التجذيرالفكري وصناعة التابع .. سلطة الثنائيات وتغييب العقل
نداء يونس | فلسطين
إن اختزال الأشياء إلى ثنائيات مثل حلال وحرام يؤدي إلى نسف مقولات النقد والتفكير النقدي وضرورة إخضاع القضايا إلى دراسة تخضع للمعيرة ضمن سياقات وإسقاطات وبحث، وينقل الفعل من فضاء العمل والفعل كما تقول حنا أرنت في نظرية الفعل كضرورات إنسانية إلى خانة التلقي أي الحرفة والعبودية من أجل البقاء الجمعي في إطار تجانس هوياتي على الموروث والخوف.
إنه يؤطر المتلقي في قوالب جاهزة واحد منها يمرر الفكرة وآخر يعمل على الإلغاء والإقصاء والتهميش، ويعمل على نسف أية محاولة للتفكير وتداول القيمة المعرفية والمنطقية لأي معطى، ما يخلق ويفسر بالضرورة حالة التلقي والتلقين على كافة المستويات، كما يعمل على توزيع سلطة الإلغاء الجاهزة المعايير والأحكام إلى يد العامة كدليل استخدام وحكم قيمي لا يخضع للنقاش.
لا ينحصر الأمر في إطار السلطات المهيمنة فقط، وهذا ما يخرج سلطة الخطاب من يد النخبة المهيمنة كما يقول فوكو إلى يد القطيع أو التابعين ويعطي لكل فرد مهما كان مستواه المعرفي أدوات الاعتراف أو التغييب في إطار محدد مسبقا ما يعني الحكم بالآنابة عن سلطة الخطاب، وبالتالي، تعدد أدوات تمرير الإقصاء وتعويمه كحالة مجتمعية سائلة تذهب بالمعرفة إلى أقصى حالات المواجهة مع الجاهز ما يعد رِدة للتميز الفردي ووضعه في حالة مواجهة مع لاثقافة القطيع والجهد النقدي مقابل الموروث.
إن منح الجاهل قوامة الفصل بين سياقين – والجهل هنا لا يعني عدم المعرفة بل الخوف من استخدامها ويعني بالضرورة إذًا تجنب التوظيف الفعلي لها خارج سياق الكتب ومحيط الجمجمة والاكتفاء بالاعتراض والرفض الفردي غير المعلن وتأطيره بممارسات باطنية وغير علنية في الفضاء الخاص تنسف المقدس والتعاليم وتمارس شيزوفرانيتها العلنية بإعلان الالتزام بالمقرر الاجتماعي والديني، إذ ربما يكون الجاهل هنا عميق التخصص او متعدده- ما يدفع بالمجتعات إلى السطحية واقتراف الحياة كممارسة تأليهية وراثية علنية تخص الآخرين فقط أي كما هي بعيدا عن تطويع المعرفة لخدمة السياقات نتيجة للجم العقل وتلجيمه وتخويف الآخرين تحت سلطة القبول أو الرفض المجتمعي لمجرد طرح الفكر وممارسات تحويل المفكر إلى تابع والمثقف إلى ظل للسياسي والفردي إلى هامش للجمعي والمنجز الإبداعي والنقدي إلى ترف أو كفر يتم محاكمته بأداوت القبيلة والجماعة الجاهزة في كاتلوج الثنائيات.
إن خلق الثنائيات في كل حقل تداولي هي وسائل لحكم الفضاء العام والخاص وهي وسائل سلطوية لم ننج من آثارها وعليه لا يمكن للعقل العربي وحتى الغربي – الذي يختلف في الأمر نسبيا فيما يرتكز إلى نفس الممارسة – لا السياسي ولا الديني ولا الاجتماعي التفكير بتلك المنطقة الرمادية التي يحدث فيها كل شي ويخضع فيها كل شيء للتجذير الفكري بحيث يصبح السياق أكثر تداولية وتعددية وليبرالية ليس بمفهومها الحداثوي فقط بل بمفهومها الفردي الذي يخرج العقل من صندوق الجاهز والمقولب إلى آفاق التجرؤ على التفكير على الأقل.
إن من أبسط الشروط الوجودية استخدام العقل، لكن العقل العربي والغربي يتم تسييره بهذه الثنائيات لخلق حالة إقصاء وخوف تحكم السلوك العام وربما تلقي مدرسة فرانكفورت الضوء على جزء من حالة توجيه السلوك بالخوف والتأطير بشكل يقعِّد الفكرة المتعلقة بالتوجيه وسلوك القطيع بالاعتياد وتغييب التفكير وتداول الحدث كشيء غير قابل للنقاش.
ينحصر الفرد بين خيارين: شرقي وغربي، إرهابي وديموقراطي. مسلم وكافر، غني وفقير، محجبة وسافرة، حزبي وخارج الحزب، إلخ، فأي حرية يمكن الحديث عنها إذا كانت سكة المحراث واحدة وكيف نفسر إذن ميل العقل العربي للراحة والاتكاء والغييبة والاستسلام والقدرية؟