عندما دخلت المدرسة للمرّة الأولى
جميل السلحوت | أديب مقدسي
لوحة مدرسة في الصعيد.
إلى المدرسة
في تلك المرحلة كانت مدرسة السّواحرة الغربيّة الابتدائيّة للبنين تتكوّن من غرفتين مقامتين على أرض تملكها الأوقاف الاسلاميّة، وتستأجر أربع غرف مقامة بجانب بعضها البعض يملكها المرحوم الحاج عطيّة حسن عبده، الذي تبرّع بماء بئره الواقع بجانب المدرسة؛ ليشرب منه الطلاب، كما استأجروا غرفة أخرى من المرحوم حسين قاسم أبو دهيم، جرى هدمها وبناء بيت مكانها في ثمانينات القرن العشرين، في تلك الغرفة كان يدرس طلاب الصّفّ الأوّل الابتدائيّ، خرجت من مستشفى العيون مع افتتاح العام الدّراسيّ 1955-1956، لم أجد أطفالا ألعب معهم، فكنت أذهب مع أخي المرحوم طه، الذي كان راسبا في الصّفّ الأوّل، يدخل تلاميذ الصّف إلى الفصل، وأبقى أنا على النّافذة التي عليها شباك حماية حديديّة، لم يقبلوني في المدرسة؛ لأنّني لم أبلغ السّابعة حسب القانون وقتذاك.
المعلّم يدرّس التّلاميذ كلمات عربيّة حروفها غير متشابكة حسب كتاب “القراءة” لمؤلّفه المربّي خليل السّكاكيني مثل “راس- روس، دار- دور” ويركّز على الحروف ليتعلّموها، فحفظوا الحروف والكلمات من كثرة التّكرار، عندما كان المعلّم يقدّم حرفا أو يؤخّر حرفا آخر يلتبس الأمر عليهم ولا يعرفون الحروف، بينما كنت أجيب على أسئلته دون استئذان من خارج الشّبّاك، كان يطردني، ويخرج من الصّفّ محاولا الامساك بي، لكنّني كنت أهرب، حتّى يعود إلى الصّفّ، فأعود إلى مكاني عند الشّبّاك، وذات يوم عكس حروف الكلمات ليسأل عن الحروف، فأجبته بكلمات صحيحة حيث أجبت:” سار، سور، راد رَوَد” فانتبه لي وابتسم وهو يشتمني. وفي اليوم التّالي وكانت بداية شهر تشرين الثّاني –نوفمبر- علّم التّلاميذ جدول الضّرب للعدد “2” وطلب منهم أن يحفظوه، وفي اليوم التّالي جاء أغلبيّتهم وقد حفظوه بالتّرتيب، فسأل:
2×7 ولم يعرف الإجابة أيّ طالب، فأجبت أنا 14، وعاد فانتبه لي وسألني:
2×11 فأجبته 22، وواصل سؤاله لي: 2×15 فأجبته 30، وسأل مرّة ثالثة 2×50 فأجبته 100، فابتسم وشتم من خلفوني وهو يقول” الله يجعلك مية قطمة انت وللي خلفوك”، في حينها تعلم التّلاميذ 2×10، وما بينهما.
كان الجوّ عاصفا وباردا، يتساقط رذاذ المطر، أشفق المعلّم عليّ، وأخبر مدير المدرسة المرحوم محمد خليل حمادة من قرية صورباهر المجاورة، فقال له:
أدخله إلى الصّفّ مع التّلاميذ، فإن نجح سنسجّله في نهاية العام الدّراسيّ، وهنا تدخّل جارنا المعلم المرحوم محمّد حسين جوهر وقال للمدير وللمعلّم:
هذا الطفل الأذكى في حارتنا، وبالتّأكيد سينجح .
