أدب

اللُغة والصورة فى نصوص الليبية ” ريناس إنجيم “

حامد حبيب | ناقد مصريرابطةُ المُثقّفين الأفارقة

 الأدب الِّنسويّ العربى تقديراً وليس تجنيساً

أيا رجلٌ..

يُتقنُ تفكيكَ أحاجى الشمس

وشفراتِ الضّوء

يعرفُ دهاليزَ القصائدَ ..

وحُلمَ الغاباتِ..

وخفايا المطر

يروى الغيومَ بَريقُه

ويُشبعُ رغبةَ الآهاتِ برجولتِه

يمتطى صهوة َ العُمر ..

ويصنعُ محطّاتِ ياسَمين..

كى نلتقى..

على كفِّ قصيدةٍ بِكْر

أما لهذا الصَّخَب الباذخ من حدود !!

أن تشعُرَ أنَّ لِلُّغةِ بريقَها..أن تتذوَّق للكلمةِ معانٍ مُتعدّدة..أن تتملّكَكَ دهشةُ الإنقلاب فى الصورةِ الشعرية…أن تمُرَّ بعبارةٍ شعريّةٍ غير تقليدية..فذاك خلقٌ شِعرىٌّ جديدٌ، يكشفُ عن مهارةٍ مُتفرّدة فى عالمِ الكتابةِ الشعريّة، لأنّ الشِّعر نَسَقٌ لُغوى ينتمى إلى أعمق مظاهر الحياة..وهو طموحٌ بالغُ الجمال لِكَسر الطَّوقِ عن محدوديّةِ الوجود..والسلطانُ فيه للكلمةِ وماتحمِلهُ من شُحنات جديدة وماتوحى به معانٍ متعدّدة…كما يجب أن يكونَ ولاءُ الشِّعر لِلُّغةِ التى ورِثها ، مُهمّته أن يحافظَ عليها ويُنمّيها بابتداع أسلوبه الخاص، وأن يكونَ سيِّدَ ماابتدعه وخادمَه فى الوقت ذاته.

من الطبيعى أن يظمأ الإنسانُ أو الحيوان أوالطائر فيلجأ للنهر ليروى ظمأَه، لكن ليس من الطبيعى أن يظمأ النهرُ ذاتُه ، وهو الماءُ ذاتُه…كيف يظمأُ النهر؟! يظمأُ لعلاقةٍ حانيةٍ بينه وبين الذين هجروه ولم يوفوه قدره..ظمأٌ معنوىٌّ ،هذا هو المُراد.

الطبيعى..أنَّ الغريقَ يتعلّقَ بِقَشٌة، لكن النهرَ هو الذى يتعلّقُ بالقشَّة!..تلك هى الصورةُ المعكوسة،التى ما أتَت إلّا بتنبيهٍ شديدِ اللَّهجة ،فى سياق شعرى هادئ، برغم شذوذ الصورة عن المألوف، وكأنها دعوةٌ للعقلِ أن يُفكّر..يتأمّل فيما آلَت إليه حياتنا من حيث أشكال العلاقة ،ظاهرها وباطنها..تلك الصورةُ المعكوسة تكشفُ السِّتارَ عن حقيقةِ حياتِنا المعكوسة أيضاً…هو التوازى بين المكتوب والواقعى، فحياتُنا لم تعُد هى الحياةُ التى نبغيها، ولكن كل شئٍ أصبح فى صورتِهِ المقلوبة..إنها تركيبةٌ لُغويّة عميقةٌ، جاءت على غيرِ المُعتاد ،تثيرُ الدهشةَ، وما غرضُ الإدهاشِ إلّا التنبيه:

إنَّ الغاباتِ تحترقُ عندما لانُشبعها غزلاً

وأنّ الأنهارَ تجِفُّ عندما تظماً

والبحرُ هو مَن يتعلّقُ بالقَشّةِ عندما

تُنتَهَكُ شواطئُه

وأنا أجهِضُ كُلَّ قصائدى..

