مقال

جغرافية الأسى و الحب في رواية (الأسود يليق بك) للكاتبة أحلام مستغانمي

علي جبار عطية| رئيس تحرير جريدة أوروك

تنتمي رواية (الأسود يليق بك) للكاتبة الجزائرية (أحلام مستغانمي) إلى المدرسة الواقعية، وقد نسجت حكايتها من الواقع الجزائري المحتدم المليء بالصراع الوجودي لكنَّ العمود الفقري لهذه الرواية قصة حب بطلتها مغنية جزائرية شابة تُدعى (هالة الوافي) تولد من قلب المحنة فأمها سورية الجنسية قتل أبوها في مدينة (حماة) السورية جراء حركة مناهضة للسلطة قام بها تنظيم (الأخوان المسلمون) مطلع الثمانينيات، وقد قصد أبو هالة حلب وقتها، وتعرف إلى أمها الحزينة وتزوجها ليعود بها إلى الجزائر فتولد هالة وريثة الحزن. يستهوي الأب الغناء والعزف على آلة العود، أما ابنته هالة فتمارس التعليم في بدء مشوارها الحياتي لكنَّها تُفصل من المدرسة لإصرارها على الغناء الذي احترفته ليس حباً به، وإنَّما انتقام لاغتيال أبيها على يد الجماعات الإرهابية ثمَّ اغتيال أخيها الطبيب الذي سبق أن خُدع بشعارات الجماعات المتطرفة فالتحق بهم في الجبل، ولكنَّهم أرادوا أن يختبروا ولاءه فكلفوه باغتيال أبيه المغني، وحين يرفض إنجاز هذه المهمة القذرة يرسلون إليه مَنْ يقتله ! هكذا هو المنطق الأعوج لهذه الجماعات التي تكفّر الجميع، وتدعي انتماءها للإسلام، دين الرحمة، وهي أبعد ما تكون عن تعاليم الشريعة السمحاء ..تقول هالة الوافي : (كان يمكن للقتل أن يكون لأي سبب، ويمكن للقاتل أن يحمل أي وجه، فالكل يشك في الكل، وكل دم مستباح حتى دم الأقارب والجيران ، مادام القاتل على قناعه أنَّه يقتل بيد الله لا بيده ) ص١٥٣، وهكذا نفهم سر غنائها حين تقول : (وحده فاقد الحب جدير بأن يغنيه فالفن العظيم كالحب الكبير يتغذى من الحرمان ) ص٣٣. وهي إذ تحتفظ بآلة العود المثقوبة التي يتركها أبوها لها بعد اغتياله فلأنَّ آلة العزف تشكل لها رمزية عالية : تقول الكاتبة :(من الأرجح أن يكون أبوها قد احتمى بالعود أو أنَّ العود حاول أن يفديه ويرد عنه الرصاص فما استطاع بصدره الخشبي أن يتلقى عنه سوى رصاصة واحدة وذهبت اثنتان نحو رأس والدها فسقط متكئًا عليه) ص١٥٣.