عندما سمح لي المدير أن أدخل إلى الصّف، طرت فرحا، لم تعد الدّنيا تتّسع لي، دخلت الصّفّ مختالا كالطّاؤوس، لأكون التّلميذ رقم 63 في غرفة صفّيّة لا تصل مساحتها 25 مترا مربّعا، والمقاعد الخشبيّة كانت متراصّة لا ممرّات بينها، في حين المقاعد الأولى منها كانت ملتصقة باللّوح، بينما توجد مساحة لا تزيد عن متر يقف فيها المعلّم. لم يكن لي مكان للجلوس، أمضيت عامي الدّراسيّ واقفا، مستندا على جدار الغرفة، بجانب أخي وعلى يساري شبّاك، وعندما يطلب المعلّم منّا كتابة شيء، كنت أضع دفتري على عتبة الشّبّاك وأكتب، وبتعليمات من المعلّم أصبحت شريكا لأخي في كتاب القراءة الذي استلمه من المدرسة، وعليه أن يعيده لها في نهاية العام الدّراسيّ؛ ليتسلّمه غيره في بداية العام الدّراسيّ القادم! كانت تحصل مشاجرات كثيرة يوميّا بين التّلاميذ بسبب الازدحام، فكلّما التطم طالب بآخر بشكل عفوي، يردّ عليه الثّاني بصفعة، وهكذا، دون أن يستطيع المعلّم فكّ المتخاصمين لأنّه لا يستطيع الوصول إليهم.
المعلّمون يحمل كلّ واحد منهم عصا بيده، يضرب بها التّلاميذ بسبب ودون سبب، معلّم الصّف الأوّل الابتدائيّ موسى الحسيني –رحمه الله- كان رجلا مسنّا أشيب، يضع حطّة وعقالا على رأسه، يحمل في يده عصا لا يزيد طولها عن 30 سم، كان حريصا جدّا على تعليم التّلاميذ، ومن يرتكب منهم مخالفة يُعاقب بالضّرب بنعومة على راحة يده، وكأنّي بذلك المعلّم يؤمن بضرورة التّأديب لكن دون عنف. في حين كان معلّمون آخرون يضربون التّلاميذ بقسوة ودون رحمة وبطرق عجيبة، أذكر أنّ معلم اللغة العربيّة للصّفّ الرّابع قد علّمنا ضمائر الرّفع المنفصلة، وكتبناها في دفاترنا، وفي اليوم التّالي سأل: من حفظها منكم ومتأكّد أنّه لن يخطئ يبقى مكانه، ومن لم يحفظها ليخرج كي يتلقّى أربع عصيّ على راحتي يديه، ومن بقي مكانه وثبت أنّه يخطئ بها سيجلد ثماني عصيّ، فخرج تلاميذ الصّفّ جميعهم، ضربنا وسط شتائم مقذعة، وعندما عدنا إلى مقاعدنا، طلب من البعض وكنت أوّل من طلب منه أن أسمّعها، فذكرتها جميعها دون أيّ خطأ، فسألني غاضبا:
لماذ لم تبق في مقعدك وخرجت للضّرب ما دمت حافظا لها؟
فأجبته: خوفا من العقاب المضاعف.
فزمجر الرّجل غضبا، وضربني ضربتين أخرتين؛ لأنّني لا أعرف أنّي أعرف! وهذا ما فعله مع عدد آخر من التّلاميذ!
لم يكن الضّرب مقصورا على راحتي اليدين فقط، فقد كان بعض المعلّمين يجلدون التّلاميذ “فلقة” على باطن قدميهم، أو يجلدونهم على قفاهم!
في الصّفّ لم أعد أرفع إصبعي عندما يسأل المعلّم، ولم أعد أجيب على أيّ سؤال إلا إذا طلب المعلّم ذلك منّي بالاسم.
لم يكن للمدرسة حمّامات، وكان الطّلاب يقضون حاجاتهم كيفما تيسّر في المنحدر الواقع جنوب المدرسة، حيث لم تكن مأهولة تلك المنطقة، وفي الواقع فإنّ الغالبيّة العظمى من بيوت القرية كانت بدون حمّامات، وعدد قليل جدّا منها كان له مرحاض خارجيّ.