عندما يرتطمُ بى حُلمى

صُوَرٌ غيرُ مألوفة..معكوسة..تُعَرّى حياتَنا التى خرجت عن المألوف، واختلفت ملامحُها وصارت فى اتّجاهٍ مُعاكِس.تلك المجازات والاستعارات التى استُخدِمَت كوسيلةٍ للتعبيرِ عن المُراد ، فى العلاقة مابين(الغابات والغزل الأنهارُ تظمأ..وغيرها) هى توجيهٍ عقلى ووجدانى لإثراء العلاقة بين الإنسان والطبيعة،وتشبيه الطبيعة بإنسانٍ يحتاجُ للحُنوِّ ،لأن الطبيعةَ مصدرُ الجمالِ والإلهام ،فكيف يكون بينك وبين مصدر الجمال والإلهامِ قطيعة وجفوةٍ فى التعامُل وغِلظةٍ فى التعامُل، فيجب أن تسمو العلاقة لحالاتِ عشق. أن تجعلَ لِلياسَمين توقيت، تثمينٌ لقيمةِ اللُغةِ فى جلالِ الصياغةِ والتركيب البلاغى والبُعد المعنوي :

بتوقيتٓ الياسَمين ..

أجمعُ فُتاتَ حظِّىَ العاثِر

وأُطعمُه لِعصافيرَ سنينى التى مضَت

وأبدأُ معكَ عُمراً يليقُ بِسنابِلَ القمح

التى زرعتها على شفاهى

كلّما ابتسَمت…

أطعمتَ فقيراً

وآويتَ مُشَرّداً

عندما تكون على بدايةِ طريق السعادة التى تحلم بها، فبدلاً من الاستمتاعِ بِشذا الياسمين ، بالحياةِ فى روعتِها، تصطدم بالحظ العاثِر.(مابين الياسمين والحظ العاثر ، حكايةٌ تجمعُنا)..نقولها فى عامّيّتِنا: طجَت الحزينة تفرح ملقيتلهاش مَترَح”. كم هو الشِعر فى أكذوبتٓه بارعُ التأثير، مُدهِشٌ حين يُبالغ، لكنّه أصداءُ النّفس لامَحالة ، إذا صدقت الحالة. حين تجعلُ مِن الابتسامة إطعامٌ وإيواء”:كلما ابتسمتَ..أطعمتَ فقيراً..وآويتَ مُشَرَّداً” وكأنّ الابتسامةَ التى تُترجم بعض معانى السعادة، لها فِعلُ السِّحر على الفقيرِ المحتاج، والمُشرَّد الباحث عن إيواء.

يمتطى صهوةَ العُمر

ويصنع محطّاتِ ياسَمين

كى نلتقى..

على كفِّ قصيدةٍ بِكر

هذا الاختراقُ الُّلغوى فى سماواتِ الخيال والإبداع ، صنعَ صوراً أخّاذةً تستحوِذ على اهتمام وتأمُّل القارئ” صهوةُ العُمر/محطّات ياسمين/كفّ قصيدةٍ بِكر” مفردات اللُّغةِ فى مخازنها، فى معاجمها وقواميسها ، لِمَن يشاء..ليست تلك هى القضية، ولكن كيفَ تنظمُ منها عِقداً فريداً..كيفَ تصنعُ منها كُلِّيّةِ الصورةِ المُدهشة ،ثريّةِ المعنى..أن تصنعَ فنَّاً على غير مثال. وأختمُ لها بتلك السطور:

دَعكَ من كل مايحدُث

فى هذا الوطن المنكوب

وتعالَ عانِقنى

ف..بداخلى وطنٌ

مِن شدّةِ حُزنه …تشقَّق

تعالَ….

نختصِرُ ألمَ الوطن..

بينَ قَوسَىْ قُبلة

قصائدَ عديدة كانت تحتاج أن نتناولها…فتلك شاعرةٌ تحتاجُ مزيداً من الاهتمام، لكنّنا بقدر المُستطاعِ أشَرنا إلى روعةِ إبداعها، ومساهمتها الثريٍة، وإضافتها للمكتبة الأدبية العربية والأفريقية

تحياتُنا لها ..مع دوام التوفيق والمزيد من الإبداع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى