عرايس الخبيز وأصداء الحلم
شذى يحيى | ناقدة تشكيلية
“إن هدف الفن لم يكن أبداً إعادة تمثيل الواقع بل إنتاج واقع آخر مغاير على نفس درجة التركيز “ألبرتو جياكومتي
في معرضها عرائس الخبيز تستوحي سماء يحيى هذه المقولة وتستلهمها لتصنع أعمالاً نحتية تمثل ذلك العالم الموازي الذي استوحته من واحد من أهم وأقدم الطقوس في تاريخ البشرية ألا وهو طقس صناعة الخبز مستخدمة خامة نحتية تقليدية نبيلة هي البرونز في إنتاج منحوتات مبتكرة.
إضافة لعمل تركيبي يتضمن أدوات الخبيز البلدي اليومية في البيوت الريفية مثل مواجير العجين الفخارية ،والقش ،وحطب القطن ،مقاطف الغلال ،مشنات حفظ العيش ،تراب الفرن في صناعة تشكيلات جمعت ما بين براءة وسذاجة وطزاجة خيالات الطفولة وحرفية الفنانة تبدو للوهلة الأولى وكأنها تلعب بالأشكال بلا قيود أو حسابات رغم إلتزامها التام بحرفية أدواتها خالقة عالم موازي بعيد تماماً عن الصرحية الجليلة المعتادة والمتوقعة في النحت الكلاسيكي.
واقع يكاد المتلقي يتحسس فيه في طيات وتجعيدات جسد التمثال ثنيات وانحناءات عجين خبزلم ينضج وآخر تنضجه الشمس الحارة والنار الملتهبة ورفعته الخمائر ،بهذا الإحساس تمزج بين حاستي اللمس والبصر خالقة حالة من المتعة الفنية الممتزجة بالدهشة ،هذا الملمس البصري ومخيلة الطفل العابث الحالم بأن قطعة العجين هي أداته لاستكشاف المستقبل وتغيير العالم حالة تتفوق على أي قاعدة جمالية هي لحظة خلق حرة بقدر حرية الطفل في التشكيل سعادة بعيدة من زمن كانت الخيالات حرة لدرجة رؤية سحرية الموجودات وتخيلها مخلوقات حية لها تاريخ ماضي ومستقبل ولها قيمة عزيزة حتى لو كانت في واقعنا مجرد قطع من الخردة.
سماء بمنحوتاتها تستعيد الحقيقة الأزلية يعيش الإنسان بالفن والخبز والحرية ربما كان هذا هو سر تسمية أجدادنا الأقربين الخبز بالعيش ووصفهم لسعيهم في الحياة بالجري وراء لقمة العيش ،العيش الذي يصاحبنا في الفرح والعيد كعك وفي الربيع فطير وفي الحزن قرص ،منذ رأى أجدادنا الأوائل سنابل القمح والشعير تنبت من صدر أوزوريس ورأوا إيزيس الخبازة الأزلية تحولها إلى أقراص خبز ارتبط العيش بمشاعرهم واحلامهم كالحبل السري يغذيها ويرعاها، فالعلاقة بين الخبز والحياة في نظر المصريين هي دائرة متكاملة ومازالت حفيدات إيزيس يحمين الفرن ويلتتن العجين في الماجور ليصنعوا منه أقراص الشمس ويعطين ما يتبقى من النعمة للأطفال ليصيغوا به عرائس البهجة ويأكلوها وكأنهم بهذا يتغذون على الحلم المحشو بالسكر.
حرصت الفنانة على الحفاظ على بدائية هذا الحلم بدءا من اختيارها لتقنيات التنفيذ بالسبك بالرمل للحفاظ على كل ملمس وبصمة وتجعيدة وثنية وإنتهاء بالتلوين الذي استوحى عوادي الزمن والقدم مع اختيار استعمال تقنيات الجنزرة والصدأ بلون يشبه الأزرق الفرعوني أو ذلك الأزرق المخضر أحياناً والمائل للأصفر المحمر الذي تلون به الحوائط الجيرية في منازل الطين العتيقة في أرياف مصر ،مسحة الأخضر هذه تعطي إحساس بمرور عوادي الزمن ،بكل جرأة خرجت من عوالم النحت التقليدي بمعالجات مبتكرة للعلاقة بين الكتلة والفراغ لتخرج لعوالم أصدائها أكثر رحابة تشبه إلى حد كبير عوالم الفن البكر الأولى الذي كان الإنسان يصنعه ليرضي رغبته في الشعور بالجمال ويحمي نفسه من المجهول ويخلد ذكره في هذا المجهول قبل أن يصبح الفن وسيلة للتعبير عن المجد أو العظمة والنصر وطريق للربح والشهرة .
هذه الأصداء الكثيرة التي خلقت عالم عرائس الخبيز ربما كانت أكثر قوة ووقعاً من صوت عالمنا الحالي الذي أوشك فيه طقس الخبيز أن يندثر كما أوشكت فيه براءة الفن المبهج على الإندثار تحت ضغط الاستهلاك والذوق التجاري وبراعة الآلة التي كادت أن تقضي على مخيلة الإنسان ، فعرائس الخبيزالتي تبدو فطرية ومظهرها أقرب للبدائية هي بمثابة عودة إلى أصل الجمال بعيداً عن التصنع.