كان في المدرسة “قِدْر” معدنيّ كبير جدّا، يغلون فيه يوميّا حليبا مجفّفا يأتي بشوالات كبيرة (كانت التّسمية الدّارجة لذلك الحليب هي “حليب اللاجئين”؛ لأنّ وكالة غوث اللاجئين كانت توزّعه على أبناء المخيّمات، وقرى الخطوط الأماميّة)، ودفع كلّ تلميذ نصف قرش ثمنا لكوب بلاستيكي، يعلّقه في حزامه؛ ليشرب فيه عندما يعطش، من خزّان له صنبور نصبوه على حجارة بجانب بئر الماء، وليجبر على احتساء كوب حليب مغليّ في ذلك الكوب، بعد محاضرات مكثّفة من المدير والمعلّمين عن أهمّيّة ذلك الحليب لدواع صحّيّة، ولأنّ الغالبيّة العظمي من أهالي التّلاميذ كانوا يقتنون الأغنام، ويشربون من ألبانها، فقد كانوا يتقزّزون من ذلك الحليب ويهربون من تناوله، ممّا دفع إدارة المدرسة إلى غلي كمّية قليلة من الحليب في طنجرة عاديّة، توضع أمام غرفة المعلّمين؛ كي يملأ أيّ طالب كوبه منها إن أراد ذلك.
في تلك الفترة كان غالبيّة التّلاميذ يصابون بالقرع بسبب الأوساخ وانعدام النّظافة، فتتقرّح رؤوسهم المحلوقة بالشّفرة، وتنتقل العدوى من تلميذ لآخر، كما كانوا يفرضون على التّلاميذ حلق شعر رؤوسهم على الصّفر، لدواعي النّظافة، كي لا يكون الشَّعر مأوى للقمل والبراغيث.
كان لباس المدرسة موحّدا، وهو عبارة عن بنطال وقميص “كاكي” ذي اللون التّرابي.
وعلى كلّ تلميذ أن يحمل في جيبه “محرمة قماش” عليه أن يحملها بيده، ضاغطا عليها بإبهامه، ويقلب يده لينظر مربّي الصّفّ إن كانت أظافره طويلة أم لا، في الصّباح عندما يقرع الجرس إيذانا ببدء الدّوام. علما أن قصّ الأظافر كان بواسطة سكّين” شفرة الحلاقة” بعد أن تستهلك في حلاقة ذقن ربّ الأسرة.
قبل الدّخول إلى الصّفوف، ينشد الطّلاب بشكل جماعي أثناء الاصطفاف الصّباحيّ:
“دمتَ يـا شـبلَ الحسين
قـائـدَ الجيـش الأبـيّ
وارثــا للنّهضـتين
مجـدُ عـزٍ يعـرُبـيّ”
بين الصّندل والوطا
عندما دخلت الصّفّ الدّراسيّ الأوّل، اشتروا لي صندلا نعله “كاوتشوك” الذي يستعمل في إطارات السّيارات، واشتروا لأختي مريم التي تصغرني ببضعة أشهر “وطا”، فطمعت بنعل أختي ورفضت الصّندل، فوعدوني بأن يشتروا لي “وطا” مثله في اليوم التّالي، لكنّني رفضت ذلك بشدّة، وبقيت أبكي وأصرخ، ممّا اضطرهم لإعطائي”وطا” أختي مريم الذي كان أصغر من مقاس قدميّ، فحشوت قدميّ فيه، وأخذت أطارد بسعادة غامرة لأكثر من ساعة، عدت إلى البيت منهكا وقد تجلّط ظاهر أصابع قدميّ، خصوصا الإبهام في كلّ قدم، إضافة إلى مؤخّرة القدمين، فنمت محموما، لأستيقظ صباحا وقد تورّمت أصابع قدميّ، أمضيت شتاء ذلك العام حافي القدمين؛ لأنّني لم أعد قادرا على انتعال الصّندل بسبب تقرّحات قدميّ، وكان المرحوم الأستاذ داود عوّاد “الهايب” من أبوديس يشفق عليّ، ويطهّر لي التّقرّحات باليود، ويضع لي ضمّادة لا تلبث أن تسقط أثناء اللعب.
الحقائب المدرسيّة
كانت حقائبنا المدرسيّة عبارة عن خريطة من قماش “المالطي” رخيص الثّمن، أو من خريطة الطّحين الأمريكي، تخيط أمّهاتنا الخريطة على شكل مستطيل 30×25 سنتيمتر تقريبا، وفي طرفيها العلويّين “دكّة”، غالبا ما تكون دكّة سروال مهترئ للوالد، كي يعلّق التّلميذ حقيبته على كتفه، وعندما كانت الحقيبة تُمزع من أحد جوانبها، كانت الأمّ ترقعها بقطعة قماش.
أوّل حقيبة اشتروها لي عندما دخلت الصّفّ الاعداديّ الأوّل، وكانت من البلاستيك المقوّى والليّن.