مقال

عبثُ الترقيم في سطر أزهري ضرير

إيمان علي محمد عبد الحافظ ¦ القاهرة

الحياة سطرٌ لا يعترف بمنهجية الترقيم؛ فالنقطة فيه صدمة، والصدمة حرةُ الوجود، تُداهم الفكرة متى ما يحلو لها، تُسقطها قبل أن تنتهي، وتضع لها حدًا لتفرض ذاتها هي وأخواتها، فيما يُبترُ من الكلمات معانٍ لا تعرف للخروج سبيلا، فتكتفي بالعيش على عرش الخيال تَفُكُّ الصدماتِ والصراعاتِ داخل مملكة الوَحدة.
الصدمة الأولى كفيلةٌ بأن تعيش أمد الدهر داخل النفس المرهفة بالوجود، هي حبرٌ دام على الورق سنين، فيصفر الورق ولا زالَ الحبرُ قاتم السواد يمتلك هيبة الحضور، تبلى الورقةُ ولا زال الحبر ملاصقًا لها، ثم ذابت فذاب معها، وبكت الأرض أنّى لها مواراة جسدٍ أُهلك بمداراة صدماته، حتى فاقها في القدرة على كمد الأشياء.
تأتي الفاصلةُ لتلتقطَ أنفاسك العليلة وتستعدَ لنقطة جديدة، وما أقلَ الفواصلَ في هذا السطر! تراك تسير حاملاً روحك الثَكلى في جسدك المتهالك، وتعجز أداة التعجب عن وصف حالةِ المشقة تارةً، والإرادة تارة أخرى، فيما تحتل أداة الاستفهام ألسنة الجاهلين بك وتشرع بالسؤال: كيف الحال؟ حين حال بينك وبينهم وحدةٌ أغنتك عن زيف المشاعر وتصنع الأقوال..
سطرٌ سار عليه ذاك الفتى بقدمين عاريتين يُغذى الشوك منهما، فإن كان يريد جوف زهرة الطموح فلابد من قطع ساقها أولًا، حياةُ فقرٍ قاسيةٍ عاشها يُجازى العالم فيها ببعضٍ من الزاد مطعمه أسى، ما بين العربية والدين زُرع ثغر العلوم، وزُرعت بجانبه الآفات، فيا ضعف من تولاه يُفسده بدل أن يُغذّي به فؤاده ورعاياه، ألا يكفيه ذاك الفتى صدمة الجهل التي سرقت يداها عينيه؟! فما ذنبه ليعيش كصخرةٍ توالت عليها الصدمات؟ حاشا لقسوةٍ أن تفني صخرةً وقفت في وجه السيول تُعلي راية الإرادة دون خوف.
ذاك هو الأزهري الضرير، وحيد غُلقت في وجهه الطرق واحتضنه العلم، ضمه لصدره كما تضم الأم رضيعها، حتى غرق فيه، أو بعبارة أدق أغرقته دموعُه التي سَكبها فيه، غُذي منه، وفهم بعضه، وبدأ يرد على شيوخه الذين هاجموه وطردوه، وأخذ يرتحل من حلقة إلى أخرى تاركًا خلفه حزنًا عميقًا ونقدًا طويلا، تراه يلتمس مسكنه القديم، يقص عليه ما قاساه من غربة مُضنية، ليجده منفى آخر حُفَ بالاستهزاء والخذلان، وما يلبث فيه حتى يعودَ لذلك الربع، وما احتواه من جد وهزل، يبكي بين أربعةِ جدرانٍ مكفهرة بالظلمة الموحشة، وأصوات الحشرات المقلقة، وأرقٌ على أرق، وتخبطاتُ العابرين في الطرق، ووحدةٌ قسمت ظهرة وأرجأته لسرقة ضحكةٍ مختلَسةٍ من سعادة أشخاصٍ آخرين، ثمن العلم غالٍ ثمنه النفوس والعقول وهو ما قدمه على طبقٍ من ذهب؛ لأنه هو لا غيرُه من احتواه قبل أن يحتويه أيُّ أحد، كان الحقيقة التي ليس بعدها شك حين حاك لمن حوله كلّ أثواب الشكوك والتوقعات.

ثمانيةُ سنينَ قضاها بحلوها ومرها ونقاطِها، نقاطِها التي حان الوقت كما قررت عزيمته تحديَها، حان الوقت ليضع طه حسين نقطةً حاسمة لكل تلك النقاط العابثة في سطره، نقطةٌ لا تأتي بعدها أخرى، نقطةُ التحولِ والرغبة في التغير لكل ما هو مفيد، فمتى نضع لأنفسنا نقطةً مشابهةً لها، وإن وضعنا حقًا، فكيف نحافظ عليها من بين كل المتغيرات العابثة في صدورنا وسطورنا ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى