولهم عائلات وأزواج عرب ويهود، وآخرون ملتبَسون، لا تشي ملامحهم بأصولهم، حيفا بلد فيه تعايش، ممكن القول إنها الأقل عنصرية في البلاد. خلال دقائق اكتظت الطاولة بألوان كثيرة من السّلطات، بعضها غير واضح المحتوى، وكانت الشقيقة تتذوّق وتحاول تعريف مكونات بعضها لمن حولها ولوالديها اللذين بدوا مُحْرجين.
-هذا كثير، مين بدّو يأكل كل هذا!
هكذا هم في هذه المطاعم، ينزلون كل أنواع السّلطات لتلبية أذواق الجميع. اقترب النادل: تفضلوا، شو بتحبوا تتغدوا، أو تتعشوا! صار اسمه عشاء.
-هات نشوف، شو عندكم؟ سأل الابن والنّسيب.
-أنا شبعت خلص ما بقدر أكثر. قال الوالد.
وتبعته الوالدة-وأنا كمان ما بقدر أكثر، خلص الحمد لله، أنا شبعت!
-لأ لأ، ما بنفع، لازم تطلبوا.
-نحن شبعنا، اطلبوا أنتم لكم.
-لا لا، ما بِنفع، أصلاً نحن هون عشانكم، يلا لازم تطلب.
-يعني لازم؟
-آ لازم..
– طيب وجبة واحدة لي ولأمك تكفي.
-لا لا، كل واحد وجبة، ولو شو السيرة!
– نحن ما منقدر ناكل أكثر.
أصر الابن، واكتظت المائدة، وتناول من استطاع وجبته وتقاسموا بعضها، ثم تقدّم النادل بكعكة، وأخيراً قهوة وشراب أعشاب، وحانت اللحظة التي تقدم فيها النادل بعلبة خشبية صغيرة.
تمعَّن في الورقة، ثم أطرق لحظة، حاول نسيبه أن يسهم في الدفع، ولكنّه صدّه بحزم، ثم أخرج من جيبه الخلفي محفظته، وراح يعد الأوراق النقدية، عدها مرة ثانية، ثم دسّها في العلبة. ابتسم للنادل وشكره وهو يدنو ليأخذها. خرجوا بصمت، كأنَّ على رؤوسهم الطير إلى أن وصلوا السيارتين.
وقبل الانفصال تساءلت الأم- يعني قديش طلع الحساب؟
قال الابن-عادي، شو يعني قديش!
تدخلت الشقيقة الكبرى- ألف وخمسة، أنا عدّيتهن.
-يا ويلك من الله على هالشغل، شفتي هالعمل بحياة الله!
– كل عمره وهو يدفع، خلينا ندفع مرّة بالعمر.
قال الأب- لو عارف هيك ما إجيت، أولادك أحقّ بهذي المصاري، أكم يوم بدك تشتغل حتى تحصّلهن! الله يسامحك على هيك شغلة.
الله يعطيك الصحة يابا، وتظل فوق روسنا للمية وعشرين، ونظل ندفع. وصلت السيارة أمام البيت، وهبط الوالدان: على كل حال شكراً، تفرح من أولادك يما..
-تفرح من أولادك يابا.
دخلا إلى البيت.
وما إن استقرّا بعد دقائق حتى قالت-إنت الحقّ عليك، ليش تقبل هيك عزومة؟
-أنا لو عارف لوين ماخذنا، كان مستحيل أقبل، أنا قلت بديش أفشله، ولكن ما فكرت هيك، ألف وخمسميّة!
قبل جمعتين صلينا الجمعة في عكا في جامع الجزار، كنا أربعة، أنا وأبو شريف وأبو خليل وجودات، طلع كل الحساب مية وعشرين شيكل، وفوقه صحن أقراص فلافل وفلفل وسلطة، وخبز كأنه شغل البيت.
-فعلاً رزق الفقرا على المجانين..
-مين الفُقرا؟ ليش صاحب هذا المطعم فقير؟ قولي رزق الأغنياء على المجانين.
-أنا لما شفته بِعِد المصاري، قلت شو الله جابرُه، مقطوعة وصفته هالأكل يعني! ألف وخمسة، بطعمي الحارة فيهم.
مضى أسبوع ويبدو أن القصة لم تنته، يحاولون قلب الصفحة، ولكن فجأة يعلن أحد أبناء الأسرة «يعني هو قديش بربح بالشهر؟ الله يعينه بظهره عيلة، حدا عتبان عليه، الله يسامحه. ويقول المحتفى به- على كل حال شو نعمل، اللي صار صار، هو كل عمره متبَهور، وما بعرف مصلحته، وياريت وقفت على هاي. وتحكي الأم متعاطفة-الله يرضى عليه، من صغره واللقمة اللي بثِمّه مش إلو، إيدُه مفتوحة على الآخر، ومرتُه، طنجرة ولاقت غطاها.
-خلص يا مَرَة، طمّي هالسيرة، خليه مبسوط بحاله، والتوبة على اللي يعيدها.