اسمي “فلسطين”
بقلم/ د. فاطمة الزهراء جمال الدين
حلَّالصباح وهدأت أصوات الصواريخ والقنابل، ومنزلنا قائم على حاله، صلينا الفجر ووقفتْ أمي الحبيبة تُعد طعام الفطور يعلو وجهها ابتسامة صبوحة، كأن الموت لم يكن قرين أحلامنا ليلة البارحة، كلما سمعتُ صوت القنابل اشتدت أناملي على كفِّ أمي، واحتضنتُ عروستي القطنية. مرَّ وقت الفطور في هدوء لا يقطعه سوى تكبيرات وحوقلات تأتي من المنطقة المجاورة لمنزلنا تُعلن عن أعداد القتلى والإصابات. ساعدتُ أمي في رفع أطباق الطعام الفارغة، فترف وجود بقايا طعام أمر رحل برحيل أبي وجدي، بقيتُ أنا وأمي نحرس بيت الأجداد، نزود عنه دائمًا كلاب الحي الضالة. سألتني أمي:
ــ ماذا تريدين اليوم على الغداء؟
أجبتها بدلال:
ــ أريد خوخًا.. ضحكتْ وأعادتْ السؤال:
ــ ماذا تريدين على الغداء؟ ولا أقصد الحلو بعد الغداء.
أسرعتُ واحتضنتها وألقيت برأسي إلى الخلف باسمة، ثم ثبتُّ ذقني الصغيرة المدببة، الشبيهة بذقن أبي على صدرها وقلت:
ــ أريد خوخًا ….. أريد خوخًا …. فربتت على شعري وأخذت تملسه بيديها قائلة:
ــ حسنًا، حسنًا، سأجلب الخوخ، سأذهب إلى السوق لشرائه.
خلعت مريول المطبخ وارتدت عباءتها الفلفلية الباهتة وخرجت. مضى الوقت وشعرتُ بتأخر أمي، فقررت أن أخرج لاستقبالها، فجأة عاد دويِّ القصف مرة أخرى، ازداد قلقي وتوتري، خرجت من المنزل رغم تحذيرات أمي لي بعدم الخروج وقت القصف، لم أخطو سوى خطوتين ورأيت أمي قادمة من بعيد من عند المنعطف تهرول مسرعة وما إن لمحتني حتى حثت الخطى أكثر. وقفت بالقرب من المنزل لأنها أشارت إليَّ بيديها للتوقف، لم يكن يفصلني عنها سوى بضعة أقدام حتى دوى قصف آخر شديد القرب، شعرت بضفائري تتطاير وجسدي كأن إعصارًا يقتلعه من فوق الأرض، وفي نفس اللحظة رأيت أمي تسقط مضجرة بالدماء ويتساقط من يديها كيس ثمار الخوخ واحدة تلو الأخرى، كانت تنظر تجاهي وهي فزعة خائفة عليَّ.
شعرت بأيادٍ كثيرة تحملني، وأنا شبه فاقدة الوعي، كنت أشعر بشيء ساخن يتدفق من جبهتي لم أعرف ما هو حتى وصلت إلى المشفى؛ أصوات كثيرة ووجوه مشوشة غير واضحة المعالم تنظر إليَّ وتكلمني، ساعات مضت، ظللت بين أيديهم يقطبون جراحي ويستخرجون الشظايا من جسدي، لم أكن أستطيع الكلام، كنت أشعر كأن قبضة صلبة تمسك بحلقي، تمنعني عن الكلام، فجأة نهضت فزعة أنادي أمي…أمي أين أنت؟ لا أريد الخوخ، عودي.. ربت الطبيب بيده على كتفي ليهدّئ من روعي، دقائق مرت حتى علمت أنني في المشفى منذ عدة أيام، سألته عن أمي؟ فأطرق قليلًا، ثم نظر إليَّ نظرة حانية، وقال:
ــ أمك شهيدة في الجنة.
لم أتكلم، فقد وقفت كلماته لم تصل إلى سمعي، عدت وسألته مستعطفةً إياه:
ــ أين أمي؟
لم يجب، وبعد لحظة سألني:
ــ ما اسمك أولًا.
ــ اسمي “فلسطين”، سمتني أمي عند مولدي “فلسطين”، أين أمي؟! مسح على رأسي الملفوف بالعديد من الأربطة والشاش، وقال:
ــ هي هناك عند الخالق يا “فلسطين”.
بكيتُ بحرقة ، فنظر إليّ وقال: لا تقلقي بنيتي فإنك يا فلسطين بأعيننا.
هذه حكايتي وحكاية كل بيت فلسطيني، حكاية كل طفل وطفلة، إنها حكاية بلا نهاية.
” الامضاء فلسطين”