وعلى خلاف هالة الوافي نجد المليونير اللبناني الخمسيني المقيم في البرازيل (طلال هاشم) يصطدم بزيف الشعارات الحزبية والانتهازيين في بلده فيترك الحياة الحزبية لينضمَّ إلى ما يسميه بحزب (الحياة) فيهاجر إلى البرازيل، ويشتغل في المطاعم عاملاً بسيطاً، ويكافح ليمتلك في ما بعد أشهر المطاعم فضلًا عن امتلاكه طاغوت الحب والمال، وقد اعتاد أن يصل إلى أي شيء يريده بكل الوسائل ثمَّ يكتفي منه، ويرفضه إلا قلب هالة الوافي العصي على الترويض فهي، وإنْ كانت تنساق في عاطفتها معه إلا إنَّها كـ(الأعمى يرى بأذنيه، ولا يحتاج عينيه إلّا للبكاء)؛ لذا ترفض طلال هاشم بكل شموخ في لحظة وعي بعد أن تستشعر أنانيته المفرطة وحبه للامتلاك، فهما على طرفي نقيض، وإنْ جمعها الرباط العاطفي مدًة من الزمن فـ(مَنْ يهدي ورداً يقدم انطباعاً عن نفسه) ،أو الهرب من الحياة إلى الأوهام فطلال هاشم يقول :(في العالم الثالث الذي جئنا منه الرومانسية تعني العشق مع التخلف .. أي الهروب من الحياة إلى الأوهام .. أنا يا عزيزتي أحب الحياة أما الرومانسيون فيحبون الأوهام ) ص١٦٤ وهو يؤكد (هذا زمن الصداقات العابرة.. لا يمكن أن تقيمي علاقة طويلة الأمد أو تراهني على أحد ) ص١٨٧.من المدهش توثيق الكاتبة لبعض جرائم شذاذ الآفاق، وقطاع الطرق المتلفعين بعباءة السماء فهم يرتكبون الفظائع باسم الدين ومنها ما تعرف بـ(مذبحة بن طلحة) التي نحر فيها الإرهابيون خمس مئة قروي فضلاً عن نبشهم قبور ثوار الجزائر وحرق جثثهم بدعوى أنهم تسببوا بصنع دولة علمانية !! وفي الرواية تفاصيل مروعة لأفعال هؤلاء المجرمين الذين لهم قوانينهم الخاصة فنجد أنَّ طالبًا عمره اثنا عشر عاماً يُطرد من المدرسة؛ لأنَّه كتب كلمة (أحبك ) على ورقة لإحدى الطالبات ! وهم يستبيحون الحرمات، ويعتدون على نساء منتسبي الشرطة والجيش، ولا ينجو مَنْ يخالفهم من أبشع صنوف التعذيب، ومن ذلك سلخ جلد المعتقل حتى الموت، ودفن السجين حياً ووطأه بالتراب، أما الحكومة فترى الكاتبة أنَّها تدلل الإرهابيين فتعطيهم عفواً ليتغولوا أكثر، ويعودوا إلى الجبل، وهم أشد قسوة وإجرامًا . ولا تنسى الكاتبة ما يجري في العالم العربي فجغرافية الحب عندها عابرة للمسافات وخاصة في العراق فتقول عن الفرقة السمفونية العراقية : (الأوركسترا الوطنية العراقية أطلقت عليها الصحافة اسم أشجع اوركسترا في العالم، تقيم حفلات سرية لا يرغب المنظمون في الإعلان عنها ، بل يفضلون أن يعلم بأمرها أقل عدد ممكن..تصور دمرت الصورايخ الأمريكية قاعة حفلاتها وخطف البعض من أفرادها وقتل آخرون لأسباب طائفية وفر نصف أعضائها للخارج، ومازال من بقوا على قيد الحياة يقطعون حواجز الخطف والموت ويصلون الى المسرح ببزاتهم السوداء حاملين آلاتهم في أيديهم ليعزفوا وسط دوي المتفجرات مقطوعات سمفونية لباخ وفيفا لدي كما لو كان كل شيء طبيعيًا، مشهد سريالي الفرقة والجمهور مرعوبون لكنهم يستعينون على خوفهم بالموسيقى) ص٧٤ و٧٥. ولأنها ذات نفس عزيزة لذا نراها ترفض أن تكون سلعة له لأنها تؤمن أنَّ المال ليس كل شيء فـ(المال لا يجلب السعادة لكن يسمح لنا أن نعيش تعاستنا برفاهية) ص٢٣٩ لذا تعلن الرفض قولًا وفعلًا لأن تكون مجرد فتاة تخفي تحت حدادها شهوة الحياة، ولم يكن ارتداؤها للسواد عابرًا بل هو منهج حياة تنظِّر له في لقاء تلفزيوني فتقول :(الحداد ليس في ما نرتديه بل في ما نراه، إنَّه يكمن في نظرتنا للأشياء). تحاول هالة أن تنتصر للمبادىء وتعلي من القيم الإنسانية على حساب قيم السوق، وقد نجحت الكاتبة في إيصال هذا المعنى عبر صفحات روايتها التي ناهزت الـ(٣٣٤) صفحة من القطع المتوسط، وهي تتبع منابع الإرهاب، ومغذياته وأساليب عمله، وفظائعه، ونظائره وهي متشابهة أينما حل !كما لا يخفى على القارىء أنَّ الكاتبة استفادت من الأماكن التي عاشت حياتها فيها، ومحطاتها الحياتية والصحفية والأدبية والأكاديمية المتنوعة، وقد صنفتها مجلة (آربيان بيزنس) في لائحة أكثر مئة شخصية مؤثرة في العالم العربي منذ سنة ٢٠٠٩.
وُلدت أحلام مستغانمي في تونس سنة ١٩٥٣ لأب مناضل، وبعد تسع سنوات انتقلت إلى الجزائر سنة ١٩٦٢ وأكملت دراستها الأكاديمية في كلية الآداب بجامعة الجزائر سنة ١٩٧١ ثمَّ هاجرت إلى باريس مطلع الثمانينيات، وتزوجت الصحفي اللبناني جورج الراسي ثمَّ أكملت دراستها العليا بجامعة السوربون فحصلت على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع سنة ١٩٨٥ وكان المشرف على أطروحتها المستشرق الفرنسي الشهير جاك بيرك (١٩١٠ ـ ١٩٩٥). مارست التدريس في جامعات مرموقة مثل الجامعة الأمريكية في بيروت، وعدة جامعات أمريكية مثل ميريلاند، وييل، و ميشيغان، فضلًا عن جامعات فرنسية مثل : السوربون، ومونبولييه وليون . بدأت طريقها الأدبي بالشعر فأصدرت مجموعتها الشعرية (على مرفأ الأيام)/١٩٧٢، وعادت للشعر سنة ١٩٩٣ بالمجموعة الشعرية (أكاذيب سمكة) ثمَّ الديوان الشعري (عليك اللهفة) /٢٠١٥. أصدرت روايتها الأولى (ذاكرة الجسد) عام ١٩٩٣ متناولة المقاومة الجزائرية للاحتلال، ومشكلات المجتمع الجزائري، وقد طبعت منها ٣٤ طبعة، وبيع منها أكثر من مليون نسخة ،وحولت سنة ٢٠١٠إلى مسلسل تلفزيوني أخرجه المخرج السوري نجدة إسماعيل إنزور، وجسده جمال سليمان، وأمل بوشوشة أتبعتها برواية (فوضى الحواس) /١٩٩٧ ثمَّ رواية (عابر سرير)/ ٢٠٠٣، و(نسيان com) و(قلوبهم معنا وقنابلهم علينا)/٢٠٠٣، وغيرها، لتصب فيها متبنياتها الفكرية، وأكبر قدر من آرائها ثمَّ فصلت ذلك في سيرتها الروائية التي صدرت سنة ٢٠٢٣ بعنوان (أصبحتُ أنت). ترجمت رواياتها للغات عدة منها الإيطالية والفرنسية والإنجليزية، وطُبع بعضها بطريقة برايل للمكفوفين بمبادرة من اليونسكو .
مع كل هذه الغزارة في الأفكار نجدها لا تتوانى عن أن تستشهد بكلمة للمخرج الفرنسي الشهير كلود لولوش: (لا نُراقص عملاقًا من دون أن يدوس على أقدامنا) !
*رواية (الأسود يليق بك) -للكاتبة أحلام مستغانمي-دار نوفل/ بيروت/ ٢٠١٢ م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى